كنوز تُركت خلفنا: شعب لبنان وغذاؤه وأرضه – بابل قيصر
كنوز تُركت خلفنا: شعب لبنان وغذاؤه وأرضه – بابل قيصر
مقدّمة
في الوقت الراهن، يتسابق العالم لتأمين الموارد الطبيعية والغذاء ومواجهة تغيّر المناخ—إلى جانب مسبّباته—فيما تتواصل النقاشات الدولية في المؤتمرات والقمم العالمية، بما في ذلك مؤتمر الأمم المتحدة الثلاثون لتغيّر المناخ (COP30) الذي عُقد في مدينة بيليم في البرازيل في تشرين الثاني/نوفمبر من هذا العام، وبالتوازي مع ذلك، انعقاد القمّة العالمية الثانية للتنمية الاجتماعية في الدوحة، قطر، في الشهر نفسه، بما يعكس انشغالات عالمية متشابهة.
على خلفية هذا الانشغال الدولي، يقدّم هذا العمل محاولة لوضع واقع لبنان في سياقه، من خلال عرض بصري لخرائط توضّح كيف تعيش المناطق اللبنانية حالة من التهميش في ظل الأزمات المتواصلة. ويركّز على أربعة أبعاد من الضيق الاجتماعي–الاقتصادي، محلّلًا تقاطعاتها للكشف عن حدّة التهميش من جهة، واستمرار المقاربات القديمة في معالجة هذه القضايا من جهة أخرى.
وقد تعزّز هذا الجهد من خلال مشاركتي في “أسبوع دراسات الجنوب العالمي” الذي نظّمته الشبكة العربية للمنظمات غير الحكومية للتنمية، والذي عُقد في بيروت في تشرين الثاني/نوفمبر 2025. وقد شكّلت المفاهيم التي يتناولها هذا العمل محورًا أساسيًا للنقاشات والمحاضرات خلال ذلك الأسبوع.
خلفية المناطق المهمَّشة
لبنان، البلد المتوسطي الصغير ذو التاريخ الطويل من عدم الاستقرار السياسي والاضطرابات الاقتصادية، واجه باستمرار تحدّيات عميقة تقوّض آفاق تنميته. فقد عانى البلد من أزمة متعدّدة المستويات—اجتماعية واقتصادية وسياسية—تفاقمت منذ عام 2019، وامتدّت لتشمل أحدث الكوارث: الحرب المستمرة منذ عام 2023، والتي أدّت إلى دمار واسع بشري وعمراني وبيئي في مساحات كبيرة من البقاع والجنوب والضاحية الجنوبية لبيروت. وقد تجلّى هذا الانهيار المركّب في ارتفاع معدلات البطالة، وتدهور البنى التحتية العامة وأنظمة الطاقة، وتزايد إهمال البيئة والتراث الثقافي. غير أنّ هذه الأوضاع ليست نتيجة سوء حظّ طارئ، بل هي حصيلة تراكمية لسياسات تنموية معيبة وغير عادلة ميّزت الدولة اللبنانية منذ زمن طويل.
ومنذ تأسيسه، أولى لبنان أولوية الاستثمار في العاصمة بيروت على حساب نموّ المناطق والمدن الأخرى، ما أدّى إلى تنمية غير متكافئة وإهمال القطاعات الإنتاجية. وقد غذّى هذا النهج الهجرة من الريف إلى المدن، وتشكّل أحزمة الفقر حول المدن الكبرى، وفاقم التفاوتات داخل المناطق وفي ما بينها، وتزامن ذلك مع سياسات اقتصادية نيوليبرالية تُفضّل التنمية القائمة على السوق. أما المناطق الخارجة عن امتيازات الدولة، فقد دفعت دومًا ثمن تهميشها (حمادة، 2016).
الفوارق الإقليمية والحق في التنمية
يتّسم المشهد التنموي في لبنان بفوارق مكانية حادّة. ففي حين تواصل بيروت تركيز النشاط الاقتصادي والخدمات والفرص، تعاني المناطق الطرفية—كالشمال وعكّار وبعلبك–الهرمل وأجزاء من البقاع—من تهميش مزمن. وتشير بيانات توزيع الفقر العائدة إلى عام 2011 إلى أنّ الفقر كان الأكثر انتشارًا في سهل البقاع، حيث طاول 38% من السكان، تليه محافظة الشمال بنسبة 36%، ثم الجنوب بنسبة 25%، في حين سجّلت بيروت نسبة أدنى بكثير بلغت 16% (دارة، 2020). وفي المقابل، يبيّن تقرير إدارة الإحصاء المركزي لعام 2022 أنّ محافظتَي عكّار والبقاع هما الأفقر وفق مؤشر الفقر المتعدّد الأبعاد (إدارة الإحصاء المركزي والبنك الدولي، 2022).
