Jun 23, 2025
نزع الطابع التجاري عن الماء: مرافعة من أجل عدالة مائية في المغرب - سناء مسلم

نزع الطابع التجاري عن الماء: مرافعة من أجل عدالة مائية في المغرب - سناء مسلم


في ظل التحديات البيئية والمناخية المتفاقمة تبرز أزمة الماء في المغرب كأحد أبرز الرهانات التي تتقاطع فيها أبعاد بيئية، واجتماعية وتنموية. وبين توالي سنوات الجفاف، وتراجع جودة المياه، واعتماد أنماط استغلال واستهلاك غير مستدامة، بالإضافة إلى الهدر والخسائر المتكررة، تشهد الموارد المائية المتاحة تراجعًا مقلقًا. وفي هذا السياق، ومع تصاعد الخيارات التقنية والاقتصادية كتحلية مياه البحر وتوسيع الزراعات الموجهة للتصدير، يُطرح بإلحاح تساؤل أساسي: هل لا يزال الماء يُنظر إليه كحق إنساني غير قابل للتصرف، أم أضحى يُدار باعتباره موردًا نادرًا تُخضعه آليات السوق لمنطق الربحية والكلفة؟


طرح هذا السؤال لا يعني التقليل من أهمية الجهود المبذولة في مجال تعبئة الموارد المائية أو الاستثمارات المرتبطة بالتكيف، بل يعكس الحاجة إلى تفكير جماعي هادئ حول سبل ضمان عدالة مائية مستدامة، تضمن الحق في الماء للجميع، وتراعي التوازنات البيئية والمجالية.


فالماء ليس فقط قضية بيئية أو تقنية، بل هو في صميم العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.


حق في الماء... دون ضمان قانوني


رغم التنصيص الدستوري (الفصل 31) على ضرورة تسهيل الولوج إلى الماء، لا يُعترف صراحة بهذا الحق في التشريعات المغربية كـ"حق واجب الضمان"، ولا توجد آليات للتقاضي في حال انتهاكه1. القانون 36.15 المتعلق بالماء، يُرسّخ مبدأ التدبير المندمج والمشاركة، لكنه لا يتضمن أي فصل يُلزم الدولة بضمان حدّ أدنى من الجودة أو الكمية، أو القدرة على الأداء2.  هكذا، يُظلّل الغموض المفاهيمي هذا الحق، ويجعله عرضة للتأويلات التي تُضعف قابليته للتنفيذ.


موارد مائية تتراجع بسرعة في ظل التغير المناخي


شهد المغرب على مدى العقود الأخيرة تراجعاً حاداً في موارده المائية المتجددة. فبعد أن كانت حصة الفرد تتجاوز 2500 متر مكعب سنوياً في ستينيات القرن الماضي، أصبحت اليوم لا تتعدى 620 متر مكعب، مع توقعات بانخفاضها إلى 500 متر مكعب للفرد في أفق سنة 2030، وهي عتبة تُصنف البلاد ضمن المناطق التي تعاني من إجهاد مائي حاد3 . هذا التراجع ليس ناتجاً فقط عن ارتفاع الطلب، بل أيضاً عن التغيرات المناخية المتسارعة، التي تتجلى في انخفاض متوسط التساقطات المطرية، وارتفاع درجات الحرارة، وزيادة تواتر سنوات الجفاف، التي بلغت 9 سنوات خلال العقدين الأخيرين.

كما تعرف الفرشات المائية الجوفية، التي تشكل مصدراً أساسياً للماء في عدة مناطق، تراجعاً مستمراً، حيث تشير المعطيات إلى انخفاض منسوبها بما يتراوح بين متر ومترين سنوياً في مناطق مثل برشيد وسوس والحوز4 . ورغم الجهود المبذولة لمراقبة هذا الانخفاض، فإن ظاهرة حفر الآبار العشوائية تواصل تفاقم الوضع، في ظل غياب مراقبة فعالة أو نظام ردع حازم5 .


