من الفاشر إلى العالم: المرأة السودانية في قلب النزاع، بين عنف الدولة والمقاومة - نعمات كوكومحمد
من الفاشر إلى العالم: المرأة السودانية في قلب النزاع، بين عنف الدولة والمقاومة - نعمات كوكومحمد
في أحد أطراف مدينة الفاشر، وبين خيام النزوح التي لا تقي حرًّا ولا
بردًا، كانت أمينة تحاول أن تُسكت طفلها الرضيع الذي يبكي من الجوع. لم تكن تملك
شيئًا سوى قنينة ماء وبعض الذكريات التي تحاول أن تطردها من رأسها كلما أغمضت
عينيها. قبل عامين، كانت تعيش في بيت بسيط، تزرع أرضًا صغيرة وتعلّم بناتها كيف
يقرأن. اليوم، لا بيت، لا أرض، ولا بنات. فقدت اثنتين منهن في القصف، والثالثة
اختفت في طريق النزوح، ولا تعرف إن كانت حية أم لا.
أمينة ليست حالة استثنائية. هي واحدة من ملايين النساء اللواتي وجدن
أنفسهن فجأة في قلب حرب لا ترحم، تُستخدم فيها أجساد النساء كسلاح لإذلال
المجتمعات، وتُمارس فيها أبشع أشكال العنف الجنسي بما فيه سلاح الاغتصاب، حتى فيما
يُسمى بالمناطق "الآمنة". تقول بصوت خافت: "لم أعد أخاف الموت،
أخاف أن أنجو".
في السودان اليوم، هناك آلاف مثل أمينة. نساء حوامل يلدن على قارعة
الطريق، فتيات يُجبرن على النزوح، ناجيات من الاغتصاب الجماعي يحاولن الانتحار،
وأمهات يبحثن عن أطفالهن بين القبور الجماعية. ومع كل هذا، لا تزال أصواتهن
تُهمّش، ولا تزال الحماية غائبة، والمحاسبة مؤجلة، والعدالة بعيدة.
لكن أمينة، رغم كل شيء، ترفض أن تُكسر. في كل صباح، تملأ قنينة الماء،
وتغني لطفلها أغنية كانت ترددها لبناتها.
البداية
في ظل الحرب المستعرة في السودان منذ أبريل 2023، تتصدر النساء
والفتيات مشهد المعاناة، حيث يتحول العنف الجنسي إلى سلاح ممنهج يُستخدم لإذلال
المجتمعات، وتُرتكب انتهاكات جسيمة في مناطق النزاع، من دارفور إلى الخرطوم
والجزيرة. ورغم اتساع رقعة العنف، تواصل النساء السودانيات، من مختلف الطبقات
والمواقع الاجتماعية، مقاومته بكل أشكالها، مطالبات بالسلام، وحماية الحياة،
واستعادة الكرامة.
هذا العام، وبينما تحيي الحركات النسائية حول العالم حملة الـ16 يوم
لمناهضة العنف القائم على النوع الاجتماعي، تقف النساء السودانيات في قلب المأساة،
لا كمجرد ضحايا، بل كفاعلات في مواجهة حرب تُستخدم فيها أجسادهن كساحة للصراع.
ويأتي ذلك في وقت يصادف مرور 25 عامًا على قرار مجلس الأمن 1325 بشأن المرأة
والسلام والأمن، الذي أكد على ضرورة حماية النساء أثناء النزاعات، وعلى أن السلام
المستدام لا يتحقق دون مشاركتهن الكاملة في صناعته.
لكن الواقع السوداني اليوم يكشف عن فجوة مؤلمة بين الالتزامات الدولية
والممارسات على الأرض، حيث تتعرض النساء لانتهاكات ممنهجة، وسط غياب آليات الحماية
والمحاسبة، وصمت دولي وإقليمي مريب. ومع ذلك، تظل المرأة السودانية حاضرة، تقاوم،
وتُطالب، وتُعيد تعريف دورها في زمن الحرب.
