
الكوتا: قَلَقٌ يُذكِّرُني بأبي – منار زعيتر

الكوتا: قَلَقٌ يُذكِّرُني بأبي – منار زعيتر
أعادني عام 2025 إلى عام 2006، ليس لأنه كان العام الأثقل والأقسى بسبب فقدي لأبي، بل لأنه العام الذي كان يذكرني دومًا بتجربة عشتُها، وكانت من ضمن تشكّلات وعيي النسوي والحقوقي.
عام 2006، وكما هي عادة أبناء العائلات والعشائر في مختلف مناطق لبنان، ولا سيما في البقاع، كان من الضروري تنظيم ذكرى الأربعين لوفاة والدي. حينها، قررتُ، وكنتُ ابنة السادسة والعشرين عامًا، أن ألقي ما يُعرف بـ"كلمة العائلة" في الحفل التأبيني. تسبَّب الأمر باختلاف بين أبناء العمومة، بسبب جرأة "بنت" على اقتراح أمر غير معتاد، ومخالف لكل الأعراف والتقاليد. ووصل الأمر إلى درجة استفتاء رأي رجل دين في المسألة. لأسباب متعددة، سُمح لي بالقيام بما رغبت. لم يكن يهمني حينها كل هذا الخلاف وأسبابه وتداعياته، برغم محبتي لكل أبناء العمومة. ببساطة، كان جُلّ ما فكرتُ فيه هو أن أقول لأبي ما لم أستطع قوله له في غرفة العناية المركزة، قبل وفاته بساعات.
لا أدري لِمَ أعادتني الأشهر الماضية من عام 2025 إلى تلك التجربة، وأنا أراقب وأتفاعل مع الانتخابات البلدية الأخيرة التي شهدها لبنان. ولا أدري حقيقةً ما الرابط بين هذه الحادثة البعيدة وبين مسألة مشاركة النساء السياسية في هذه الانتخابات، التي لم تحمل جديدًا يُذكر، إنْ لناحية نسب مشاركة النساء ومستوياتها، مع وجود تقدُّم طفيف فيها، سبقها تقدم في الانتخابات النيابية الأخيرة، وإنْ لناحية العوامل والأسباب التي ما زالت تُقصي النساء عن الفضاء العام.
أعتقد أنه خطاب السنوات الماضية، الذي بدا لي مختلفًا، ويستدعي القلق، بالنظر إلى دوره في تشكيل الأشياء التي نتحدث عنها وفي تأطير مضامينها.
لقد تمَّ تصور سياق المشاركة السياسية للنساء في الفترة الماضية على أنه “مطالبة النساء بمقاعد حول الطاولة التي تُناقش فيها السياسات العامة". وبالنظر إلى البطء في ازدياد عدد النساء في السياسة، اعتُبر نظام الحصص "الكوتا" أحد الآليات الأساسية لتحقيق التوازن بين الجنسين في المؤسسات السياسية. وهذا صحيح. إلا أنه كان من المفيد أن يتجاوز النقاش في شأن عمليات سياسية متوازنة بين الجنسين مجرد الأرقام أو مجرد إدخال النساء إلى البرلمان أو البلديات. وقد ثبت عدم صحة الافتراض القائل بأن المشاركة الرسمية أو الرقمية في مؤسسات الدولة ستؤدي تلقائيًا إلى تمثيل مصالح النساء وتعميق الديمقراطية. ونتيجة لذلك، فشلت الحصص في معالجة العوامل المسؤولة عن إغلاق المجال العام أمام النساء بشكل ملموس في عدد من الدول، فما بالك في بلد مثل لبنان.
يكشف السياق اللبناني عن بنية فوقية تحدِّد فرص النساء في السياسة وحدود تطلعاتهن. هذه البنية لا تُعير اهتماماً لتجارب النساء الخاصة، ولا تُراعي أعباءهن الأسرية والاجتماعية، كما أنها تفتقر إلى الآليات التي تُسهل عليهن التوفيق بين أدوارهن المختلفة في حال رغبن في التقدم السياسي. تقوم هذه المنظومة على ركائز الزبائنية السياسية والعائلية والطائفية، وتُعيد إنتاج نفسها من خلال النساء أيضاً، إذ أن عدداً كبيراً منهن يتبنّى النموذج الراهن ويرى فيه الوسيلة الوحيدة الممكنة للانخراط والمشاركة، خاصةً حين يوفر لهن شكلاً من أشكال الحماية. ويُشير ذلك إلى ترسّخ وتجذّر هذا النظام الأبوي، بما يحمله من معايير تُبقي النساء في موقع التبعية.
