اديب نعمه
بين قمة كوبنهاغن 1995 وقمة الدوحة 2025: ما الذي تغير؟ - أديب نعمه
اتيح لي شخصيا مع عدد من الزملاء والأصدقاء،
ان أشارك في المنتدى المدني الموازي للقمة العالمية للتنمية الاجتماعية في
كوبنهاغن عام 1995، ثم في القمة الثانية في الدوحة في شهر نوفمبر 2025، (وبينهما
في الدورة الخاصة للجمعية العمومية للأمم المتحدة في جنيف عام 2000). بين القمتين
اختلافات هامة يمكن رصدها من خلال المشاهدة المباشرة، او من خلال الملاحظة الدقيقة
دون الغوص في تحليل مضامين المخرجات الذي سبق للشبكة ان خصصت له حيزا، وسوف يكون
موضوع متابعة لاحقة.
المشاهدات والانطباعات تشمل ثلاث نقاط:
المكان ومحيطه؛ فعالية المجتمع المدني؛ مقاربة مواضيع القمة.
المكان
في قمة كوبنهاغن خصص مكان خاص لمنظمات
المجتمع المدني في مجمع منفصل وبعيد نسبيا عن مكان انعقاد القمة الرسمية. وكنا إذا
احتجنا للانتقال اليها نستخدم الباصات. في حين ان القمة في الدوحة عقدت في مركز
المؤتمرات حيث كانت الجلسات الرسمية ومنتدى المجتمع المدني. الا ان الطابق الثاني
العلوي خصص للبعثات الرسمية من حكومات وأمم متحدة حيث كان لا يمكن لممثلي المجتمع
المدني الولوج اليه إلا بدعوة خاصة. الأمر نفسه كان معتمدا في قمم واجتماعات أخرى،
حيث كان هناك تخصيص لمساحات محصورة للوفود الرسمية لم يكن ولوج منظمات المجتمع
المدني مفتوحا.
المكان المخصص للمؤتمر في الدوحة كان معزولا حيث لا توجد حوله ابنية واحياء
سكنة او تجارية، بل فراغ صحراوي الطابع. ولم يكن هناك أي نشاط محيط بمكان المؤتمر
قبل السكان والمواطنين، ولا حتى في احياء الدوحة الأخرى. اما في كوبنهاغن 1995،
وكذلك في جنيف 2000، فقد كانت الشوارع تشهد تحركات شعبية تتعلق بمواضيع القمة،
وكان بإمكان ممثلي المجتمع المدني الوافدين من مختلف بلدان العالم، التواصل مع
مواطني البلد والمقيمين فيه، والمشاركة أيضا في المظاهرات والاعتصامات ذات الصلة
بمواضيع القمة، او بما يتصل به من مطالب لفئات اجتماعية في البلد المعني. مثل هذه
الامكانية لم تكن قائمة في الدوحة، الأمر الذي جعل من القمة اجتماعا مغلقا، مع
تفاعل محدود جدا ومضبوط مع المجتمع المضيف الذي نجحت حكومته في تنظيم للجوانب
التقنية والفنية والمواصلات، ولكن دون وجود مساحة التفاعل الأممي – الوطني التي
عرفناها في مناسبات أخرى وفي دول أخرى.
فعالية المجتمع المدني
كل مسار التحضير لقمة الدوحة كان مستعجلا.
وبدا واضحا ان الوقت المخصص عالميا للتحضير لها لم يكن كافيا. فقبل أسابيع قليلة
من موعدها، كانت الإجراءات اللوجستية غير مكتملة، وهو ما شكل عقبة إضافية امام
مشاركة المجتمع المدني الفعالة في القمة. فقد كانت هناك صعوبة كبيرة في الحصول على
مساحة للمشاركة في الطاولات المستديرة الرئيسية، والوقت المتاح للمشاركين لا
يتجاوز الدقائق القليلة الموزعة على عدد كبير من المشاركين المحظوظين (الرسميين
غالبا) الأمر الذي جعل الأمر يقتصر على عرض المواقف دون القدرة على التعمق في
التحليل او ممارسة أي نقد فعلي لما هو مطروح. وكان حضور ممثلي الحكومات، بما في
ذلك حكومة البلد المضيف، والممثلين الرسميين لمنظمات ووكالات الأمم المتحدة
والمؤسسات المالية الدولية طاغيا بشكل كبير، مقارنة بمنظمات المجتمع المدني خلافا
لما كان عليه الامر في كوبنهاغن مثلا.