تعكس هذه الفوارق أيضًا عقودًا من التخطيط المركزي، وضعف الاستثمار في الاقتصادات المحلية، وغياب أطر الحوكمة المكانية القادرة على الاستجابة للواقع الاجتماعي–الاقتصادي الخاص بكل منطقة. ومن دون استثمارات عامة موجّهة، وإدارة عادلة للأراضي، واستراتيجيات مكانية طويلة الأمد، تتعمّق اللامساواة الإقليمية وتستمر دوّامات الفقر والهجرة.
الخريطة 1: التوزيع المكاني للفقر عام 2011 استنادًا إلى مقال “كلفة التهميش: الفوارق الإقليمية التي تغذّي هشاشة لبنان” (دارة، 2020). الخريطة من إعداد الكاتبة.
استنادًا إلى المادة الأولى من إعلان الحق في التنمية، يتّضح أنّ هذا الانقسام المكاني ليس مجرّد ظاهرة اجتماعية–اقتصادية، بل يمثّل انتهاكًا بنيويًا للحق في التنمية—وهو حقّ يفترض أن يضمن وصولًا عادلًا إلى الموارد والفرص والخدمات العامة في جميع المناطق. إنّ الأراضي المتروكة في لبنان، المشار إليها أعلاه، ترتبط ارتباطًا مباشرًا بتحدّيات الأمن الغذائي وتغيّر المناخ، لا بوصفها مناطق متأثرة بهذه الأزمات فحسب، بل باعتبارها أصولًا حيوية تمتلك القدرة على المساهمة في معالجتها.
الأمن الغذائي في الأراضي المهمَّشة
تصاعد انعدام الأمن الغذائي في لبنان بشكل حادّ، إذ يُقدَّر أنّ نحو 1.65 مليون شخص يواجهون مستويات أزمة أو طوارئ من الجوع (أخبار الأمم المتحدة، 2025). وقد أُبلغ عن هذه الأرقام بعد حرب عام 2024 التي لا تزال تقنيًا مستمرة، ما زاد المخاطر على الأراضي الزراعية في البقاع والجنوب. فقد أدّت الحرب إلى أضرار واسعة في الأراضي والأصول الزراعية—بما في ذلك حرق نحو 12 ألف هكتار من الأراضي الزراعية—وتسبّبت بخسائر في القطاع تجاوزت مليار دولار، فيما يواجه نحو 1.65 مليون شخص (قرابة 27.5% من سكان لبنان) مستويات طارئة من الجوع.
الخريطة 2: وضع الأمن الغذائي خلال الحرب (الشكل الأيسر) والتوقّعات بعد الحرب (الشكل الأيمن).
ومن المفارقات أنّ المناطق الأكثر تضرّرًا من الجوع هي تلك التي تضمّ أغنى الأراضي الزراعية في لبنان. فبحسب المخطّط التوجيهي الوطني الشامل لتنظيم الأراضي اللبنانية (NPMPLT)، تقع العديد من المناطق الزراعية الأعلى قيمة في البلاد تحديدًا ضمن المجتمعات التي تعاني أشدّ أشكال التهميش الاجتماعي–الاقتصادي (انظر الخريطة 3).
الخريطة 3: أكثر الأراضي الزراعية قيمة وفقًا للمخطّط التوجيهي الوطني الشامل لتنظيم الأراضي اللبنانية. المصدر: وثيقة NPMPLT، الفصل الأول.
تكشف هذه المفارقة عن إشكالية بنيوية أعمق: فالمناطق المهمَّشة تساهم بأكبر قدر في الإنتاج الزراعي الوطني، لكنها تجني أقلّ قدر من عائداته، والبنى التحتية، والاستثمارات العامة. وعندما تسكن أكثر المجتمعات تهميشًا فوق أكثر الأراضي خصوبة، يصبح الأمن الغذائي مسألة لا تنفصل عن العدالة الاجتماعية.
