اتحاد الشغل : من تأييد الرئيس إلى استراتيجية "الخيار الثالث" - صلاح الدين الجورشي
أصبح من المؤكد أن الرئيس سعيد يواجه حاليا عزلة غير مسبوقة داخليا وخارجيا. فكل الأحزاب تقريبا بما في ذلك الأحزاب التي ساندته عندما أقدم على تجميد البرلمان وأقال الحكومة طالبته بوضع سقف زمني للإجراءات الاستثنائية، وانهاء العمل بالمرسوم عدد 117 الذي مكن رئيس الدولة من جميع الصلاحيات والسلط وفتح الباب امام الحكم الفردي. وهو ما سمح بارتكاب انتهاكات عديدة للحريات وحقوق الانسان.
إن تجميع كل هذه الصلاحيات في يد رئيس الدولة بقدر ما منحته قوة استثنائية، بقدر ما حملته مسؤولية كل الملفات التي تعاني منها البلاد في مرحلتها الانتقالية. خاصة بعدما أثبتت الخمسة شهور الماضية أن الرئيس سعيد لا يملك برنامجا اقتصاديا واجتماعيا لمعالجة الأوضاع وتصحيحها. ونظرا لتراكم الأزمات، أخذت معظم الأطراف تعيد النظر في مواقفها من الرئيس، وتجنح نحو الابتعاد عنه تدريجيا، وتوجيه انتقادات متفاوتة لأسلوبه في غدارة شؤون الدولة. حتى الأحزاب التي أيدته في إجراءاته الاستثنائية انقلبت عليه، واتهمته بالاستبداد في الرأي مثلما فعل حزب التيار الديمقراطي. بل إن حركة الشعب التي استمرت في الدفاع عنه إلى اليوم، صرح أمينها العام أن الحركة " سنحمي مسار 25 جويلية حتى من رئيس الجمهورية إن لزم الأمر ".
في هذا السياق وبمناسبة الذكرى التاسعة والستين لاغتيال الزعيم النقابي فرحات حشاد مؤسس الاتحاد العام التونسي للشغل أعلن الأمين العام للاتحاد نور الدين الطبوبي عن أن " كل المؤشرات تنذر بخطر داهم كانت وليدة سياسات فشل متراكمة "، وحذر من استغلال المرحلة الاستثنائية لخدمة مصالح شخصية، كما حذر من حشد البلاد في معارك خاسرة. كانت هذه من بين رسائل أخرى وجهها الاتحاد الى الرئيس سعيد أمام أكثر من ثمانية آلاف نقابي تجمعوا في قلب العاصمة التونسية للتعبير عن قلقهم تجاه تدهور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية وانسداد الآفاق السياسية، ومطالبة رئيس الجمهورية بتحديد خارطة طريق لإخراج البلاد من حالة الغموض التي ازدادت كثافة منذ القرارات الاستثنائية التي تم اتخاذها يوم 25 يوليو/تموز الماضي.
يعتبر الاتحاد العام التونسي للشغل من بين الأطراف الأساسية التي ساندت الرئيس سعيد حيث اعتبر ان لحظة 25 يوليو/تموز هي "حركة تصحيحية"، ورفض وصف ما حصل بالانقلاب، وتصدى لما اعتبره تدخلا خارجيًا في الشؤون الوطنية، منددا بلجوء البعض الى الاستعانة بأمريكا والاتحاد الأوربي، ورأى في ذلك عودة الى لحظة الاستعمار المباشر. كما اعلن عن استعداده الكامل لوضع نفسه تحت تصرف رئيس الدولة من اجل إنقاذ الدولة والثورة من خلال تنظيم حوار معمق. وشكل لجانا لصياغة مقترحات يمكن ان تساعد على نجاح هذا الحوار. لكن رغم هذه المواقف الهامة التي أعلن عنها الاتحاد، والتي جعلته عرضة لانتقادات واسعة في الداخل والخارج، الا أنه لم يجد تجاوبا من قبل رئيس الدولة الذي بدل أن يلتقط مبادرة اتحاد الشغل وينطلق منها نحو احداث منعرج جديد يعزل به خصومه السياسيين وفي مقدمتهم حركة النهضة، ويخفف من حدة الضغوط الخارجية، استمر في تهميش الاتحاد، وواصل السير نحو التمهيد لمشروعه السياسي المتمثل في "الديمقراطية القاعدية" التي تهمش الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، وتؤسس لعلاقة مباشرة بين الرئيس والشعب.
