مرصد الفضاء المدني
تونس: الفضاء المدني المهدّد
التقارير الوطنية حول الفضاء المدني لعام 2022
تشرين الثاني/ نوفمبر 2022
إعداد: صلاح الدين الجورشي
مقدمة - الرجاء الضغط هنا لتحميل التقرير.
تمرّ تونس بأزمة هيكلية وعميقة ألحقت الضرّر بكلّ المجالات والمؤسسات، بما في ذلك الفضاء المدني الذي تعرّض ولا يزال لامتحانٍ عسير. وإذ شهدت البلاد خلال السنوات العشر الماضية حالةً من عدم الاستقرار وتراجع نسب النُّموّ وتفاقم المشكلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، إلّا أن الأوضاع ازدادت سوءاًّ منذ أن تولّى الرئيس قيس سعيد السلطة الكاملة في الخامس والعشرين من تموز/جويلية 2021، وقام بحلّ البرلمان وإلغاء الدستور وإعلان حالة الاستثناء، فتفاقمت الأزمة وتعدّدت انعكاساتها على جميع المجالات والقطاعات. إذ لأول مرّة منذ الثورة يجد الفضاء المدني نفسه معرّضاً لمخاطر جدّية، جعلت القائمين عليه يستعدّون من جديد لخوض معارك على مختلف الجبهات من أجل الحفاظ على المكاسب التي حقّقوها بعد نضالات وتضحيات كبيرة. ورغم أن فعّاليات المجتمع المدني بمختلف القطاعات الحيوية مثال النقابات والجمعيات النسَوية والحركة الحقوقية والفعّاليات الطلابية، استمرت بنسقٍ متفاوتٍ إلّا أن الحدث الرئيسي الذي اخترق جميع هذه الفعاليات طيلة الفترة الزمنية التي يغطّيها هذا التقرير هو التحدّي الذي واجهته جميع الأطراف، والذي يتمثّل في التغيير الذي حصل على رأس السلطة واستهدف المنظومة السياسية والمدنية برُمّتها.
الوضع السياسي
سياسياً، انفرد الرئيس سعيد بكلّ السلطات، ولم يعُد في حاجة الى استشارة أيّ طرف إلّا في حالات نادرة واستثنائية، وغالباً ما يكون ذلك في مسائل تقنية لا علاقة لها بالاختيارات السياسية الكبرى للدولة وبتسيير الشأن العام. كما دخل الرئيس في حربٍ مفتوحة مع أغلب الأحزاب، خاصةً الوازنة منها. تمثّل ذلك في حلّ البرلمان بعد تجميده، ومنع نوّابه من السفر، واعتبارهم "متّهمين" إلى أن تثبت براءتهم. وفي غياب سلطة تشريعية مُنتخبة، قرّر الرئيس سعيد حكم البلاد عبر المراسيم. وأصدر في هذا السياق المرسوم عدد 117 الصادر بتاريخ 23 أيلول/سبتمبر 2017، الذي بموجبه منح لنفسه صلاحيات مُطلقة، من أهمها إصدار قوانين في شكل مراسيم تشمل جميع مجالات الحياة دون استشارة أو موافقة أيّ طرفٍ من الأطراف بما في ذلك المؤسّسات الدستورية. كما نظّم استشارة وطنية تمهيداً لإصدار دستورٍ جديد. ورغم أن هذه الاستشارة لم يشارك فيها سوى أقل من ثلث المسجّلين في القائمات الانتخابية، إلا أنه اعتمد على النتائج التي أسفرت عنها، ومضى مباشرةً نحو إصدار دستورٍ جديد بحجة أن 94 % من المشاركين في الاستشارة صوّتوا بنعم، رغم أن أغلب هؤلاء لم يطالبوا باستبدال دستور 2014.
كان يُفترض أن تشارك الأحزاب ومكوّنات المجتمع المدني وعموم المواطنين في مناقشة أفكار الدستور الجديد والمساهمة في صياغته، لكنّ رئيس الدولة اختار في البداية تعيين لجنة تتكوّن من أفراد متناثرين لا يجمع بينهم سوى الولاء لشخصه ورغبتهم المشاركة في وضع دستورٍ بديل يسحب البساط من أحزاب المرحلة السابقة. ورغم مقاطعة جميع عُمداء الجامعات، والأغلبية الواسعة جداً من ممثّلي الطَيف السياسي والمدني لهذ اللجنة، بذل رئيسها المعيّن أستاذ القانون الدستوري العميد الصادق بلعيد جهوداً حتى توّجت أشغالها بتحرير وثيقة دستورٍ بديل تم رفعها إلى رئيس الدولة، لكن وبدلَ أن يتمّ اعتماد هذه الوثيقة، فاجأ سعيد الجميع بنشر دستورٍ جاهز قام بصياغة جميع فصوله، ونشره في الرائد الرسمي.
ما فعله رئيس الدولة مع الدستور، كرّره مع القانون الانتخابي الجديد الذي حرّره بنفسه، وأصدره بتاريخ 15 أيلول/سبتمبر 2022، واعتمد فيه نظام الاقتراع على الأفراد بدلَ القوائم، والذي بمُقتضاه سيتمّ تنظيم الانتخابات البرلمانية بتاريخ 17 كانون الأول/ديسمبر 2022. وبموجب هذه التعديلات، تمّ إقصاء الأحزاب السياسية من المشاركة. كما أن البرلمان القادم وفق الدستور الجديد ليس من صلاحياته محاسبة الحكومة أو رئيس الدولة، ولن يكون المرشّحون ممثّلين عن الشعب، وإنّما يمثّلون منتخبيهم في الدوائر المحلية، ويمكن عزلهم من خلال استعمال آليّة سحب الوكالة منهم.
وحتى يستولي على جميع مقاليد الدولة، ألغى الرئيس سعيد صفة السلطة المستقلّة عن القضاء، الذي اعتبره وظيفة كبقية الوظائف تخضع لإرادة السلطة التنفيذية ممثّلةً برئيس الدولة. كما ألغى التنصيص على المجلس الأعلى للقضاء في الدستور، وهو مجلس تمّ انتخابه بعد الثورة لأول مرّة في تاريخ البلاد، واعتُبر من أهم المكاسب التي ناضل من أجلها مئات القُضاة. بذلك أصبح رئيس السلطة التنفيذية هو المسؤول مباشرةً على القضاء، في تعدٍّ صارخ على مبدأ الفصل بين السلطات. وقرّر في السياق نفسه إعفاء 57 قاضياً عن العمل بتُهمٍ مختلفة. ورغم نقض المحكمة الإدارية لهذا الإجراء التعسّفي نظراً لخلوّ ملفات المعفييّن من أدلّة تثبت صحة الاتهامات الموجّهة إليهم، أصرّ الرئيس سعيد على طردهم. ولا يزال هذا الملف معروضاً على هيئاتٍ قضائية دولية، بما في ذلك تلك التابعة للأمّم المتّحدة التي اعترضت في أكثر من مناسبة على مختلف القرارات سواءَ المتعلّقة بالمس من استقلال القضاء أو بغيره من المؤسّسات الدستورية.
الرجاء الضغط هنا لتحميل التقرير.