
السياق السياسي العام لمشاركة السودان في المراجعة الوطنية الطوعية - مدني عباس مدني

السياق السياسي العام لمشاركة السودان في المراجعة الوطنية الطوعية - مدني عباس مدني
مقدمة
يناقش هذا المقال تأثير السياق
السياسي العام على مشاركة السودان في المراجعة الوطنية المتعلقة بتنفيذ أهداف
التنمية المستدامة من عدة زوايا. ويركّز على أهم المتغيرات السياسية الرئيسية
المؤثرة، مع التركيز بصورة أكبر على فترة الحرب المستمرة في السودان منذ عام 2023.
كما يتناول التحديات التي تعترض إعداد تقرير يعكس الأوضاع بدقة، إلى جانب
المعالجات التي يمكن أن تسهم مستقبلاً في إعداد تقرير يعبّر بشكل صحيح عن التقدّم
المحرز أو التعثر في مسار تحقيق أهداف التنمية المستدامة في السودان.
بين الثورة
والحرب
شهد السودان خلال السنوات السبع
الأخيرة تغييرات سياسية كبيرة، تمثلت في اندلاع ثورة ديسمبر 2018 التي أطاحت
بالبشير بعد حكم استمر ثلاثين عامًا، وما أعقبها من تشكيل حكومة انتقالية استمرت
حتى أكتوبر 2021، حين وقع انقلاب عسكري تبعته اندلاع الحرب السودانية في أبريل
2023.
شهدت الفترة الانتقالية، التي امتدت
لعامين، حراكًا مدنيًا واسعًا ومساحة أفضل لعمل المجتمع المدني، إلى جانب اهتمام
أكبر بالمسألة التنموية، باعتبار أن العامل الاقتصادي كان من أبرز محفزات الثورة
السودانية. كما تبنت الحكومة الانتقالية مفهوم "الدولة التنموية
الديمقراطية"، وحققت إنجازات في الانضمام لمبادرة "الهيبك" لإعفاء
الديون، إضافة إلى حصولها على دعم البنك الدولي لمشروع "ثمرات" للحماية
الاجتماعية. ورغم ذلك لم يُعدّ تقرير طوعي حول أهداف التنمية المستدامة خلال تلك
الفترة، بل أُنجز لاحقًا في عام 2022.
أما بعد انقلاب 25 أكتوبر، فقد واجهت
حكومة الانقلاب صعوبات عديدة في استئناف الاتفاقات التنموية التي أُبرمت خلال
الفترة الانتقالية، في ظل غياب الاعتراف الدولي والاحتجاجات السياسية التي استمرت
حتى اندلاع الحرب في أبريل 2023. ورغم إعداد السودان تقريرًا حول سير تنفيذ أهداف
التنمية المستدامة، إلا أنه لم يُنجز في إطار تشاوري واسع مع المجتمع المدني، الذي
بدأ يتعرض للتقييد بعد الانقلاب.
مع اندلاع الحرب في 15 أبريل 2023،
شهد السودان تغييرات سياسية واقتصادية جذرية. إذ بات أكثر من 30 مليون سوداني
بحاجة إلى المساعدات الإنسانية، وفرّت أعداد هائلة من السكان إلى مناطق أكثر
أمانًا داخل السودان أو إلى دول الجوار. ويُقدّر عدد اللاجئين بأكثر من ثلاثة
ملايين شخص، فيما تجاوز عدد النازحين داخليًا تسعة ملايين، أي أكثر من عدد سكان
سويسرا. كما تنتشر معدلات مرتفعة من سوء التغذية في مختلف ولايات السودان.
اقتصاديًا، دمّرت الحرب أكثر من 75%
من البنية الصناعية، وأوقفت أكثر من 65% من النشاط الزراعي، إضافة إلى الدمار
الواسع في شبكات المياه والكهرباء.