ففي قمة كوبنهاغن كان هناك نشاط/ندوة للبنك
الدولي وصندوق النقد الدولي في منتدى المجتمع المدني لعرض وجهة نظرهم. واذكر ان
ممثلي منظمات المجتمع المدني لاسيما من اميركا اللاتينية وآسيا تجمعوا امام قاعة
النشاط ونظموا اعتصاما معارضا لسياسات البنك والصندوق – وقد ذاقوا الامرين من
سياساته قبلنا بكثير – الأمر الذي أدى الى تسلل ممثلي الصندوق والبنك من الباب
الخلفي للقاعة وإلغاء النشاط. في قمة الدوحة مثل هذا السيناريو مستحيل، لا بسبب
المكان وحسب بل بسبب مجمل التطورات العالمية، والهيمنة المتصاعدة للشركات العالمية
العملاقة وللدول الكبرى والمؤسسات المالية الدولية على المشهد التنموي برمته، بما
في ذلك في قمة مخصصة للتنمية الاجتماعية. ولعل هذا المقارنة الرمزية تظهر هذا
الاختلاف في ما يسمى "البيئة المساعدة العالمية"، او بكلام اخر وضعية
النظام العالمي الراهن في تعامله مع المسألة الاجتماعية ومع منظمات المجتمع المدني
الذي يتعرض لقيود متزايدة على عمله.
من جهة أخرى، اثناء قمة كوبنهاغن، كان هناك
في مسار التحضير وفي القمة نفسها، قدرة على لقاء واسع القاعدة للمنظمات المشاركة
عالميا وإقليميا، حيث أمكن للمنظمات ان تصدر اعلانا عالميا خاصا بالمجتمع المدني
عن موضوعات القمة. كما ان المجموعة العربية المشاركة، والأعضاء المؤسسون في شبكة
المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية التي أكملت الخطوات التحضرية لتأسيسها في
فترة التحضير للقمة وفي القمة نفسها، كانت الأكثر نشاطا في تنظيم اجتماعين لممثلي
المنظمات المدني العربية المشاركة حضره حوالي 200 ممثل لهذه الجمعيات، واستطاعوا
اصدار الإعلان العربي اثناء القمة الذي احتوى على موقف مشترك لمنظمات المجتمع
المدني في البلدان العربية من موضوعات القمة. وكان قد سبق ان استطاعت المنظمات
المشاركة في اعمال التحضير ان تصدر في شهر كانون الثاني/يناير من عام 1995 اعلان
بيروت الموجه للقمة التي عقدت في شهر آذار من العام نفسه.
مثل هذا المسار التحضيري، ومثل هذه الفعالية والقدرة على العمل الجماعي لم
تكن متاحة في القمة الثانية. ولا تقع مسؤولية ذلك على الإجراءات التنظيمية وعملية
التحضير الأممي للقمة وحسب، بل إن ثمة مسؤولية ذاتية أيضا تقع على عاتق منظمات
المجتمع المدني عالميا وإقليميا، مع العلم ان العالم والمنطقة العربية خصوصا، كانت
غارقة في الحروب والأزمات السياسية والاقتصادية الداخلية وحروب الإبادة في
فلسطين/غزة والسودان بشكل خاص، وهو وضع أنهك البلدان والمجتمعات، كما أنهك منظمات
المجتمع المدني.
