Jan 04, 2022
‫لسردية جديدة تحملنا بالمخيلة والواقع نحو العدالة الاجتماعية‬
ديانا كلاس
مستشارة السياسات في شؤون اللامساواة، منظمة أوكسفام في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الرجاء الضغط هنا لنبذة والمنشورات
ديانا كلاس

‫لسردية جديدة تحملنا بالمخيلة والواقع نحو العدالة الاجتماعية‬ - ‫ديانا كلاس



‫كيف نبني سردية جديدة أو إطار سردي جديد للخطاب الاقتصادي والاجتماعي في مجتمعاتنا؟ كيف نجد مصطلحات ومعانٍ ومعتقدات جديدة تتغلغل في المخيّلة العامة وتحدث جهوزية في المجتمع لتقبّل ثقافة العدالة والرفاه للجميع؟ هذه الثقافة تقوم على اعتقاد بسيط هو أن العدالة الاجتماعية ليست قصة خيالية أو معادلة حسابية مستحيلة كما يتم تصويره اليوم في الخطاب السائد، وإنما هي القاعدة التي يجدر الانطلاق منها والهدف الواقعي الذي لا يحول دونه غير حفنة صغيرة من الأشخاص النافذين الذين يستحوذون على السلطة والثروة. ‬



‫والعدالة الاجتماعية ليست مجرّد سلّة من المواد القانونية والسياسات العامة التي من شأنها تصحيح الخلل البنيوي في الاقتصاد والتفاوتات الاجتماعية الناتجة عنه. العدالة الاجتماعية تتحقق من خلال إرساء نظام اقتصادي وحقوقي متكامل يعبّر عن عقد اجتماعي وفلسفة قوامهما العدالة والمصلحة العامة، بشكل يؤمّن عدم استئثار قلّة قليلة من الأشخاص النافذين سياسيا واقتصاديا على الدخل والثروات.‬



‫يقوم النموذج الاقتصادي السائد في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا على تحقيق النمو من خلال تحفيز القطاع الخاص وتقليص حجم القطاع العام على حساب الخدمات الاجتماعية الأساسية كالصحة والتعليم. وهو يعتمد على سياسات الاستدانة والتقشف والضرائب غير المباشرة التي تطال الفئات الأكثر هشاشة في المجتمع، مما يؤدي الى تعزيز الفجوة الاقتصادية والاجتماعية بين الأثرياء والفقراء. فهذه المنطقة هي واحدة من أكثر مناطق العالم تفاوتًا في الثروة، حيث يمتلك 37 مليارديرًا ما يساوي ثروة النصف الأفقر من السكان البالغين.  وهي المنطقة الوحيدة في العالم التي ازداد فيها الفقر المدقع خلال العقد الماضي.  ‬



‫هذا النموذج تعززه سرديات سائدة تشكّل بحد ذاتها أداة سلطة إذ تروّج لإطار فكري يخدم مصالح النخب المستأثرة على القرار السياسي والاقتصادي وتخلق جوا عاما من التأييد والقبول للسياسات العامة التي تخدم هذه المصالح بشكل يخفف من الميول نحو الاعتراض على هذه السياسات. والسردية السائدة هي نوع من الإطار الذي تقع ضمنه القصص والأساطير والأفكار والمعتقدات التي تسكن المخيلة العامة ويتضمن القواعد التي تحكم النقاش العام، بحيث تحدد ما هو نوع الخطاب المقبول أو المرفوض أو من هي المرجعيات التي تتمتع بالشرعية الكافية لتقول ما هو مقبول أو غير مقبول. والإطار الفكري السائد اليوم هو إطار نيوليبرالي يتضمن أفكار ومبادئ ومعتقدات تؤطّر النقاش العام ويتم تصويرها على أنها حقيقة مطلقة لا بديل عنها، بحيث يسقط حكما من النقاش أي مشروع او فكرة او حجة خارجة عن هذا الاطار  بوصفها غير مقبولة أو غير ممكنة. ‬



‫ترتكز السردية السائدة الى رسائل غير معقّدة تنقلها وسائل الإعلام بسهولة، ولكن لا تنبع فقط من وسائل الإعلام بل أيضا من مؤسسات التعليم والأبحاث والحلقات الاجتماعية المغلقة، أي من مختلف المصادر التي تتكون منها الثقافة العامة. ويمكن التمييز بين فئتين من الرسائل: فئة الحجج الاقتصادية من جهة، وفئة المعتقدات والخصائص الثقافية التي تعزز جوا عاما مؤات لهذه الحجج الاقتصادية. ‬



‫في الفئة الأولى، من أبرز الحجج: انتفاء أي بديل للتقشف بسبب ارتفاع نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي؛ العجز العام ناجم عن التضخم والفساد في القطاع العام (ما يصرف النظر عن العبء المالي الحقيقي الناجم عن خدمة الدين)؛ الدولة بطبيعتها فاسدة وسيئة في إدارة الأعمال ويجدر تحقيق النمو عبر القطاع الخاص الذي يحسّن الأوضاع الاجتماعية عبر خلق فرص العمل؛ الضرائب على الدخل والثروة من شأنها أن تبعد المستثمرين، لذلك من المستحسن فرض الضرائب على الاستهلاك؛ الفقر هو مشكلة لا مهرب منها والحل في برامج التحويلات النقدية وغيرها من التدابير الآنية للتخفيف من حدّة الفقر .‬