ولسوء الحظ، لا يمكن تفكيك هذه البنية بمجرد اعتماد نظام الكوتا. في هذا البلد، إن وجود النساء حول الطاولة لا يعني بالضرورة تمثيلًا ومشاركة فعّالة تسهم في المساواة بين الجنسين أو تؤثر على عدد كبير من النساء. فمعالجة تعقيدات عدم المساواة بين الجنسين بشكل كامل في السياسات يتطلب أكثر من مجرد وجود نساء سياسيات. هو يتطلَّب اقتران الحضور الظاهر بالتأثير الذي يستدعي تحول المشاركة من تمثيل شكلي بحت إلى حضور جوهري. هذا التحول أكثر استدامة، ويمكن أن يجعل فضاءات اتخاذ القرار أكثر ديمقراطية وشمولية وعدالة. ووفق التمثيل الجوهري فقط، يمكن للمشاركة السياسية للنساء أن تغيِّر من معاني السياسة وتُغيّر طريقة اتخاذها، وتجعلها حاملة للقضايا الحقيقية. لقد طغى على الخطاب الراهن التركيز على التمثيل العددي، وهذا حق. لكنه لم يقترن بمطلب تحويل العمليات السياسية لتصبح أكثر شمولا واستجابة وتمثيلًا لمصالح النساء وأصواتهن المتنوعة.
ويحيلنا هذا النقاش بشأن الكوتا الخاصة بالنساء إلى نظام المحاصصة اللبناني، حيث تحصل كل طائفة على كوتا تُحتكر فيها التمثيل من قِبل قوة سياسية مهيمنة تتحكم في قرار الطائفة. هذا يعني أن الطائفة تكون ممثلة، لكن أبنائها لا يُمثلون إلا من خلال تلك القوة المهيمنة.
فهل سيعيد نظام الكوتا النسائية إنتاج نفس الآلية في عقلية المحاصصة، أم ينبغي علينا الانتقال إلى صيغ أخرى تحرر المجتمع من كل أشكال الهيمنة، بما في ذلك الهيمنة الذكورية؟
يقوم الخطاب الراهن على افتراضات وقواعد لعبة النسوية الليبرالية. هذه اللعبة تركِّز على التمكين الفردي والحقوق القانونية من دون معالجة أوجه عدم المساواة النظامية العميقة. وهو التمكين الذي ينقل المسؤولية إلى النساء من دون تغيير البُنى غير المتكافئة، ومن دون أن يعترف بأن دعائم النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي الأبوي هي السبب الجذري لاضطهاد النساء، ومن دون أن يسعى إلى تفكيكه. في إطار هذه اللعبة، يُنظر إلى الأفراد باعتبارهم فاعلين رياديين مسؤولين شخصيًا عن تقدّمهم، مهما كانت الظروف والحواجز التي يواجهونها. هذا التركيز على المسؤولية الذاتية يحتفي بأفكار مختارة وبرَّاقة، مرتبطة بالنسوية مثل تمكين النساء، والاختيار، والاستقلالية، في محاولة للترويج لسردية مفرحة عن تقرير المصير والمهارات الذاتية. سردية تغفل الواقع، وتروِّج لمشهدية تقول إن النساء يمكن أن "يُحققن كل شيء" إذا ما بذلن مزيدًا من الجهد. على السطح، تبدو هذه الرسائل مشجِّعة للنساء، لكن تحليلها يكشف كثيراً. من خلال مخاطبة النساء كفاعلات رياديات، ومن خلال رسائل جذابة مثل "أظهري قدراتك"، ,"اكسري القيود"، ثمة افتراض خاطئ بوجود ملعب متكافىء، وثمة إغفال للبُنى الهيكلية التي تستبعد النساء، وتقصي من هن أقل حظًا بحجة أنهن "أقل جرأةً".
الادوات هذه ليست حكراً على ميدان العمل على المشاركة السياسية. هي تحضر بقوة ايضاً في كل ما يتصل بالمشاركة الاقتصادية للنساء، من خلال اختزال عنوان " التمكين" بتنظيم دورات تدريبية أو توفير قروض ميًّسرة أو مساعدات نقدية. أدوات تبقى ضمن دائرة المقاربة الاشكلية، لا تعالج الاختلالات البنيوية- النظامية- الهيكلية التي تجذِّر الفجوات.
هو خطاب عمل على تكريس الفصل التقليدي بين المجالين الخاص والعام. كان يمكن أن يكون كل استحقاق انتخابي فرصة لإعادة التأكيد على أن قضايا العنف الأسري، والحقوق الإنجابية، والعمل غير المدفوع، والحماية الاجتماعية، والوصول إلى التعليم والصحة، وغيرها من القضايا هي مسائل سياسية بطبيعتها ويجب أن تُعالج في الإطار السياسي الأوسع. غابت هذه القضايا عن الحديث في شأن المشاركة السياسية. في حين أنّه كان بوسعنا، من خلال التركيز على هذه القضايا، توسيع نطاق التحليل السياسي وإيجاد حلول شاملة لانعدام المساواة بين الجنسين.
