الحوار الوطني الفرصة الضائعة – حالة مصر - د. نيفين عبيد
باحثة ومقررة لجنة القضية السكانية بالحوار الوطني
الحوار فكرة وفعل ديمقراطي، ضرورة ليس فقط للبلدان التي تواجه أزمات سياسية، وإنما أيضًا للبلدان المستقرة ديمقراطيًّا، وربما علينا كجماعات تغيير سياسي واجتماعي أن نثمِّن الحوار كممارسة وفعل سياسي مثلما نثمِّن فعل الانتخابات المباشرة، ونزاهة التصويت، وسلامة الصناديق.
وبلا شك تزداد الحاجة للحوار في حالات البلدان التي تشهد تعثّرًا في التحوّل الديمقراطي، ويضعف بها التمثيل النيابي، وتلك التي تعاني من تقليص مساحة حرية الرأي والتعبير، وكفاءة التنظيم، فمن الممكن أن يمثّل الحوار لها فرصة للممارسة الديمقراطية، وإيجاد هامش أوسع لحرية التعبير، ودافع لتطوير التنظيم والتمثيل.
ولكن متى يكون الحوار مؤثِّرًا وفاعلًا ويعكس حالة من الفعل والممارسة الديمقراطية السياسية والاجتماعية؟
في قراءة للخبرات الدولية مع ممارسة الحوار الوطني، جاءت أغلب التجارب في مسارات ثلاثة: الحوار من أجل درء العنف والتعايش السلمي حالة جنوب أفريقيا والجزائر، والحوار من أجل مواجهة التحديات فيما بعد التحوّل الديمقراطي حالة إسبانيا، والحوار من أجل الاستجابة للضغوط الخارجية حالة غينيا.
وبرغم من تعدد مؤشرات فاعلية الحوار في التجارب السابقة، إلا أننا سنتناول مؤشّرين أساسيّين لقياس فاعلية الممارسة الديمقراطية وتحقيق الأهداف من وراء الحوار الوطني في النماذج الدولية المرصودة، علّنا نفهم ولو جزئيًّا تجارب مصر في الحوار الوطني بما فيها تجربتها الأخيرة.
وقد اخترنا في هذه القراءة الوقوف على المؤشّرين التاليين: المؤشر الأول يتعلق بالإرادة السياسية لأطراف الحوار في إنجاحه والوصول لحلول مرضية أو خارطة طريق ملزمة، والمؤشر الثاني هو كفالة حرية التنظيم للجميع وإتاحة مناخ عام مرحِّب بالحوار وحرية التعبير.
وبالرغم من أهمية تجربة جنوب أفريقيا، إلا أن تجارب الحوار في كل من الجزائر وإسبانيا ملهمة أيضًا سواء على مستوى مسيرة الحوار نفسها وضرورة تمثيل الأطراف المؤثرة في إحداث الاستقرار السياسي، أو على مستوى نتائج الحوار وتوصلها للحلول الفاعلة. فالجزائر استوعبت تجربتها مع الحرب الأهلية، وأصبح لدى الجميع إرادة سياسية لتأصيل الاستقرار وبناء الدولة كطرف وحيد يملك شرعية امتلاك السلاح، وفي إطار هذا الفهم استطاعوا أن يمدّوا جسور الحوار مع التنظيمات السياسية، ووضع شروط مؤهِّلة لإنجاح الحوار الوطني أهمها أمران: تسليم السلاح والتخلي عن العنف، وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين غير المتورطين في جرائم العنف. وبرغم من ضرورة شمول الرؤية في رصد الأسباب المتعددة لنجاح التجربة، إلا أن حرص الأطراف ذات التأثير الأهم في حل الأزمة أوجد طريق النجاة للحوار وساهم بقدر ملحوظ في إيجاد مناخ عام سياسي واجتماعي داعم للتجربة.
أما تجربة إسبانيا فهي لم تأتِ نتيجة لمرور البلاد بتجربة دموية، وإنما جاءت لحل أزمة البطالة والتضخم عقب التحول لنظام ديمقراطي يميل لسياسات السوق، مما كشف عن ضرورة تمثيل مؤثر للنقابات العمالية ورجال الأعمال، ومهّد الطريق لنتائج مؤثرة كالوصول إلى "اتفاقية فيكلو" تمهيدًا لتغيير الدستور والنص على دور النقابات كشريك أصيل في عملية اتخاذ القرارات.
وتدل تجارب الجزائر وإسبانيا على أن الحوار يستطيع أن يكون آلية فعّالة لحل الأزمات شريطة توفر الإرادة السياسية لأطرافه، وتأهيل المجال العام، وإفساح الطريق بجدية أمام نتائجه.
لم تكن مصر بعيدة عن تجارب الدول مع الحوار، فهي أيضًا لها نصيب من تجارب الحوار الوطني. عقب 1952، دعا كل رئيس إلى إجراء حوار وطني يجمع الأطراف المختلفة. وحسب الرصد، تفاوتت تجارب الحوار فيما بينها في الدوافع والإرادة السياسية وتنظيم الأطراف الفاعلة فيها.