‫أما الفئة الثانية، فهي شبكة من الأفكار والاساطير والمعتقدات التي تشكل القاعدة الثقافية المتجذرة في العقول والمخيلة العامة والتي تسهّل تمرير الأفكار والحجج المعروضة أعلاه. مثلا: بناء سردية وصور شعرية حول مفهوم النجاح مع الإشادة بالمبادرة الفردية والتركيز على الكفاءة والجدارة كسبيل لتحقيق النجاح وصرف النظر عن أوجه اللامساواة الهيكلية ودور رأس المال الثقافي في اتاحة الفرص؛ إضعاف الثقة بالدولة ومؤسساتها؛ إضعاف الوعي الطبقي؛ إلقاء اللوم على شرائح المجتمع المحرومة كاللاجئين والعاطلين عن العمل حول ما آلت اليه الأوضاع المعيشية؛ تصوير الوضع الاقتصادي والاجتماعي بما فيه الفقر وعدم المساواة كحتمية تاريخية أو سياسية او ببساطة قدر لا مفرّ منه؛ التركيز على المسائل السياسية والجيوستراتيجية كعوامل أساسية في الواقع الاقتصادي ومدخل أساسي للحلول الاقتصادية والمالية بشكل يصرف النظر عن الاستئثار السياسي من قبل النخب الحاكمة في الداخل؛ وتعزيز مشاعر الخوف وفقدان الأمل في التغيير.  ‬




‫وبذلك تكون هذه السردية قد استبعدت تأمين الحقوق والخدمات الأساسية بشكل متساو للجميع عبر مؤسسات الدولة، وهي المعني الأساسي بتأمينها، ولاسيما في ما يتعلق بالتعليم والصحة والحماية الاجتماعية. كما استبعدت إمكانية فرض ضرائب تصاعدية عادلة أو فرض ضريبة على الثروة لتصحيح آثار الخلل الاقتصادي البنيوي على توزيع الثروات. وتكون أكثر من ذلك قد استبعدت من المخيّلة العامة مجرّد إمكانية تصوّر نموذج اقتصادي مختلف قادر على تحقيق العدالة الاجتماعية.‬



‫ولكن هذا الواقع الاقتصادي ليس محتما. وهذه السردية كذلك ليست محتمة. تسعى منظمات المجتمع المدني والناشطون/ات والمؤثرون/ات ووسائط والإعلام البديلة إلى سدّ فجوة مهمّة في الخطاب العام، نتجت عن عقود من الاستئثار السياسي والحد من الحريات ومن مجال المشاركة والتأثير في الحياة السياسية، إضافة الى انحصار ملكية وسائل الاعلام ومصادر تمويلها في ايدي النخب. ويجري البحث باستمرار حول كيفية تغيير السرديةـ وهذا يعني العمل على تغيير الأفكار والاساطير والمعتقدات السائدة في التفكير اليومي والتي تؤطر النقاش الاجتماعي والاقتصادي، وتحدّد سلفًا الخيارات السياسية المقبولة على أنها ممكنة ومشروعة. وهو عمل طويل الأمد يؤول الى بناء ثقافة جديدة تؤسس لعقد اجتماعي جديد.‬



‫كيف نبني إذن سرديات جديدة في مجتمعاتنا؟‬


‫لا بد من أن ينطلق هذا العمل من تفكيك السردية السائدة، ونحتاج لذلك الى فهم الدور الذي تلعبه السرديات السائدة في تعزيز الاستئثار السياسي وتحليل أدوات الخطاب التي تُستخدم لنقل هذه السردية وفضح الحجج التي تستند اليهاـ إضافة الى العمل على تهيئة بيئة مواتية للتحول الاقتصادي والاجتماعي والعمل على تقوية القوى المجتمعية المقابلة من أجل قلب موازين القوى. أما السردية البديلة، فيمكن السعي الى خلقها من خلال بناء خطاب جديد يتضمن مفردات ورسائل وقصص جديدة تحاكي المخيلة العامة وتكسر حاجز الخوف وتخلق مجالًا جديدًا من الامكانيات والتطلعات نحو مجتمع عادل. ويحتاج هذا العمل الى التزام وتنسيق من قبل مختلف الناشطين/ات والحركات والمنظمات المعنية من أجل مواءمة هذا الخطاب الجديد في ما بينها والعمل على ايصاله بشكل هادف. والتحدي هنا هو إحداث تجاوز ناجح بين الشق الابتكاري والخيالي والشق التقني من محتوى السردية البديلة، أي كيف نسرد قصة جديدة بلغة سهلة وجذابة ولكن أيضا حاملة لمضمون جديد ورسائل مبنية على جهد فكري وتقني معمّق.   ‬



‫هذه هي بعض الأفكار الأساسية التي توصلت اليها البحث الذي أجريناه في منظمة أوكسفام واستندنا خلاله الى خبرة وآراء عدد من الباحثين/ات والصحافيين/ات ومنظمات المجتمع المدني من مختلف بلدان الشرق الأوسط وشمال افريقيا، ومنها شبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية، ونطرحها من أجل توسيع النقاش والعمل التشاركي حول هذا الموضوع.‬




‫ديانا كلاس‬

‫مستشارة في شؤون اللامساواة، منظمة أوكسفام في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا‬



احدث المنشورات
Dec 07, 2024
النشرة الشهرية لشهر تشرين الثاني/نوفمبر 2024
Dec 03, 2024
الديون السيادية في المنطقة العربية: بين استدامتها وعدالة السياسات الضريبية - أحمد محمد عوض