
الأردن والمياه: من عطش الطبيعة إلى اختلال العدالة - هلا مراد
في بلد يُعدّ من الأفقر مائيًا في العالم، مقارنةً بخط الفقر المائي العالمي البالغ 500 متر مكعب سنويا للفرد، حيث لا تتجاوز حصة الفرد السنوية في الأردن 61 مترًا مكعبًا. لا تبدو الأزمة المائية في الأردن ناتجة فقط عن قسوة المناخ أو ندرة الموارد، بل تتعمق جذورها في بنية غير عادلة للتوزيع، وهشاشة في الحوكمة، وضعف في الاعتراف بالمياه كحق إنساني أساسي.
الحق في المياه، كما تؤكد الأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان، ليس خدمة بل ضرورة وجودية، شرط للكرامة والاستقرار، ومكوّن جوهري للعدالة الاجتماعية والبيئية. فحين لا يجد الإنسان ما يكفيه من مياه مأمونة، تتآكل حقوقه الأخرى تدريجيًا. والمياه في هذا السياق، ليست فقط مورداً بيئياً، بل محددًا للعدالة والتفاوت الطبقي، وميزانًا للمساواة بين المركز والأطراف. تؤكد مبادئ دبلن الدولية أن المياه مورد اقتصادي واجتماعي في آن ، ويجب إدارتها بعدالة وشفافية، وبما يراعي حقوق الفقراء والمهمشين، لا أن تُختزل في أرقام استهلاك وتغطية شبكية.
لا تخرج الأزمة المائية الأردنية عن السياق العربي الأوسع، إذ تُعدّ المنطقة العربية من أكثر مناطق العالم هشاشة مائية. فبحسب تقارير إقليمية، تقع 19 من أصل 22 دولة عربية تحت خط الشحّ المائي السنوي، و13 دولة دون مستوى الشحّ المطلق. وتؤكد الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ (IPCC, 2023) أن بلدان المنطقة تشهد تزايدًا في تواتر موجات الجفاف، وتراجعًا في معدلات الهطول، وتملحًا للمياه الجوفية، وارتفاعًا حراريًا مستمرًا، وهو ما يُهدد الأمن المائي والغذائي في آن معا. ومن بين هذه الحالات المأزومة، تظهر الحالة الأردنية كنموذج مركب، لا يتقاطع فيه شح المورد الطبيعي مع تغير المناخ فحسب، بل يُضاف إليهما خلل في الإدارة، وتفاوت في الوصول، وتسييس مزمن للموارد.
وقد شهد موسم الأمطار الأخير (2024–2025) تراجعًا في الهطول بنسبة تراوحت بين 35 و50% عن المعدلات السنوية، بحسب دائرة الأرصاد الجوية الأردنية، ما أدى إلى انخفاض تخزين السدود إلى نحو 97 مليون متر مكعب من أصل 288 مليون متر مكعب، هي الطاقة الاستيعابية الكاملة للسدود الأردنية. هذا ليس حدثًا استثنائيًا، بل يمثل مظهرًا من مظاهر تغير المناخ الذي لم تعد آثاره افتراضية أو مستقبلية. كما يضع تقرير الإسكوا لعام 2022 الأردن ضمن أكثر الدول العربية تعرضًا للجفاف وتراجع الموارد الجوفية، فيما تُظهر الاستراتيجية الوطنية الأردنية للحد من مخاطر الكوارث (2023–2030) أن الجفاف يأتي في المرتبة الثالثة ضمن أخطر المخاطر الطبيعية المؤثرة على البلاد.
ولا تقف المشكلة عند تراجع الهطولات أو انخفاض التخزين، فالأحواض الجوفية، التي تؤمّن أكثر من 60% من مياه الشرب في الأردن، تُستنزف بمعدلات تصل إلى 200% من معدل تجددها السنوي بحسب دراسة منشورة (Bdour et al., 2023). وفي ظل غياب سياسات تكيف فاعلة، وبدائل حقيقية، يستمر الاعتماد المفرط على هذه المصادر، ما يهدد مستقبل الأجيال القادمة بحقها في المياه.