تحديات كتابة التقرير الطوعي
- تقسيم مناطق السيطرة وتعثر عمل
المؤسسات الحكومية
أدت طبيعة الحرب بين قوتين عسكريتين
إلى نشوء مناطق سيطرة متباينة، بين الجيش وقوات الدعم السريع، بما في ذلك ولايات
محورية مثل الخرطوم والجزيرة ذات الأهمية الاقتصادية والكثافة السكانية. وقد أثّر
ذلك على استقرار الخدمات الصحية والتنموية، كما حدّ من إمكانية الحصول على بيانات
دقيقة، ما جعل الاعتماد على تقارير المنظمات الدولية أكثر مصداقية من البيانات
الحكومية.
- عسكرة الفضاء العام وتراجع دور المجتمع المدني
أضعفت الحرب النشاط المدني في كل
المناطق، سواء الخاضعة للجيش أو للدعم السريع. وانحصر دور منظمات المجتمع المدني
في العمل الإغاثي بدرجة كبيرة، بينما تراجعت أدوارها التشاورية مع المؤسسات
الحكومية، واقتصر نشاطها التنسيقي غالبًا على المنظمات السودانية العاملة في
الخارج، خصوصًا في كينيا وأوغندا. وهو ما جعل مساهمتها في إعداد التقرير ضعيفة، إن
لم تكن معدومة.
- اقتصاد الحرب وتغيير الأولويات
أدت الحرب إلى نشوء اقتصاد حرب قائم
على تعبئة الموارد لدعم العمليات العسكرية، مثل الذهب والجبايات المختلفة. ففي
مناطق الجيش استمرت بعض المؤسسات الحكومية جزئيًا، بينما غابت في مناطق الدعم
السريع. كما تعطلت معظم المؤسسات الصحية، وغادر كوادرها مواقع عملهم. أما في مجال
التعليم، فقد عاد بعض الطلاب إلى المدارس في مناطق الجيش بعد توقف استمر أكثر من
عام، بينما حُرم طلاب مناطق الدعم السريع من أداء امتحانات الشهادة الثانوية.
في ظل هذه الأوضاع، تراجعت الأولويات
التنموية، ومن غير المتوقع أن يحظى إعداد تقرير صادق عن التزام السودان بأهداف
التنمية المستدامة باهتمام كافٍ.
- ضعف الدعم الدولي
أدى انقلاب 25 أكتوبر ثم اندلاع الحرب
إلى إضعاف الدعم الدولي لأي مشاريع ذات طابع تنموي. ورغم ضخامة الكارثة الإنسانية،
فإن معظم الدعم اقتصر على المساعدات الإنسانية التي تبقى أقل بكثير من حجم
الاحتياج الفعلي، مما يضعف قدرة السودان على المضي قدمًا في تنفيذ أهداف التنمية
المستدامة أو إعداد تقارير دقيقة عنها.
الطريق إلى
الأمام
رغم التحديات الكبيرة التي تواجه
إعداد تقرير طوعي دقيق وشفاف وتشاوري، إلا أن للمجتمع المدني دورًا محوريًا يمكن
أن يلعبه، خاصة في توفير معلومات دقيقة إذا استعاد شبكات عمله الرقابية المتعلقة
بمتابعة أهداف التنمية المستدامة، عبر إنشاء مرصد أو آلية مراقبة مستمرة تعكس
مستوى التزام السودان بتنفيذها. كما يمكن أن يسهم تعزيز الثقة المتبادلة بين
المجتمع المدني والمؤسسات الحكومية المسؤولة في تحسين جودة التقارير المستقبلية.
خاتمة
يتضح مما سبق أن إعداد التقارير
الطوعية في السودان يواجه تحديات وثيقة الصلة بالسياق السياسي، سواء من حيث كفاءة
الأجهزة الحكومية في الوصول إلى المعلومات الدقيقة، أو من حيث ضعف التمويل، أو
تراجع دور المجتمع المدني، إلى جانب انحسار الدعم الدولي المرتبط بتحقيق أهداف
التنمية المستدامة.
ومع ذلك، يظل بإمكان المجتمع المدني أن يضطلع بدور أكبر مستقبلاً في إعداد هذه التقارير وتوفير البيانات الدقيقة، بجانب استعادة مكانته كجهة تشاورية أساسية مع المؤسسات الحكومية، رغم التحديات السياسية والأمنية القائمة.
احدث المنشورات

دول المنطقة العربية في المنتدى السياسي الرفيع المستوى 2025 – جوزيف شيشلا