عرض مائي مكلف يواجه حدود فعاليته


منذ سبعينيات القرن الماضي، تبنّى المغرب مقاربة تعتمد على تطوير البنيات التحتية الكبرى، كالسدود ومحطات التحلية، بهدف ضمان الأمن المائي. وبالفعل، شُيّد أكثر من 140 سداً كبيراً، وتم إطلاق عدة مشاريع لتحلية مياه البحر، وربط الأحواض المائية فيما بينها. غير أن هذه المقاربة، وإن أسهمت في توسيع العرض، فقد بلغت اليوم حدودها، لأسباب تقنية وبيئية واقتصادية.


فقد أدى الترسب في السدود، والارتفاع الكبير في تكاليف الصيانة والتشغيل، وكذا انخفاض مستويات ملئها، إلى تقليص فعلي للطاقة التخزينية. أما محطات التحلية، فرغم كونها خياراً استراتيجياً في بعض المناطق، فإن كلفتها المرتفعة واعتمادها على مصادر طاقية تقليدية تجعلها غير مستدامة، فضلاً عن كونها موجهة في الغالب نحو الأغراض الفلاحية والسياحية، لا لتلبية حاجيات الساكنة الهشة.


رغم نُدرتها، لا تزال المياه تتعرض للاستنزاف والهدر رغم خطورة الوضع المائي في المغرب، تستمر الاستغلالات المفرطة للموارد المائية، وخاصة للمياه الجوفية، بشكل متزايد، وفي كثير من الحالات خارج الإطار القانوني ودون احترام التراخيص المنصوص عليها في القانون. ويُقابَل هذا الوضع بعجز واضح لدى السلطات العمومية في فرض الرقابة وتفعيل آليات المراقبة الفعّالة.

وفي الوقت الذي شهدت فيه بعض المدن المغربية خلال السنوات الأخيرة حركات احتجاجية متكررة بسبب ما يُعرف بـ"أزمة العطش"، تُستعمل المياه الصالحة للشرب في مدن أخرى لسقي المساحات الخضراء ومشاريع سياحية، دون مراعاة أولويات الاستعمال أو ندرة المورد6


كما يُسجَّل استمرار أنماط استهلاك غير مستدامة، خصوصًا في القطاع الفلاحي، الذي يبقى أحد أبرز مصادر الضغط على الموارد المائية في ظل غياب تنظيم صارم لاستخدام الماء في الزراعات ذات الاستهلاك العالي.


الري الموضعي والزراعات التصديرية: كفاءة أم مفارقة؟


منذ إطلاقه سنة 2008، شكّل مخطط المغرب الأخضر ركيزة لتحويل الفلاحة المغربية إلى قطاع محرك للنمو وخلق فرص الشغل، عبر مقاربة ثنائية تجمع بين دعم الفلاحة الموجهة للتصدير ومواكبة الفلاحة التضامنية. وقد ساهم هذا التوجه في مضاعفة القيمة المضافة الفلاحية من 65 إلى 125 مليار درهم بين 2008 و2018، محققًا معدلات نمو فاقت قطاعات الصناعة والخدمات، بحسب البنك الدولي7  والمجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي .


سجل المغرب تقدمًا كبيرًا في تطوير سلاسل تصديرية عالية التنافسية مثل الحوامض والبواكر والأفوكادو، كما توسعت مساحات السقي الموضعي من 160 ألف هكتار إلى 585 ألف هكتار بين 2008 و2019، ما اعتُبر إنجازًا تقنيًا في تدبير المياه8 .


إلا أن هذه الإنجازات رافقتها انتقادات علمية ومؤسساتية، أبرزها أن اعتماد السقي الموضعي لم يقلص الاستهلاك بل تسبب في "تأثير ارتدادي"، حيث تم توسيع المساحات المزروعة مما زاد الضغط على المياه الجوفية بدل تقليصه9  . في مناطق مثل سوس وتادلة وبرشيد، أدى التوسع في الزراعات التصديرية الكثيفة الاستهلاك للماء، كالأفوكادو والبطيخ، إلى تراجع حاد في منسوب المياه الجوفية10  .

كما وُجهت انتقادات تتعلق بغياب العدالة الاجتماعية والمجالية، حيث استفاد كبار المستثمرين من نسب تمويل وصلت إلى 100%، مقابل صعوبات واجهها صغار الفلاحين، خصوصًا في المناطق الجبلية والهامشية، في الولوج إلى الدعم والتأطير.

