الديون السيادية في المنطقة العربية: بين استدامتها وعدالة السياسات الضريبية - أحمد محمد عوض
الديون السيادية في المنطقة العربية: بين استدامتها وعدالة السياسات الضريبية - أحمد عوض
تعد أزمة الديون السيادية في المنطقة العربية واحدة من أبرز التحديات الاقتصادية التي تؤرق الحكومات والمجتمعات على حد سواء. مع تزايد مستويات الدين العام بشكل غير مسبوق، باتت العديد من الدول تواجه صعوبات جمة في الوفاء بالتزاماتها المالية دون اللجوء إلى إجراءات تقشفية تمسّ الخدمات الأساسية وتثقل كاهل الفئات الأكثر هشاشة. هذا الوضع يعكس إشكاليات هيكلية في إدارة المالية العامة والاعتماد المتزايد على الاقتراض الخارجي والداخلي كحلول مؤقتة للأزمات المالية المتصاعدة.
استدامة الديون السيادية، التي تعني قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها المالية دون الإضرار بالاقتصاد أو المساس بحقوق المواطنين، أصبحت هدفًا صعب التحقيق في ظل الارتفاع الحاد لمستويات الدين في العديد من الدول العربية. وفقًا لتقارير صادرة عن صندوق النقد الدولي، وصلت مدفوعات خدمة الدين في بعض الدول النامية إلى مستويات قياسية، حيث تستهلك ما يقارب 14% من إجمالي الإيرادات العامة، متجاوزة ما يُنفق على قطاعي الصحة والتعليم مجتمعين.
خلال الاجتماعات السنوية لصندوق النقد والبنك الدوليين، التي عُقدت في العاصمة الأمريكية واشنطن في أكتوبر الماضي، كان موضوع الديون السيادية أحد المحاور الرئيسية للنقاش. وناقشت الشبكة العربية للمنظمات غير الحكومية للتنمية، إلى جانب مواضيع أخرى تتعلق باستدامة تمويل التنمية، هذه الأزمة وآثارها على دول الجنوب، بما فيها الدول العربية. وقد سلطت المناقشات الضوء على السياسات التقشفية التي تُفرض كشرط لإعادة هيكلة الديون، ودورها في تقويض استقرار المجتمعات وإضعاف قدرتها على تحقيق أهداف التنمية المستدامة.
السياسات التقشفية، التي تركز على خفض الإنفاق العام لسد عجز الميزانيات، غالبًا ما تؤدي إلى نتائج عكسية. ففي العديد من الحالات، تسببت هذه السياسات في تقليص الإنفاق على الحماية الاجتماعية، مما زاد من معدلات الفقر والتفاوت الاجتماعي. في بعض الدول، كالأردن ولبنان، أدى تخفيض المخصصات المالية لقطاعات أساسية مثل التعليم والصحة إلى تفاقم الأزمات الاجتماعية، خاصة في ظل الضغوط الاقتصادية الناتجة عن تداعيات الأزمات الإقليمية والدولية.
لم يكن النقاش حول أزمة الديون السيادية معزولًا عن قضية عدالة السياسات الضريبية. في الدول العربية، يُعتبر النظام الضريبي غير متوازن، حيث يعتمد بشكل كبير على الضرائب غير المباشرة مثل ضريبة المبيعات، التي تُثقل كاهل الطبقات الفقيرة والمتوسطة. بالمقابل، يتم التغاضي عن فرض ضرائب تصاعدية على الثروات والدخول المرتفعة، مما يؤدي إلى تزايد الفجوة بين الأغنياء والفقراء ويُضعف من قدرة الحكومات على تحقيق إيرادات كافية دون اللجوء إلى الاقتراض.
هذه الإشكالية كانت محورا للنقاش خلال الاجتماعات، حيث دعت الشبكة إلى تبني نظم ضريبية أكثر عدالة تستند إلى مبدأ التصاعدية. إصلاح النظام الضريبي في الدول العربية يمكن أن يُسهم في تعزيز الإيرادات المحلية، وتقليل الاعتماد على القروض ذات الشروط القاسية. كما أن تعزيز الحوكمة المالية ومكافحة الفساد يعدان من الخطوات الضرورية لضمان استخدام الموارد العامة بكفاءة، بما يخدم أهداف التنمية المستدامة.
التحديات التي تواجه الدول العربية لا تقتصر على السياسات المحلية، بل تمتد إلى التأثيرات الإقليمية والدولية. النزاعات المسلحة وعدم الاستقرار السياسي في بعض الدول يؤديان إلى تقليص الاستثمارات الأجنبية وزيادة الاعتماد على الاقتراض الخارجي بشروط مُجحفة. الهيكلية غير العادلة للاقتصاد العالمي تزيد من تفاقم الأزمة، حيث تنتقل مليارات الدولارات سنويا من دول الجنوب إلى الدول المتقدمة على شكل فوائد للديون، مما يعمّق الفجوة الاقتصادية ويُثقل كاهل الاقتصادات النامية.
خلال الاجتماعات السنوية، قُدمت العديد من المقترحات من قبل الخبراء المستقلين ومنظمات المجتمع المدني المنخرطة في مسارات التصدي للسياسات الاقتصادي غير العادلة، لمواجهة أزمة الديون السيادية، أبرزها ضرورة إلغاء أو تخفيف أعباء الديون عن الدول الأكثر فقرا ومنهم كاتب هذا المقال.
هذا الإجراء يمكن أن يمنح هذه الدول فرصة لإعادة ترتيب أولوياتها التنموية وتوجيه مواردها لدعم قطاعات التعليم والصحة والبنية التحتية. كما طُرحت فكرة استخدام حقوق السحب الخاصة التي يوفرها صندوق النقد الدولي لتوفير السيولة للدول النامية، إلى جانب مقترحات لإعادة شراء الديون بتمويل مشترك بين الدول الغنية والمؤسسات المالية الدولية.
من بين الحلول الأخرى التي حظيت باهتمام، دعم إصدار اتفاقية دولية لإدارة الديون بشروط عادلة، تضمن استدامة الديون وتخفف من تبعيتها للاقتصاديات العالمية الكبرى. مثل هذه الاتفاقية يمكن أن تسهم في إعادة هيكلة الديون بطريقة تضمن استقرار الاقتصادات النامية وتعزز قدرتها على تحقيق أهدافها التنموية دون تهديد استقرارها الاقتصادي والاجتماعي.
إضافة إلى ذلك، تحتاج الدول العربية إلى تعزيز استثماراتها في القطاعات الإنتاجية، بما يسهم في تقليل الاعتماد على الواردات والاقتراض الخارجي. تحسين بيئة الأعمال وزيادة الدعم للمشاريع الصغيرة والمتوسطة يمكن أن يكون رافعة أساسية لتحقيق نمو اقتصادي مستدام، يُقلل من الأعباء المالية ويُحسن من قدرة الحكومات على الوفاء بالتزاماتها تجاه مواطنيها.
أزمة الديون السيادية في المنطقة العربية ليست مجرد أزمة مالية، بل هي تحدٍ شامل يمس السياسات الاقتصادية والاجتماعية. مع تفاقم الأوضاع، تصبح الحاجة ماسة إلى تبني استراتيجيات جريئة وطويلة الأمد تركز على تحقيق العدالة الضريبية، وتحسين كفاءة إدارة الموارد العامة، وتعزيز التعاون الإقليمي والدولي لإيجاد حلول عادلة ومستدامة. هذه الخطوات، إذا تم تبنيها بجدية، يمكن أن تُمثل نقطة تحول نحو مستقبل أكثر استقرارًا وعدالة للدول العربية وشعوبها.