فالأولى في 1962 جاءت من الرئيس عبد الناصر لمؤتمر القوى الشعبية، وجاءت مخرجات الحوار بوثيقة العمل الوطني والتمهيد لدستور 1964 والتطلع لانتخابات سياسية. وفي 1974، دعا الرئيس السادات إلى الحوار حول برنامج العشر نقاط المعروف بـ"ورقة أكتوبر" للحوار حول مستقبل مصر بعد الحرب. وفي 1982 و1986، دعا الرئيس مبارك للحوار حول الإصلاح السياسي وقانون الطوارئ. وفي 2005، جاءت الدعوة للحوار من أجل انتخابات رئاسية وليس لاستفتاء.
وبالمقارنة بين التجارب المصرية السابقة، استطاعت تجربة عبد الناصر والسادات على الأقل بلورة مخرجات للحوار، سواء بمخرج وثيقة العمل الوطني أو مخرج ورقة أكتوبر، في حين تعثرت نتائج الحوار مع مبارك. فلا نتائج بوقف قانون الطوارئ الذي استمر تفعيله طيلة سنوات حكمه، ولا إصلاح سياسي فاعل، اللهم إلا المشهد البدائي للانتخابات الرئاسية، وعقب عقود من الاستفتاء على منصب الرئيس، والاستمرار في التفاوض خلسة مع الإخوان على مقاعد البرلمان بعيدًا عن باقي القوى السياسية وأهداف الحوار الوطني.
وهو ما ينسحب مع بعض التباينات في النظر إلى تجربة الحوار الوطني التي دعا لها الرئيس السيسي في 2023، والتي بدأت في مناخ سياسي محتقن. لم يغفر أطرافها بعد ما مرت به البلاد من انتهاكات للحقوق والحريات المدنية بعد 2013، بل وازداد التعنت باستمرارها أثناء الحوار، مما أسلب الحوار الوطني أهم مؤشرات فاعليته، وهو إمكانية تأصيل الإرادة والثقة السياسية للحوار وتحقيق شكل من العدالة الانتقالية، مما حد من آمال القوى السياسية في إحداث نتائج مفارقة على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي. فبدأ الحوار بسقف الحد الأدنى من الآمال والتفاوض حول الإصلاح والتغيير، وبمعادلة مقايضة ضعيفة ومحدودة الأثر، وهي المشاركة في الحوار مقابل قوائم العفو عن المعتقلين.
وخلت طموحات المشاركين من إحداث تغيير حقيقي يخص النظام الانتخابي سواء الرئاسي أو النيابي، كما انخفضت التوقعات في إحداث أي أثر ملموس في تغيير السياسات الاقتصادية وإتاحة تشاركية أعلى للخبراء والمجالس النيابية في إبداء الرأي في القرار الاقتصادي، أما القضايا الاجتماعية فتزيل اهتمام جميع الأطراف، سواء الرسمية أو المعارضة، حيث تفاوتت قناعة الحركة المدنية الديمقراطية حول أهمية نقاش القضايا الاجتماعية كقضايا الأسرة والسكان والتعليم والصحة والشباب، في مقابل إيلاء اهتمام مضاعف للقضايا السياسية المعنية بإتاحة المجال العام وتعزيز الديمقراطية. أما الأطراف الرسمية فلم يعنيها الأمران بقدر ما اهتمت بإتقان شكل الحوار وتسطيح المخرجات.
وربما علينا ألا نغفل أن تجربة الحوار الأخيرة لم تأت بوازع من الداخل يعكس إدراك الأطراف الرسمية بأهمية الحوار وإتاحة الأفق لتجربة مصرية للتحول الديمقراطي، بقدر ما جاءت استجابة لضغوط خارجية ترى أن حماية مصر من الانزلاق في مسار جديد من الفشل ضرورة تضمن مصالحها الاقتصادية والسياسية في المنطقة.
إلا أن هذا كله لا يعني خواء النقاشات الحوارية أو تكاسل المشاركين من المعارضة عن تقديم بدائل ممكنة، وإنما علينا أن نشير إلى أن أمام هذا الضجيج جنى شباب أحزاب المعارضة وغيرهم فرصة جديدة في إعادة تنظيم الصفوف وممارسة التعبير عن الرأي وتوفير مساحة شبه آمنة كمن تمسك بستار الكعبة بممارسة قدر من حقوق المواطنة.
وتُحتسب تجربة الحوار الوطني الأخيرة بمثابة فرصة ضائعة ضمن العديد من الفرص الضائعة السابقة التي كانت من الممكن أن تسدل الستار عن وضع يتداعى على كل المستويات، ويتيح من بعده فرصة للتحرك الحذر للأمام في طريق أفضل مما تعاني فيه البلاد الآن.
د. نيفين عبيد