المرأة
السودانية وعنف الدولة الممنهج
تجلي عنف الدولة
في السودان خلال فترة الحكم العسكري الإسلامي بتدبير وقيادة الحركة الإسلامية
وقدمت مشروعها الحضاري في أطار برنامج متكامل للإسلام السياسي سياسيا واقتصاديا
واجتماعيا حيث فرضت منظومة متكاملة من السياسات والتشريعات التي قصد منها التغيير
الاجتماعي وفرض بنية ثقافية متكاملة
استهدفت التاريخ النضالي للمرأة السودانية انتقاما لما تم من انقسام في "
الاتحاد النسائي السوداني" عام 1954 م
عندما تم نقاش فكرة تبني منظومة الحقوق الاقتصادية والسياسية كمشروع متكامل
لتحرر المرأة وتحقيق المساواة مع الرجل ومن ثم اختارت القيادات النسائية الإسلامية
الانقسام وواصل "الاتحاد النسائي السوداني" مسيرته ومشواره في تحقيق برنامجه واصبح رائدا
للحركة النسائية الديمقراطية وتأثرت خطواته العملية هبوطا وصعودا في السياق العام
من حيث طبيعة الدولة من نظام شمولي الي وضع ديمقراطي , الا انه ظل متمرسا في خانة
الدفاع عن حقوق المرأة ربطا بمنظومة القيم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية ومن
هنا كان الاستهداف الواضح من أجل تقييد حركة المرأة السودانية حيث فرضت منظومة متكاملة من التشريعات والقوانين
خاصة قوانين النظام العام التي قيدت حرية النساء في الفضاء العام, فرض الزي
الإسلامي مما أدي اعتقالات تعسفية بسبب ما
سمي "الزي الفاضح",
هذا بجانب تضييق فرص العمل واستخدام سلاح الفصل التعسفي من مؤسسات الدولة بسبب
الزيادة الملحوظة للنشاط النقابي مما أربك النظام الاقتصادي الرسمي وأدي الي توسع
القطاع الغير منظم خاصة بعد انهيار القطاعات الإنتاجية " الزراعة والصناعة
" مع التزايد الملحوظ في ارتفاع نسبة البطالة وسط الشباب خاصة "
الشابات". لقد شكلت هذه الأسباب من العنف المنظم ضد المرأة واقعا جديدا أتسم
بالوعي الحقوقي نتيجة لاندياح وتوسع قاعدة العمل المدني خاصة المنظمات الحقوقية،
المنظمات النسائية والشبابية مما شكل البيئة المواتية للحراك العام منذ 2018 م من
أجل الثورة والتغيير وشكلت المرأة السودانية أكثر من 70 % من شارع الثورة بشهادة
بعض الدراسات وكان رأس الرمح فيها جيل الشابات الذي عانى حقيقة من كافة أشكال عنف
الدولة. أما في مناطق الحروبات والنزاع مثل دارفور وجبال النوبة فقد تعرضت النساء منذ 2003 م لانتهاكات
جسيمة، منها الاغتصاب الجماعي كأداة حرب وسلاحا للهوية، والتهجير القسري والذي
يستهدف تغيير البنية الديمغرافية للسكان في اطار الصراع والتحكم في الموارد , مع
توسع دائرة الفقر والتهميش الاقتصادي والاجتماعي والذي أدي بدوره الي ظاهرة ما
يسمي بأحزمة الفقر حول المدن الرئيسية والغالبية وأصبحت أغلب الاسر مسئولة عنها
نساء وهذا بدوره زاد من حجم القطاع الغير رسمي والذي يقدر بانه يساوي أكثر من 68 %
من هيكلية بنية الاقتصاد العام.
أن الحرب
الحالية
(2023–2025)والتي بدأت بين الجيش والدعم السريع وبدعم وتدخل
إقليمي ودولي أدت إلى تصاعد العنف الجنسي ضد النساء خاصة في دارفور والخرطوم
والجزيرة من قبل قوات الدعم السريع ولم تستثني ما يسمي بالمناطق الآمنة التي تقع
تحت سيطرة قوات الجيش وميلشياتها, و بحسب
بعض التقارير الأممية، تم تسجيل وتوثيق 1392 حالة عنف جنسي منذ بداية الحرب مع عدم
دقة الإحصاءات لصعوبات واجهت مشروع التوثيق وهذه الأرقام تمثل فقط 2% من حجم
الانتهاكات على أرض الواقع خاصة أن قوات الدعم السريع" الجنجويد" قد استخدمت
العنف الجنسي خاصة الاغتصاب سلاحا لإذلال المجتمعات المحافظة في الجزيرة ولأسباب
عرقية في دارفور وإجبارهم على النزوح القسري من ديارهم , كما أن هناك آلاف من الدعاوى
الجنائية المتعلقة بالانتهاكات حيث يُقدر أن 6.7 مليون شخص معرضون لخطر العنف
القائم على النوع الاجتماعي في السودان وتعتبر النساء والفتيات النازحات واللاجئات
والمهاجرات معرضات للخطر بشكل خاص للانتهاكات الجنسية كما يواجهن أخطارا مضاعفًة من
كافة أشكال العنف، الوصمة الاجتماعية وانعدام الحماية القانونية والاجتماعية مع سوء
الأحوال النفسية. كما تعرضت حوالي سبعة ملايين امرأة وفتاة في السودان لخطر العنف
الجنسي والاغتصاب وفق ما أفادت به تقارير بعض المنظمات الدولية، كما تمت الإشارة الي
إن تلك الجرائم وخاصة الاغتصاب الجماعي قد تكررت وإن آثارها على الأفراد والمجتمع
ستمتد لسنوات طويلة وهناك بعض الناجيات اللاتي حاولن الانتحار لأنهن وصلن إلى
مرحلة من اليأس والإحباط ومن فقدان أي أمل في الحياة مع أن هناك 41 شريكا يعملون
في السودان لمساعدة الناجيات بالضافة الي أماكن آمنة وقد استفادت الناجيات من
الدعم النفسي والطبي والسريري وكذلك الدعم الاجتماعي.
