
الديون العامة في العراق: تحديات متفاقمة وحلول ممكنة - د. عبدالرحمن المشهداني
د.عبد الرحمن نجم المشهداني
الديون العامة في العراق: تحديات متفاقمة وحلول ممكنة - د. عبدالرحمن المشهداني
يشكّل الدين العام في العراق واحداً من أبرز التحديات الاقتصادية والمالية التي تواجه الدولة، في ظل بيئة سياسية واقتصادية معقّدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. فخلال العقدين الماضيين، تعرّض الاقتصاد العراقي لهزّات متكررة نتيجة الحروب، العقوبات، تقلب أسعار النفط، والفساد الإداري والمالي، ما جعل معالجة مسألة الديون مهمة ملحّة لضمان الاستقرار المالي والتنمية المستدامة.
أولاً: التحديات الكامنة وراء تنامي الدين العام
1- تضخم الإنفاق التشغيلي
أحد أكبر أسباب تصاعد الدين العام يتمثّل في الارتفاع الكبير بالإنفاق التشغيلي، وبالأخص بند الرواتب والأجور. فمع تعيين أكثر من مليون موظف جديد في القطاع العام خلال السنوات الأخيرة، تجاوز عدد العاملين في هذا القطاع 4.1 ملايين موظف. هذا الواقع يعني أن فاتورة الرواتب وحدها تستنزف أكثر من 58% من الإنفاق العام (بشقيه التشغيلي والاستثماري)، وتشكل نحو 72% من الإيرادات العامة. وبذلك، تصبح معظم موارد الدولة موجهة نحو تغطية الأجور بدلاً من استثمارها في مشاريع تنموية أو بنى تحتية قادرة على تحريك الاقتصاد.
2- الاعتماد المفرط على النفط
يُعدّ النفط المصدر شبه الوحيد لتمويل الموازنة العامة في العراق، إذ يساهم بنحو 90% من إيراداتها. ورغم وفرة الموارد الطبيعية والبشرية، ما يزال العراق عاجزاً عن تنويع مصادر دخله عبر تعزيز الإيرادات غير النفطية كقطاعي الزراعة والصناعة أو فرض نظام ضريبي فعّال. هذه التبعية المفرطة تجعل الاقتصاد هشّاً أمام تقلبات أسعار النفط في الأسواق العالمية، وتضع المالية العامة تحت رحمة الأزمات النفطية.
3- التوسع في الاقتراض الداخلي
لجأت الحكومة العراقية إلى الاقتراض المكثف من المصارف الحكومية لتغطية نفقات الرواتب والأجور. وقد تجاوز حجم هذه القروض 90 تريليون دينار عراقي (نحو 69 مليار دولار)، ما ضاعف أعباء الدين الداخلي، وزاد من الضغط على النظام المصرفي المحلي، وخلق حلقة مفرغة من الديون غير المنتجة.
4- غياب الاستدامة المالية
المعضلة الكبرى ليست في حجم الدين فقط، بل في كيفية استخدامه. فالأموال المقترَضة لم توجَّه إلى مشاريع استثمارية قادرة على خلق قيمة مضافة، بل استُخدمت في تمويل النفقات الجارية والاستهلاكية. وهذا الأمر يمنع الدين من التحول إلى رافعة للتنمية، ويجعل خدمة الدين (الفوائد والأقساط) عبئاً متراكماً على الموازنة.
ثانياً: السبل الممكنة للمعالجة
إن معالجة أزمة الدين العام في العراق تتطلب رؤية شاملة تجمع بين إصلاحات داخلية وإجراءات دعم خارجي.
1- إعادة توجيه الدين نحو الاستثمار
ينبغي توظيف القروض وأدوات التمويل الخارجي في تمويل النفقات الاستثمارية، لا التشغيلية. ذلك يعني توجيهها إلى مشاريع إنتاجية في البنى التحتية، الطاقة المتجددة، الزراعة، والصناعة، بما يحقق عوائد اقتصادية مستدامة تساهم في سداد الدين وتخفيف عبئه على الأجيال المقبلة.
2- مكافحة الفساد المستشري
الفساد الإداري والمالي استنزف الجزء الأكبر من تخصيصات المشاريع التنموية والخدمية. لذا، فإن أي إصلاح اقتصادي سيبقى بلا جدوى ما لم تُتخذ إجراءات حقيقية لمحاربة الفساد عبر تفعيل الأجهزة الرقابية، تعزيز استقلالية القضاء، وضمان الشفافية في إدارة المال العام.
3- إصلاح الاقتصاد وتقليل الاعتماد على النفط
إعادة هيكلة الاقتصاد العراقي ضرورة قصوى. ويتطلب ذلك تحفيز القطاعات غير النفطية وتنمية الإيرادات الضريبية والجمركية. كما يجب تطوير البنية التشريعية والمؤسسية التي تشجع الاستثمارات المحلية والأجنبية، بما يساهم في تقليل الاعتماد المفرط على النفط كمورد وحيد للإيرادات العامة.
4- تمكين القطاع الخاص
إعطاء دور أكبر للقطاع الخاص في قيادة العملية الاقتصادية أمر حتمي. فالقطاع الخاص العراقي ما زال يعاني من التهميش والقيود البيروقراطية، وأحياناً من الابتزاز. تحريره من هذه العراقيل، وتمكينه من المشاركة الفاعلة في تنفيذ المشاريع، سيخلق فرص عمل جديدة ويخفف العبء عن القطاع العام المتضخم.
5- إصلاح نظام التوظيف والرواتب
لا يمكن الاستمرار في توظيف أعداد ضخمة في القطاع العام على حساب الاستدامة المالية. المطلوب هو إعادة النظر في هيكلية التوظيف ووضع نظام موحد وعادل للرواتب والمخصصات، خاضع للضريبة، يحدّ من الفوارق غير المبررة ويشجع على الكفاءة والإنتاجية.
ثالثاً: البعد الدولي في معالجة الأزمة
على الصعيد الدولي، يحتاج العراق إلى دعم فني ومالي من المؤسسات الدولية، ولكن ضمن شروط تضمن الاستخدام الرشيد للقروض. فالتعاون مع صندوق النقد الدولي والبنك الدولي يمكن أن يساعد في صياغة برامج إصلاح مالي واقتصادي، شرط أن تُدار محلياً بما يراعي الخصوصية العراقية. كذلك، يمكن الاستفادة من تجارب دول أخرى في إعادة هيكلة الديون، أو اللجوء إلى مبادرات شطب الديون أو إعادة جدولتها مقابل التزامات إصلاحية واضحة.
خاتمة
أزمة الدين العام في العراق ليست مجرد قضية مالية، بل هي انعكاس لبنية اقتصادية مشوّهة تقوم على الاعتماد على النفط، سوء الإدارة، وتفشي الفساد. ولا يمكن الخروج من هذه الأزمة إلا برؤية متكاملة تُعيد الاعتبار للتخطيط الاقتصادي الرشيد، وتوظف الدين كأداة للتنمية لا كعبء على الأجيال. فالمطلوب اليوم ليس فقط إدارة الدين، بل إعادة بناء الاقتصاد العراقي على أسس أكثر صلابة وعدالة واستدامة.