نعم، يقلقني الخطاب العام الراهن، الذي يُسهم في تشويه النقاش حول قضايا النساء، ويُهدِّد الأجندة النسوية بما هي أجندة من أجل الديمقراطية والمواطنة والعدالة الاجتماعية، وبما هي أجندة كل النساء، وليس أجندة نسويات الطبقات الوسطى. أجندة تعترف بمشاركة النساء اللاتي يبنين المجتمع فعليًا، ويحافظن على صموده، ويشاركن بفعالية في هياكل المجتمع المختلفة للحفاظ عليه حيًا. نساء يوجدن في كل الفضاءات العامة، لا بحسب تصنيفنا الأحادي الجانب. أجندة تعمل على التعبئة على المستوى القاعدي. تنطلق من الناس وإلى الناس. لا تنظر لهم بفوقية، بل تستعمل أدوات ولغة قريبة منهم، بغاية مقاومة كل آليات الاستعلاء والسلطة.
أدرك أن التنوع غنىً، وأن الحراك لم يكن يوماً نسيجاً واحداً، ولكني أشعر بحاجتنا إلى التفكيرفي أسئلة كثيرة.
كيف تُقرر النساء، كل النساء، آليات مواجهة الهياكل الإقصائية، من دون أن تستحوذ النخب على قضاياهن؟ كيف يمكن إعادة إنتاج خطاب في شأن مشاركة النساء، يُنتج من قلب التجربة اليومية، ومن وجع النساء غير المعنيات بأجندة المنظمات والمؤسسات الدولية؟
كيف نعيد الاعتبار لنسوية تعمل من الأسفل إلى الأعلى، تتحدث مع النساء لا عنهن، تبتعد عن تقديم سرديات نمطية عن التمكين في قوالب جاهزة، تعكس واقع الغالبية المهمشة والمُنهَكة من النساء، تقول إن ما نحتاج إليه ليس المطالبة بالمقاعد فحسب، بل إعادة تشكيل الطاولة ذاتها أيضاً؟
ما هي أدوات العمل التي تساعدنا في طرح رؤية مختلفة للمشاركة السياسية، ترتكز على مطالب معيشية واقتصادية وأمنية تمسّ حياة النساء اليومية وتحرِّر الخطاب من مركزيته؟
كيف نعيد التأسيس لمعنى التقاطعية، بكونها نهجًا يساعدنا في فهم كل علاقات القوة والاضطهاد تجاه النساء، وليس من "يُشبهْننا" فقط؟
كيف نستعيد البعد السياسي والنضالي لمفهوم " التمكين"، من خلال أشكلة قضايانا، وفهم مكوناتها، وإبراز ترابطاتها، والكف عن احتساب أرقام من وصلن إلى مراكز القرار، والإصغاء إلى تجارب النساء في الأوضاع الصعبة، وتحليل السرديات التي ستتناهى إلينا، والتعلّم منها، بما يساعدنا على إنتاج خطاب غير أفقـي، غير مجـزأ، غير مفتـت، غير خائف من نفسه ومن هويته؟ كيف نبتعد عن تبني خطـاب لحظـوي سـمته احتقـار الماضـي، والقلـق مـن المسـتقبل؛ في مـا يشـبه مرحلـة اللايقين التي نجتاز
كيف نعيد إعلاء الصوت لتأثيرات المال والاقتصاد في مشاركتنا السياسية، إن لم نُعد التأكيد على النمط الاقتصادي الرأسمالي الإفقاري المهيمن؟
أليس من واجبنا عدم التماهي مع الخطاب الرسمي والحزبي الذي يكرِّس الهيمنة بدل العمل على الغائها، وإعادة التأكيد على أن الكوتا آلية غير معزولة عن كل الإصلاحات الانتخابية الاخرى، وبأن قوانين الأحوال الشخصية هي أحد أسباب إقصاء النساء عن الحيز العام؟
وأسئلة كثيرة أخرى.
لا أدري لِمَ كتبتُ هذه الكلمات. ربما أكتب كل هذا لأنني بتّ أدرك اليوم، أكثر من أي وقت مضى، أن الحنين لا ينفصل عن السياسة. نعم، أنا قلقة، لكنه الاشتياق الذي ما برح يفتش عن كل مناسبة يستذكر فيها أبًا، هو النسوي الأول في حياتي.