وعلى الرغم من أن وزارة المياه تشير إلى أن أكثر من 94% من السكان مشمولون بشبكات المياه، فإن هذه النسبة تخفي وراءها تفاوتًا كبيرًا في العدالة الجغرافية والاجتماعية. ففي القرى والبادية، تنقطع المياه لأسابيع، ويضطر السكان إلى شراءها عبر صهاريج خاصة بأسعار قد تصل إلى 15 دينارًا للمتر المكعب الواحد، وهو رقم لا يُحتمل لأسرة فقيرة تعتمد على دخل يومي بالكاد يكفي لسد الاحتياجات الأساسية. تظهر المفارقة في محافظة عجلون، التي تُسجل أعلى معدلات هطول المطر في المملكة، لكنها تعاني من شحّ دائم بسبب غياب مشاريع الحصاد المائي المركزية، وضعف البنية التحتية، واعتماد غير مستدام على حلول إسعافية مثل استئجار صهاريج توزيع المياه “حسب الحاجة”. وإن كانت تبدو استجابة ضرورية، تُكرّس هذه الحلول واقعًا من اللامساواة وتضع المواطن تحت رحمة السوق والظرف، بدلًا من بناء أنظمة مستدامة وحقوق قائمة على المساواة.
ولا تقتصر الأزمة على الاستخدام المنزلي، بل تمتد لتضرب في العمق القطاع الزراعي، الذي يستهلك أكثر من نصف الموارد المائية المتاحة. ورغم ذلك، فإن الزراعة الأردنية لا تُنتج ما يكفي لتأمين سلة الغذاء الوطنية، حيث تُظهر بيانات منظمة الزراعة والأغذية العالمية المرصودة وتوقعات المناخ إلى أن التغيرات في كمية المياه وجودتها بسبب تغير المناخ من المتوقع أن تُعرّض الأمن الغذائي للخطر، وتزيد من تأثر المنتجين الريفيين الفقراء، لا سيما في المناطق القاحلة وشبه القاحلة مثل الأردن كما أن عدد كبير من صغار المزارعين اضطروا لتقليص إنتاجهم أو شراء المياه بأسعار تجارية مرتفعة. هذا الوضع يُفضي إلى ارتفاع كلف الإنتاج المحلي، وتراجع الربحية، وزيادة الاعتماد على الاستيراد. وفي الوقت الذي يحصل فيه كبار المستثمرين على كميات كافية من المياه لري محاصيل تصديرية، يعاني المزارع المحلي – الصغير – من الجفاف والديون. ففي وادي الأردن، يشتكي المزارعون من خفض حصصهم المائية لأكثر من النصف في الصيف، ما يؤثر على جودة الإنتاج ويهدد ديمومة القطاع ككل.
ولم تخلُ محاولات الإصلاح من مبادرات مجتمعية، مثل جمعيات مستخدمي المياه، التي أوكلت لها الحكومة مهمة توزيع مياه الري في وادي الأردن. ورغم أن هذه التجربة تُعدّ نموذجًا واعدًا لإدارة تشاركية، إلا أن ضعف الرقابة، ونقص الكميات الواصلة أصلًا، وتفاوت الإمكانيات بين الجمعيات، أدّى إلى انعدام العدالة في التوزيع. بل إن بعض الجمعيات تُواجه اتهامات من مزارعين بعدم الإنصاف، فيما تجيب السلطات بأن التوزيع يتم حسب الإمكانات. لكن الواقع يقول شيئًا آخر: المزارع الصغير يذبل عطشًا، بينما تُروى مزارع التصدير بماء وفير.