وجاء سقوط مدينة
" الفاشر" عاصمة ولاية شمال دارفور في يد قوات الدعم السريع بعد حصار لا
أنساني أمتد الي ما يقارب العامين حيث تم حصار مئات الآلاف من المدنيين الذين فشلو
في الخروج من الفاشر بسبب ضيق الإمكانيات والفقر الذي تفشي خاصة في معسكرات النزوح
حول المدينة مما دفع بمنظمات أممية أن تحذر
من أن الحرب هذه قد "تخرج عن السيطرة"، مع تزايد حالات الإعدامات الجماعية،
العنف الجنسي، وسوء التغذية مع تدهور الوضع الإنساني يومًا بعد يوم، وسط صمت وتجاهل دولي واقليمي وخاصة أن هذه الحرب ما هي الا ساحة لهذا الصراع الإقليمي
والدولي خاصة على "الموارد" مثل الأراضي الزراعية والذهب والمياه ولذلك
يسعي كل طرف لإعادة تشكيل الخريطة السياسية في السودان وخلق "السلطة"
التي تحمي مصالحه مما يعقّد من الجهود الوطنية للسلام مع تزايد تردي الأوضاع الإنسانية
حيث تُقدّر عدد القتلى بأكثر من 140 ألف شخص مع ملايين النازحين, بالإضافة الي تصاعد
التوتر والعنف في مدن ولاية شمال كردفان حيث أضحي العنف أكثر في تجاهل تام لمقترح
الهدنة الذي " الآلية الرباعية" مما أدي الي تعقيدات في الوضع الأمني في
منطقة كردفان وما زال مستمرا في التدهور. ومن المؤكد أن هذا الصراع يلقي بظلال
قاتمة واثار أكثر فظاعة على النساء والفتيات في ظل غياب اليات فعالة للحماية وفق
المعاهدات والاتفاقيات الدولية مع ضعف اليات المحاسبة سواء على مستوي السودان او
إقليميا وعالميا. لقد تم وصف الوضع من أحدي خبيرات الأمم المتحدة بأنه "يفطر
القلب"، مشيرة إلى أن من بين 12 مليون نازح، هناك حوالي 2.7 مليون امرأة
وفتاة في سن الإنجاب، بمن فيهن 300 ألف امرأة حامل يواجهن خطر الانتهاكات الوحشية
والولادة في ظروف غير إنسانية , وان بعض النساء ينتهي بهن المطاف بالولادة على
قارعة الطريق في النزوح من بيوتهن بعد سماع القصف والقنابل, وعندما تتم الولادة دون وجود العناية الطبية الماهرة
قد يُصاب الطفل حديث الولادة بعدة أمراض خاصة الضعف وسوء التغذية مما يقلل من فرص
بقائهم على قيد الحياة وقدرتهم على التعلم. وبينما تتصاعد الأزمة
الإنسانية وتتزايد حالات القتل والعنف القائم على النوع الاجتماعي، تتفاقم كذلك المخاوف
بشأن مصير آلاف الأشخاص الذين اختفوا في خضم هذا النزاع وتشير التقديرات إلى أرقام
مروعة، فبينما تقدر المجموعة السودانية للدفاع عن الحقوق والحريات العدد بنحو 50 ألف
مفقود، وثقت منظمات حقوقية سودانية محلية ما لا يقل عن 3,177 حالة، من بينهم أكثر
من خمسمائة امرأة وثلاثمائة طفل.
المقاومة في زمن الحرب
ظلت المرأة
السودانية ومن مواقعها الاجتماعية والطبقية متمترسة في الدفاع عن منظومة حقوقها
السياسية والاقتصادية والاجتماعية رغم كافة أشكال عسف وعنف الدولة وواصلت نضالها
في قيادة الحراك الشعبي منذ انتفاضة ديسمبر 2018 حيث لعبت النساء دورًا محوريًا في
الثورة، ورفعن شعار "حرية، سلام، وعدالة". كما رفعت شعار التقاعس والتراجع
ليس خيارا منذ اندلاع هذه الحرب الكارثية في أبريل 2023 حيث وجدت النساء أنفسهن في
قلب الأزمة، لا كضحايا فقط بل كفاعلات أساسيات في الحفاظ وحماية الحياة ومواجهة
الانهيار المجتمعي ومواجهة كافة أشكال العنف والمطالبة بالعدالة.