تحلية المياه: ضرورة مناخية أم خيار تجاري؟

في ظلّ ندرة مائية متزايدة وتغيرات مناخية حادة، يُراهن المغرب بشكل متسارع على تحلية مياه البحر كخيار استراتيجي لتأمين الحاجيات المائية، خاصة في المناطق الساحلية. وفقًا لوزارة التجهيز والماء، بلغ حجم الطاقة الإنتاجية لتحلية المياه حوالي 606 مليون متر مكعب سنة 2023، مع هدف بالوصول إلى 1.4 مليار متر مكعب سنويًا في أفق 2030، ضمن البرنامج الوطني للتزويد بالماء الشروب ومياه السقي 2020–2027.

لكن هذا التوجه، رغم ضرورته التقنية في ظل الجفاف المتواصل، يطرح تساؤلات حرجة على المستويين البيئي والاجتماعي. إذ تفتقر أغلب مشاريع التحلية إلى تقييمات شاملة للأثر الاجتماعي والبيئي، ما يجعل من الصعب قياس مدى ملاءمتها لمبادئ التنمية المستدامة أو العدالة المجالية، كما أشار إلى ذلك تقرير المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي (CESE, 2021) في تقييمه حول السياسة المائية بالمغرب.

كما تُنبه عدة دراسات إلى أن "التقنوية المفرطة" (Technocratic Fix) قد تُغطي على غياب إصلاحات بنيوية في تدبير الطلب المائي، وفي توزيع الموارد بين الفئات والجهات، فالرهان الحصري على الحلول التقنية دون ضبط أنماط الاستهلاك (خصوصًا الفلاحي والسياحي) يُساهم في إعادة إنتاج نفس أنماط الاختلال وعدم العدالة11

 نحو حكامة مائية أكثر تكاملاً وعدالة مجالية أوسع

رغم التقدم التشريعي والمؤسساتي، ما تزال منظومة الحكامة المائية في المغرب تواجه عدة تحديات. إذ يتم تدبير الموارد المائية من قبل فاعلين متعددين (وزارات، وكالات الأحواض، الجماعات الترابية، مؤسسات جهوية...)، في ظل ضعف التنسيق وغياب رؤية استراتيجية موحدة، مما يؤثر على فعالية اتخاذ القرار ويحدّ من آليات المساءلة.

وعلى المستوى القانوني، ورغم صدور القانون 36.15 المتعلق بالماء، فإن تفعيله لا يزال جزئياً، ولا يوفر بعدُ الأدوات الكافية للزجر والردع، حيث تشير البيانات إلى أن أقل من ربع المخالفات المسجلة يتم تتبعها قضائياً. أما من حيث المشاركة، فلا تزال مساهمة الجماعات الترابية والمجتمع المدني محدودة في بلورة السياسات وتقييمها، مما يُعمّق فجوة الثقة بين المواطن ومراكز القرار12  .

بين الخصخصة والشفافية: ما دور الدولة؟

أدى توسيع تجربة التدبير المفوض في المدن الكبرى (مثل الدار البيضاء وطنجة) إلى نتائج متباينة. ففي غياب رقابة فعالة وآليات للمساءلة، سجلت بعض المدن زيادات مفاجئة في فواتير الماء، دون إشراك للمواطنين أو تبرير واضح. في المقابل، تعاني الجماعات القروية من ضعف في الموارد والقدرات، ما ينعكس سلباً على جودة خدمات الماء والتطهير.
البدائل متوفرة... لكن تحتاج إلى إرادة

لا يعني نقد السياسات الحالية رفض الحلول التقنية، بل رفض حصرها في منطق السوق وغياب العدالة. فإعادة استخدام المياه العادمة، وتوسيع شبكات الشرب في القرى، وتبني تسعيرة تراعي الفئات الهشة، وتفعيل حوكمة تشاركية في مجال الماء... كلها بدائل ممكنة، لكنها تتطلب إرادة سياسية واضحة، وإشراكاً فعلياً للمجتمع المدني والمواطنين. وإذا أراد المغرب تحقيق انتقال بيئي عادل، فلا بد من إعادة النظر في علاقة الدولة والمواطن بالماء، على أساس أنه حق لا امتياز، وثروة جماعية لا مورد تجاري. ويتطلب ذلك:
تقنين الزراعات المستنزفة للماء وربط الدعم العمومي بشروط بيئية واجتماعية؛
إدماج الحق في الماء صراحة في التشريعات الوطنية؛
تمكين الفئات الهشة من التمثيل في المجالس والمؤسسات المعنية بتدبير الماء؛
إصلاح نظام تسعير الماء بما يضمن العدالة والقدرة الشرائية؛
وتفعيل شرطة مائية مستقلة وفعالة قادرة على ردع الاستغلال غير المشروع للموارد.