أدركت القيادة النقابية - بعد مرور أكثر من أربعة شهور عن قرارات 25 يوليو/تموز دون خارطة طريق - أن قيس سعيد غير مستعد للحوار معها أو اشراكها في أي قرار ينوي اتخاذه، وأنه مصر على تهميشها، خاصة بعد أن سمح لأنصاره بالهجوم على الاتحاد من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، ووصفه بكونه "اتحاد الخراب"، لهذا قررت تغيير موقفها من رئاسة الجمهورية، وحملتها مسؤولية الدفع بالبلاد نحو المجهول.
حصل هذا التحول النقابي في ظل تراجع مختلف المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية نتيجة عوامل عديدة من أهمها توقف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي المتمسك بضرورة دخول تونس في اصلاحات يعتبرها أساسية ومقدمة ضرورية لتمكينها من قروض جديدة. وتعتبر هذه المفوضات مع الصندوق التي عادت بشكل غير رسمي وبطلب من الحكومة شرط لابد منه حتى تستأنف بقية مؤسسات التمويل الدولية والاقليمية تعاونها مع تونس. وهو ما زاد في تعميق الأزمة المالية والاقتصادية، خاصة وأن الحكومة التي تقودها شكليا السيدة نجلاء بودن، لا تملك الخبرة الضرورية لمعالجة مثل هذه الأوضاع، وليس لديها برنامج واضح المعالم، ولا تتمتع بهامش يسمح لها بالحركة والمبادرة الا من خلال الرجوع الى رئيس الدولة الذي بدوره ليست لديه رؤية في كل ما يتعلق بالاقتصاد. وهو جعل الحكومة ترتجل ميزانية تكميلية للسنة الحالية ( 2021 ) تعاني من نقص فادح تجاوز 9 مليار دينار. وهي ميزانية لم تقع مناقشتنا أو اقرارها من قبل كل الأطراف المعنية، وذلك في غياب البرلمان المجمد. كما لم تطرح الحكومة تصورا حول ميزانية السنة القادمة 2022.
أما على المستوى السياسي فقد اتسعت رقعة الأحزاب المناهضة لرئيس الجمهورية والضاغطة عليه من أجل استئناف المسار الديمقراطي والرافضة للحكم الفردي. لكن هذه الأطراف الحزبية لا تزال مختلفة فيما بينها، وغير متفقة على خطة عمل مشتركة تكون قادرة على تصحيح الأوضاع في بلد لم يهتد بعد الى الطريق الأمثل لإنقاذ ثورته المهددة. هذا الاختلاف بين الأحزاب يمثل العقبة الرئيسية أمام بناء جبهة موحدة من أجل الدفاع عن الديمقراطية، وهو ما جعل الرئيس سعيد المستفيد الرئيسي من ذلك مما دفعه نحو مواصلة طريقه غير عابئ بمواقف الأحزاب وصراعاتها التي لا تنتهي. أمام هذا الوضع المعقد أعلن اتحاد الشغل دخول المعركة السياسية بخطة مختلفة. تتمثل هذه الخطة في تنظيم مشاورات مع منظمات وشخصيات وطنية من أجل الدعوة إلى لقاء وطني يؤسس لما سماه ب "توجه ثالث" عنوانه "الانقاذ في كنف السيادة الوطنية". لقد رفضت قيادة الاتحاد الانحياز الى المعارضة الراديكالية التي تضم الإسلاميين وحلفائهم الى جانب شخصيات يسارية وليبرالية مستقلة تتحرك الآن تحت مظلة عنوانها "مواطنون ضد الانقلاب"، وتسعى الى عودة البرلمان واسقاط القرارات الاستثنائية عبر تعبئة الشارع وتوظيف الضغط الدولي من أجل دفع الرئيس نحو التراجع أو إسقاطه إن لزم الأمر. كما توقف الاتحاد في المقابل عن الانحياز للرئيس والوقوف الى جانب أنصاره الذين لا يزالون يمثلون إشكالا في المرحلة الراهنة، ويتعاملون بعداء شديد مع النقابيين.
هكذا قرر الاتحاد العام التونسي للشغل الوقوف في وسط الطريق، والجمع من جديد بين الدفاع عن حقوق الطبقة الشغيلة من جهة، والقيام بدور سياسي من جهة أخرى بعيدا عن حركة النهضة ودون الوقوع تحت "وصاية" الأطراف الأجنبية التي لم تعد تثق في قدرة الرئيس سعيد على قيادة تونس في هذه الظروف الصعبة. فهل ينجح الاتحاد بموقفه الوسطي في انقاذ تونس من الانهيار المحتمل؟ الايام والأسابيع القادمة كفيلة بتحديد الجواب.
صلاح الدين الجورشي