تقدر المبادرات النسائية
والنسوية بأكثر من 70 كيانًا تطالب بوقف الحرب وبناء السلام وبالمشاركة الفاعلة في
جهود مستقبل البلاد، ومع تحمل المسؤوليات المجتمعية في غياب الرجال بسبب القتال أو
النزوح فقد أصبحت النساء المعيلات الرئيسيات لأسرهن، يقمن بدور الأم والمربية
والممرضة وصانعة القرار، بالإضافة الي التصدي للجوع والخوف في مخيمات النزوح وقد صنعن
من اللاشيء ملاذًا لأسرهن، رغم انهيار شبكات الدعم الحكومي والاجتماعي.
كما شاركت في غرف الطوارئ" هي واحدة من المبادرات التي تعد بمثابة
"حكومة محلية إسعافية" أنشأها شباب متطوعون بهدف تقديم الخدمات الأساسية
للمواطنين الذين يواجهون خطر الموت والجوع والمرض وصعوبة الحصول على مياه الشرب
والكهرباء وخدمة الاتصال، ولم يقتصر دور هذه الغرف على المساعدات الإنسانية بل
ساعدت في إجلاء الناس من خطوط النار. وبتزايد أعداد النازحات قامت بعض الشابات
بأنشاء " غرف الطوارئ النسائية" في استجابة عملية لبعض الاحتياجات
الأساسية المرتبطة بقضايا النوع الاجتماعي مثل الفوط الصحية وتوفير بروتوكول العنف
الجنسي والاغتصاب بجانب خدمات الصحة الإنجابية.
أما على المستوي
العمل العام وفي إطار القضايا الاستراتيجية فقد كانت اول مبادرة من فئة اجتماعية
وطنية لوقف الحرب هي من جانب المرأة السودانية حيث شهدت العاصمة الأوغندية "كمبالا"
مؤتمراً في أكتوبر 2023 م شاركت فيه حوالي 50 امرأة وتم النقاش المستفيض في قضايا
الحرب والسلام بالتركيز في المدي القصير على ضرورة وأولوية حماية النساء من العنف
الجنسي أثناء النزاع وفتح الممرات الآمنة لحمايتهن وخروج كافة الاسر بأمان مع
توفير الاحتياجات الأساسية. أما على المدى المتوسط فقد تم وضع الخطة في أهمية "التوثيق
وجمع المعلومات عن انتهاكات حقوق الإنسان بخاصة تلك المتعلقة بالعنف الجنسي وتأكيد
مبدأ عدم الإفلات من العقاب، أما على المدى الطويل فقد تم تقديم اقتراح تخصيص 25%
من موارد العون الإنساني لمشاريع إنتاجية للنساء في مناطق النزاع ومعسكرات
الإيواء، كما ركز المؤتمر كذلك على ضرورة إشراك المرأة في توزيع المساعدات
بالتنسيق مع الجهات المعنية، ومشاركتها في محادثات السلام، واعتماد رؤيتها ضمن
المبادرات المقدمة لوقف الحرب وبناء السلام المستدام. وما زالت المرأة السودانية
تتصدي بشجاعة وبسالة الي مهام متعددة في بيئة مليئة بالتحديات من المشاركة في سد
الاحتياجات الإنسانية والمناداة بضرورة تحقيق آليات المساءلة والعدالة خاصة بعد التغيرات
العميقة في النسيج الاجتماعي الذي انداحت فيه مظاهر العنصرية وتصاعد خطاب الكراهية
خاصة وان الادوار الاجتماعية في إطار مفاهيم النوع الاجتماعي قد أصبحت متغيرة وجديدة
مما أدي الي مضاعفة التحديات ومناهج المقاومة لكافة اشكال القهر والانتهاكات التي
طالت تاريخ المرأة السودانية المضئ
ختامًا
رغم كافة التحديات
يبقى السؤال المطروح، هل تستطيع المرأة السودانية ومن مواقعها المختلفة الضغط لوقف
الحرب وتحقيق السلام المستدام وتجاوز حالة الشتات التي تطغي على المشهد السياسي والمدني؟
الجواب يعتمد على تضافر جهود الجميع بما فيها صوت المرأة من خلال العمل على وضع
الاجندة المشتركة التي تضمن صوت واحتياجات النساء من كافة المواقع خاصة النساء في
مراكز النزوح ودول اللجوء ويظل منهج المشاركة المجتمعية هو الطريق الذي يضمن
التنسيق الفاعل وارتفاع الصوت المسموع في كافة منابر المنظمات الدولية والإقليمية
التي تسعي لوقف الحرب واحلال السلام لبناء سودان الثورة والتغيير الذي يقوم على
حقوق المواطنة المتساوية وبناء دولة المستقبل .... الدولة المدنية الديمقراطية.