إن بناء عدالة مائية في المغرب لا يمر عبر القوانين فقط، بل عبر تحوّل جذري في السياسات والمؤسسات، وتحقيق مبدأ الشفافية والمساءلة، وتوسيع المشاركة المواطِنة. وحده هذا المسار يمكنه أن يضع الماء في صلب مشروع تنموي إنساني، مقاوم للظلم، ومؤمن بالكرامة.



[1]  بوش، أ. (2021). "حوكمة الماء والتفاوتات الاجتماعية-المائية في المغرب". بدائل المياه (Water Alternatives)، المجلد 14، العدد 2، الصفحات 235–256.

[2]ساليث، ر. م.، ودينار، أ. (2004). الاقتصاد المؤسساتي للماء: تحليل مقارن للمؤسسات والأداء عبر الدول. تشيلتنهام: إدوارد إلغار.

[3] https://www.worldbank.org/en/news/press-release/2022/07/20/moroccan-economy-slows-in-wake-of-drought-and-commodity-price-rises?utm_source=chatgpt.com

[4]  حسب الموقع الإخباري المتخصص في الماء والمحافظة عليه، التابع لوزارة التجهيز والماء (maadialna.ma)، فان تغير المناخ، واستمرار الجفاف للعام السادس على التوالي، إلى جانب ضعف التساقطات المطرية والثلجية طيلة السنة الهيدرولوجية 2024، قد تسبب في تراجع كبير لمستوى الموارد الجوفية بالمغرب. وتُعزى هذه الوضعية، حسب المعطيات الرسمية، إلى نقص الأمطار والثلوج من جهة، وإلى الاستغلال المكثف وغير المستدام للمياه الجوفية، خاصةً في أنشطة التزود بالماء الشروب والسقي من جهة أخرى. https://www.maadialna.ma/ar/bsbb-astmrar-aljfaf-wartfa-altlb-ankhfad-hjm-almyah-aljwfyt-bjl-alfrshat-almayyt-balmghrb?utm_source=chatgpt.com

[5] المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية (2022). الموارد المائية، المناخ والتنمية الترابية: أية حكامة للمستقبل؟ الرباط: المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية.

[6

https://www.cese.ma/media/2023/11/Alerte-CESE-VF-1.pdf

[7]https://ieg.worldbankgroup.org/evaluations/world-bank-groups-engagement-morocco-2011-21

[8]  https://oxfordbusinessgroup.com/reports/morocco/2020-report/economy/bearing-fruit-the-sector-development-plan-makes-concrete-gains-but-challenges-to-reaching-full-potential-persist

[9]   بنونيش، م.، كوبر، م.، وحماني، ع. (2014). هل يؤدي السقي بالتنقيط إلى اقتصاد الماء: طموح واقعي أم مطاردة لوهم؟ البدائل الريفية (Alternatives Rurales)، العدد 2، الصفحات 1–12.

[10]  بلهواري، س. (2019). قطاع الماء في المغرب: لماذا ينبغي الرهان على حكامة عادلة ومستدامة؟ منشور ضمن مؤسسة هاينريش بول – مكتب الرباط. https://ma.boell.org/sites/default/files/brochure_eau_.pdf

 [11]  بوش، أ. المرجع نفسه.

[12]  أبوفيراس، م.، بازة، م.، بوحميدي، م.، الدبّار، أ.، حيبة، م.، حريزي، ك.، المكناسي اليوسفي، إ.، العمراني، هـ.، سفين، م.، والسوساني، م. (2022). الكتاب الأبيض حول الموارد المائية في المغرب (إصدار شهر غشت).




احدث المنشورات
Jun 17, 2025
العالم بين الكوارث النووية وتلك المناخية - حبيب معلوف
May 26, 2025
النشرة الشهرية لشهر نيسان/أبريل - سياسات صندوق النقد الدولي: لا قاعدة ثابتة