تتفاقم أزمة المياه في الأردن ليس فقط بسبب ندرة المورد الطبيعي أو تغير المناخ، بل بفعل خلل جوهري في نظام الحوكمة المائي. فالحوكمة تعني في جوهرها القدرة على إدارة الموارد بكفاءة وعدالة، عبر تنسيق المؤسسات المعنية، وضمان شفافية القرار، ومساءلة الجهات المسؤولة. إلا أن واقع الحوكمة في الأردن يشوبها تعدد في المرجعيات وتداخل في الصلاحيات بين مؤسسات مثل وزارة المياه، وسلطة المياه، وسلطة وادي الأردن، مما يؤدي إلى تشظي الجهود وانتشار الفوضى الإدارية. هذا التشتت يعرقل وضع سياسات موحدة، ويُضعف قدرة الحكومة على الاستجابة للأزمات، ويخلق ثغرات في توزيع المياه بين الفئات والمناطق المختلفة.
يرافق غياب الإطار الحوكمي المتماسك ضعف آليات المشاركة المجتمعية في صنع القرار، ما يُبعد أصوات الفقراء والمهمشين الذين يعانون أكثر من شح المياه، ويُكسب النخب والمؤسسات قدرة التحكم في الموارد دون رقابة فعلية. النتيجة أن توزيع المياه في كثير من الأحيان يُخضع لمنطق المصالح الاقتصادية والسياسية، بعيدًا عن مبدأ العدالة الاجتماعية والحق الإنساني في الحصول على مياه آمنة وكافية.
وعلى صعيد الرقابة والمساءلة، لا توجد مؤشرات واضحة على وجود آليات فعالة لضبط تجاوزات استغلال المياه أو حماية الموارد من الاستنزاف، مما يفاقم الاستهلاك غير المستدام ويُهدد الأجيال القادمة. كما أن التأخير في تحديث القوانين وتنظيم القطاع بما يتواكب مع متطلبات الحوكمة الحديثة، يعمّق التفاوت في الوصول إلى المياه ويُكرّس واقعًا من عدم المساواة.
رغم قيمتها، لا تُعوض تجارب الجمعيات المجتمعية في توزيع مياه الري مثلاً، النقص في تنظيم القطاع بشكل شامل، ولا تلغي تأثير ضعف التنسيق الحكومي. وتبقى الحاجة ملحة لتعزيز الشفافية، وتوحيد الصلاحيات، وفتح قنوات حقيقية للمشاركة الشعبية، لبناء نظام حوكمة مائي يعكس العدالة ويواجه تحديات الاستدامة.
وعلى صعيد التخطيط، ورغم وجود استراتيجية وطنية طموحة حتى عام 2040، تتضمن مشروعات كبرى مثل "الناقل الوطني"، فإن هذه المشروعات لن تُحدث فرقًا قبل عام 2030، وتبقى رهينة التمويل الخارجي والظروف السياسية. في المقابل، تُهمل الدولة استثمارات صغيرة وفعالة مثل حصاد مياه الأمطار، أو دعم المزارعين بتقنيات ري حديثة، أو تعزيز إعادة استخدام المياه الرمادية.
في النهاية، لم تعد المياه في الأردن مجرد مسألة ندرة، بل باتت مرآة تُظهر عمق الفجوة بين السياسات والمجتمعات، بين التخطيط والواقع، وبين من يحصل على الماء كامتياز، ومن يفتقده كحق. إن أول الطريق نحو العدالة المائية يبدأ بالاعتراف الدستوري بأن الماء ليس سلعة، بل حياة، وأن قطرة ماء تُوزع بعدالة، تعني وجبة غذائية ، وتعليمًا، وصحة، واستقرارًا وأخيرا أمنا مجتمعيا يمكن الحديث عنه في مقال اخر.
المراجع:
● Bdour, M., Alnaief, M., Rabaiah, S., & Schweimanns, N. (2023). Water Resources in Jordan: A Review of Current Challenges and Future Opportunities. Water, 15(21), 3729.
● UN-Water (2023), World Water Development Report.
● ESCWA (2022). Arab Region & Climate Change .
● FAO (2025). Climate-smart agriculture practices.
● وزارة المياه والري الأردنية (2025). تقرير واقع قطاع المياه.
● الهياجنة، عبد الناصر (2025). القانون البيئي الأردني. دار الثقافة.