Nov 12, 2025
من الفاشر إلى العالم: المرأة السودانية في قلب النزاع، بين عنف الدولة والمقاومة - نعمات كوكومحمد
نعمات كوكو
ناشطة

الرجاء الضغط هنا لنبذة والمنشورات

من الفاشر إلى العالم: المرأة السودانية في قلب النزاع، بين عنف الدولة والمقاومة - نعمات كوكو محمد


في أحد أطراف مدينة الفاشر، وبين خيام النزوح التي لا تقي حرًّا ولا بردًا، كانت أمينة تحاول أن تُسكت طفلها الرضيع الذي يبكي من الجوع. لم تكن تملك شيئًا سوى قنينة ماء وبعض الذكريات التي تحاول أن تطردها من رأسها كلما أغمضت عينيها. قبل عامين، كانت تعيش في بيت بسيط، تزرع أرضًا صغيرة وتعلّم بناتها كيف يقرأن. اليوم، لا بيت، لا أرض، ولا بنات. فقدت اثنتين منهن في القصف، والثالثة اختفت في طريق النزوح، ولا تعرف إن كانت حية أم لا.

أمينة ليست حالة استثنائية. هي واحدة من ملايين النساء اللواتي وجدن أنفسهن فجأة في قلب حرب لا ترحم، تُستخدم فيها أجساد النساء كسلاح لإذلال المجتمعات، وتُمارس فيها أبشع أشكال العنف الجنسي بما فيه سلاح الاغتصاب، حتى فيما يُسمى بالمناطق "الآمنة". تقول بصوت خافت: "لم أعد أخاف الموت، أخاف أن أنجو".

في السودان اليوم، هناك آلاف مثل أمينة. نساء حوامل يلدن على قارعة الطريق، فتيات يُجبرن على النزوح، ناجيات من الاغتصاب الجماعي يحاولن الانتحار، وأمهات يبحثن عن أطفالهن بين القبور الجماعية. ومع كل هذا، لا تزال أصواتهن تُهمّش، ولا تزال الحماية غائبة، والمحاسبة مؤجلة، والعدالة بعيدة.

لكن أمينة، رغم كل شيء، ترفض أن تُكسر. في كل صباح، تملأ قنينة الماء، وتغني لطفلها أغنية كانت ترددها لبناتها.

البداية

في ظل الحرب المستعرة في السودان منذ أبريل 2023، تتصدر النساء والفتيات مشهد المعاناة، حيث يتحول العنف الجنسي إلى سلاح ممنهج يُستخدم لإذلال المجتمعات، وتُرتكب انتهاكات جسيمة في مناطق النزاع، من دارفور إلى الخرطوم والجزيرة. ورغم اتساع رقعة العنف، تواصل النساء السودانيات، من مختلف الطبقات والمواقع الاجتماعية، مقاومته بكل أشكالها، مطالبات بالسلام، وحماية الحياة، واستعادة الكرامة.

هذا العام، وبينما تحيي الحركات النسائية حول العالم حملة الـ16 يوم لمناهضة العنف القائم على النوع الاجتماعي، تقف النساء السودانيات في قلب المأساة، لا كمجرد ضحايا، بل كفاعلات في مواجهة حرب تُستخدم فيها أجسادهن كساحة للصراع. ويأتي ذلك في وقت يصادف مرور 25 عامًا على قرار مجلس الأمن 1325 بشأن المرأة والسلام والأمن، الذي أكد على ضرورة حماية النساء أثناء النزاعات، وعلى أن السلام المستدام لا يتحقق دون مشاركتهن الكاملة في صناعته.

لكن الواقع السوداني اليوم يكشف عن فجوة مؤلمة بين الالتزامات الدولية والممارسات على الأرض، حيث تتعرض النساء لانتهاكات ممنهجة، وسط غياب آليات الحماية والمحاسبة، وصمت دولي وإقليمي مريب. ومع ذلك، تظل المرأة السودانية حاضرة، تقاوم، وتُطالب، وتُعيد تعريف دورها في زمن الحرب.