المقاربة المجزأة
استعادت القمة الثانية المحاور الأربعة لقمة
كوبنهاغن أي الفقر والبطالة والتفكك الاجتماعي إضافة الى مسألة البيئة العالمية
والوطنية المساعدة؛ وهي مواضيع متكاملة ولها طابع كلي وشامل مجتمعة، كما ان كل
محور يتسم بدوره بالتكامل والشمول. وتعتبر المقاربة الكلية والتكاملية الميزة
الأكثر أهمية لقمة التنمية الاجتماعية مقارنة بالقمم العالمية الأخرى التي كانت
تتصدى لموضوعات لها طابع قطاعي محدد الى جانب بعدها التكاملي (قمة الطفل، المرأة،
السكان، تمويل التنمية...الخ). لذلك كان من الطبيعي ان تعتمد قمة التنمية
الاجتماعية مقاربة على درجة متقدمة من التكامل والتصدي لأسباب المشكلات، مما جعلها
تتبنى توصيات تدعو لسياسات تتضمن اصلاحا هيكليا للاقتصاد وغيره من الابعاد.
الا ان مقاربة القمة الثانية في الدوحة وتنظميها، وكذلك الإعلان الصادر
عنها، غلب عليها كلها الطابع القطاعي والمجزأ. فقد كان هناك عشرات من الأنشطة
الندوات والاجتماعات خلال أيام القمة تتناول في غالبيتها الساحقة مواضيع جزئية
ومحدودة. كما كان هناك تكرار لعدد كبير من المناقشات والاجتماعات التي تتناول
الموضوع عينه دون محاولة تنسيق او تجميع للأنشطة المتشابهة. هذه الكثرة أدت الى
تشتيت الانتباه، وتضييع التركيز، وقد واجه المشاركون صعوبة في تتبعها وفي اختيار
النشاط الأكثر أهمية. كما ان الحيز المتاح لمناقشة القضايا بشكل كلي وشامل (مثلا
موضوع الفقر واللامساواة كقضية كلية، او الاندماج الاجتماعي...الخ)، غير موجود
عمليا. والأمر عينه نجده لدى قراءة الإعلان السياسي الصادر عن القمة، والذي رغم
اسمه كإعلان "سياسي"، فقد كان تناول القضايا الكلية فيه محدودا، وكرس
المقاربة القطاعية والجزئية في تناول القضايا بمعزل عن ترابطها او عن كونها نتائج
لمصدر او سبب مشترك.
ختاما
مع وصولنا في اليوم الأول الى مكان القمة،
كانت الجلسة الافتتاحية التي يحضرها الرؤساء والقادة الأول في بلدانهم منعقدة في
القاعة الكبرى المغلقة امام ممثلي المجتمع المدني. وكانت القاعة ممتلئة تماما
بممثلي البعثات الرسمية. وقد خصصت قاعدة جانبية لمنظمات المجتمع المدني لمشاهدة
الجلسة الرسمية على شاشة كبيرة كانت تنقل البث المباشر للجلسة. ولم يكن ممكنا لنا
الدخول حتى الى هذه القاعة لكونها ممتلئة حتى أخرها.
في اليوم الأخير للقمة، يوم السادس من نوفمبر، عقدت الجلسة الختامية للقمة.
لكن هذه المرة كان حراس الطابق العلوي وقاعة المؤتمرات الكبرى يدعوننا الى الدخول
وحضور الجلسة الختامية الرسمية. دخلنا القاعة: كانت شبه خالية الا من ممثلي دول
العالم الثالث الذين طلبوا الكلام والذين تعذر عليه الكلام في الجلسة الافتتاحية.
حوالي 40 او 50 شخصا في قاعة كبيرة جدا، واقل منهم من ممثلي المجتمع المدني
المدفوعين بحشريتهم. صورة محزنة لقاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة، فارغة يملؤها
الصدى، وممثلو بعض دول العالم النامي من دبلوماسيين من الفئة الثالثة وما دون،
يتلون بيانات لا يستمع اليها أحد.
لكنهم وعدونا بقمة أخرى للتنمية الاجتماعية عام 2031.
إن غدا لناظره لقريب.
احدث المنشورات
الشبكة في مؤتمر القمة العالمي الثاني للتنمية الاجتماعية: تقدم مُحرَز، والتزامات غائبة – زهرة بزّي