المرأة السودانية وعنف الدولة الممنهج

تجلي عنف الدولة في السودان خلال فترة الحكم العسكري الإسلامي بتدبير وقيادة الحركة الإسلامية وقدمت مشروعها الحضاري في إطار برنامج متكامل للإسلام السياسي سياسيا واقتصاديا واجتماعيا حيث فرضت منظومة متكاملة من السياسات والتشريعات التي قصد منها التغيير الاجتماعي وفرض بنية ثقافية متكاملة استهدفت التاريخ النضالي للمرأة السودانية انتقاما لما تم من انقسام في "الاتحاد النسائي السوداني" عام 1954 م عندما تم نقاش فكرة تبني منظومة الحقوق الاقتصادية والسياسية كمشروع متكامل لتحرر المرأة وتحقيق المساواة مع الرجل ومن ثم اختارت القيادات النسائية الإسلامية الانقسام وواصل "الاتحاد النسائي السوداني" مسيرته ومشواره في تحقيق برنامجه واصبح رائدا للحركة النسائية الديمقراطية وتأثرت خطواته العملية هبوطا وصعودا في السياق العام من حيث طبيعة الدولة من نظام شمولي الي وضع ديمقراطي، الا انه ظل متمرسا في خانة الدفاع عن حقوق المرأة ربطا بمنظومة القيم الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.

ومن هنا كان الاستهداف الواضح من أجل تقييد حركة المرأة السودانية حيث فرضت منظومة متكاملة من التشريعات والقوانين خاصة قوانين النظام العام التي قيدت حرية النساء في الفضاء العام، فرض الزي الإسلامي مما أدى إلى اعتقالات تعسفية بسبب ما سمي "الزي الفاضح"، هذا بجانب تضييق فرص العمل واستخدام سلاح الفصل التعسفي من مؤسسات الدولة بسبب الزيادة الملحوظة للنشاط النقابي مما أربك النظام الاقتصادي الرسمي وأدى إلى توسع القطاع الغير منظم خاصة بعد انهيار القطاعات الإنتاجية "الزراعة والصناعة" مع التزايد الملحوظ في ارتفاع نسبة البطالة وسط الشباب خاصة "الشابات".

لقد شكلت هذه الأسباب من العنف المنظم ضد المرأة واقعا جديدا أتسم بالوعي الحقوقي نتيجة لاندياح وتوسع قاعدة العمل المدني خاصة المنظمات الحقوقية، المنظمات النسائية والشبابية مما شكل البيئة المواتية للحراك العام منذ 2018 من أجل الثورة والتغيير، وشكلت المرأة السودانية أكثر من 70 % من شارع الثورة بشهادة بعض الدراسات وكان رأس الرمح فيها جيل الشابات الذي عانى حقيقة من كافة أشكال عنف الدولة. أما في مناطق الحروب والنزاع مثل دارفور وجبال النوبة فقد تعرضت النساء منذ 2003 م لانتهاكات جسيمة، منها الاغتصاب الجماعي كأداة حرب وسلاحا للهوية، والتهجير القسري والذي يستهدف تغيير البنية الديمغرافية للسكان في إطار الصراع والتحكم في الموارد، مع توسع دائرة الفقر والتهميش الاقتصادي والاجتماعي والذي أدى بدوره إلى ظاهرة ما يسمى بأحزمة الفقر حول المدن الرئيسية والغالبية وأصبحت أغلب الأسر مسئولة عنها نساء، وهذا بدوره زاد من حجم القطاع الغير رسمي والذي يقدر بانه يساوي أكثر من 68 % من هيكلية بنية الاقتصاد العام.

أن الحرب الحالية (2023–2025) والتي بدأت بين الجيش والدعم السريع وبدعم وتدخل إقليمي ودولي أدت إلى تصاعد العنف الجنسي ضد النساء خاصة في دارفور والخرطوم والجزيرة من قبل قوات الدعم السريع ولم تستثني ما يسمى بالمناطق الآمنة التي تقع تحت سيطرة قوات الجيش وميلشياتها، و بحسب بعض التقارير الأممية، تم تسجيل وتوثيق 1392 حالة عنف جنسي منذ بداية الحرب مع عدم دقة الإحصاءات لصعوبات واجهت مشروع التوثيق وهذه الأرقام تمثل فقط 2% من حجم الانتهاكات على أرض الواقع، خاصة أن قوات الدعم السريع "الجنجويد" قد استخدمت العنف الجنسي خاصة الاغتصاب سلاحا لإذلال المجتمعات المحافظة في الجزيرة ولأسباب عرقية في دارفور وإجبارهم على النزوح القسري من ديارهم، كما أن هناك آلاف من الدعاوى الجنائية المتعلقة بالانتهاكات حيث يُقدر أن 6.7 مليون شخص معرضون لخطر العنف القائم على النوع الاجتماعي في السودان وتعتبر النساء والفتيات النازحات واللاجئات والمهاجرات معرضات للخطر بشكل خاص للانتهاكات الجنسية كما يواجهن أخطارا مضاعفًة من كافة أشكال العنف، الوصمة الاجتماعية وانعدام الحماية القانونية والاجتماعية مع سوء الأحوال النفسية.

المقاومة في زمن الحرب

ظلت المرأة السودانية ومن مواقعها الاجتماعية والطبقية متمترسة في الدفاع عن منظومة حقوقها السياسية والاقتصادية والاجتماعية رغم كافة أشكال عسف وعنف الدولة وواصلت نضالها في قيادة الحراك الشعبي منذ انتفاضة ديسمبر 2018 حيث لعبت النساء دورًا محوريًا في الثورة، ورفعن شعار "حرية، سلام، وعدالة". كما رفعت شعار التقاعس والتراجع ليس خيارا منذ اندلاع هذه الحرب الكارثية في أبريل 2023 حيث وجدت النساء أنفسهن في قلب الأزمة، لا كضحايا فقط بل كفاعلات أساسيات في الحفاظ وحماية الحياة ومواجهة الانهيار المجتمعي ومواجهة كافة أشكال العنف والمطالبة بالعدالة.

تقدر المبادرات النسائية والنسوية بأكثر من 70 كيانًا تطالب بوقف الحرب وبناء السلام وبالمشاركة الفاعلة في جهود مستقبل البلاد، ومع تحمل المسؤوليات المجتمعية في غياب الرجال بسبب القتال أو النزوح فقد أصبحت النساء المعيلات الرئيسيات لأسرهن، يقمن بدور الأم والمربية والممرضة وصانعة القرار، بالإضافة إلى التصدي للجوع والخوف في مخيمات النزوح وقد صنعن من اللاشيء ملاذًا لأسرهن، رغم انهيار شبكات الدعم الحكومي والاجتماعي. كما شاركت في غرف الطوارئ التي تعد بمثابة "حكومة محلية إسعافية" أنشأها شباب متطوعون بهدف تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين الذين يواجهون خطر الموت والجوع والمرض وصعوبة الحصول على مياه الشرب والكهرباء وخدمة الاتصال، ولم يقتصر دور هذه الغرف على المساعدات الإنسانية بل ساعدت في إجلاء الناس من خطوط النار. وبتزايد أعداد النازحات قامت بعض الشابات بإنشاء "غرف الطوارئ النسائية" استجابة لاحتياجات النوع الاجتماعي مثل الفوط الصحية وتوفير بروتوكول العنف الجنسي والاغتصاب وخدمات الصحة الإنجابية.

ختامًا

رغم كافة التحديات يبقى السؤال المطروح، هل تستطيع المرأة السودانية ومن مواقعها المختلفة الضغط لوقف الحرب وتحقيق السلام المستدام وتجاوز حالة الشتات التي تطغي على المشهد السياسي والمدني؟ الجواب يعتمد على تضافر جهود الجميع بما فيها صوت المرأة من خلال العمل على وضع الأجندة المشتركة التي تضمن صوت واحتياجات النساء من كافة المواقع خاصة النساء في مراكز النزوح ودول اللجوء ويظل منهج المشاركة المجتمعية هو الطريق الذي يضمن التنسيق الفاعل وارتفاع الصوت المسموع في كافة منابر المنظمات الدولية والإقليمية التي تسعى لوقف الحرب وإحلال السلام لبناء سودان الثورة والتغيير الذي يقوم على حقوق المواطنة المتساوية وبناء دولة المستقبل .... الدولة المدنية الديمقراطية.

احدث المنشورات
Dec 02, 2025
حزمة بيليم السياسية: تقدمٌ مؤسسي أم وهمٌ يغطي التراجع المناخي؟ - رامي أبي عمّار
Dec 01, 2025
الشبكة في مؤتمر القمة العالمي الثاني للتنمية الاجتماعية: تقدم مُحرَز، والتزامات غائبة – زهرة بزّي