الهشاشة المناخية وعبء الفقراء
يضيف تغيّر المناخ طبقة جديدة من الهشاشة تتقاطع مكانيًا مع الفقر وانعدام الأمن الغذائي. فالمناطق المهمَّشة في لبنان تسجّل أيضًا أدنى النتائج على مؤشر القدرة على الصمود المناخي، ما يدلّ على تزايد حدّة الضغوط المناخية على النظم البيئية والمجتمعات. وتفتقر هذه المناطق إلى الصمود البنيوي والحماية المؤسسية، ما يجعلها أكثر عرضة للفيضانات والجفاف وحرائق الغابات وتدهور التربة (كباكيان، 2021). وتُظهر الخريطة أدناه كيف تختلف قدرة المناطق اللبنانية على الصمود في وجه تغيّر المناخ.
الخريطة 4: مؤشر الصمود المناخي لمناطق سبل العيش. المصدر: برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، “آثار تغيّر المناخ على لبنان”، 2021، فهاكن كباكيان.
ويكتسب مفهوم العدالة المناخية أهمية خاصة هنا؛ إذ إنّ المخاطر المناخية لا تؤثّر في جميع المجتمعات على نحو متساوٍ، بل تُفاقم أوجه اللامساواة القائمة. فالمجتمعات التي تعاني أصلًا من محدودية الوصول إلى الخدمات، وهشاشة سبل العيش، وضعف الحوكمة، هي نفسها الأقل قدرة على التكيّف مع الصدمات البيئية. وعليه، يصبح تغيّر المناخ ليس مجرّد قضية بيئية، بل قضية عدالة بامتياز.
حوكمة الأراضي بوصفها الحلقة المركزية
يواجه لبنان هذا الواقع المقلق في ظل غياب تنظيم استعمال الأراضي عن 85% من المساحة الوطنية، رغم وجود المخطّط التوجيهي الوطني الشامل لتنظيم الأراضي اللبنانية، الذي أُقرّ عام 2009 بوصفه الإطار التخطيطي المكاني العام للبلاد (استوديو الأشغال العامة، 2025). وكما يظهر في الخريطة 5، فإنّ الأراضي التي تتّسم بالفقر وانعدام الأمن الغذائي والغنى الزراعي المتناقض هي نفسها الملوّنة بالأبيض، أي تلك غير الخاضعة لأي تنظيم عمراني. ويترك هذا الفراغ التنظيمي الأراضي الزراعية عالية القيمة، والتراث الثقافي، وسبل العيش، والموارد الطبيعية، وغيرها من الأصول الحيوية، عرضة للبناء العشوائي، واستنزاف الموارد، والتمدّد العمراني غير المنظّم.
الخريطة 5: وضع التخطيط في المناطق اللبنانية، حيث تشكّل المناطق غير المخطّطة 85.6% من مجمل الأراضي اللبنانية. المصدر: استوديو الأشغال العامة.
إنّ ضعف حوكمة الأراضي يقوّض مباشرة الحق في التنمية. فعندما تُدار الأراضي على نحو سيّئ، تصبح التنمية غير عادلة، وتضعف النظم الغذائية، ومع تسارع تغيّر المناخ، تزداد هشاشة المجتمعات في مواجهة المخاطر المناخية.
المضيّ قدمًا: مقاربة مكانية للتنمية
يكشف تحليل الطبقات المتداخلة من التهميش في لبنان عن حاجة ملحّة للتحرّك من أجل الحفاظ على ما تبقّى من أرض البلاد ومواردها وسكّانها. وتتمثّل الخطوة الأولى الأكثر منطقية في تفعيل المخطّط التوجيهي الوطني الشامل لتنظيم الأراضي اللبنانية، مقرونًا بمراجعة شاملة وتحديث، نظرًا إلى مرور ما يقارب عقدين على إعداده. إذ ينبغي إعادة تنظيم الأراضي اللبنانية وحوكمتها وفق مبادئ الاستدامة، بما يشمل حماية الموارد الطبيعية، وصون الثروة الزراعية، ومنع التوسّع العمراني غير المنظّم.
ونظرًا لندرة الموارد الطبيعية، يجب إعطاء الأولوية لمعالجة أوضاع الموارد المائية والأراضي الزراعية، إدراكًا لخطورة التهديدات التي تطاول الأمن الغذائي والآثار المتراكبة لتغيّر المناخ. ويتطلّب ذلك تطبيق آليات صارمة لحماية المياه الجوفية، والحدّ من الإفراط في الاستغلال، وإعادة تأهيل شبكات الريّ، واستعادة الإنتاجية الزراعية بما يضمن الاستدامة على المدى الطويل.
وعلى مستوى الناس والمجتمعات، تكمن الأولوية في تفعيل الاقتصاد الدائري على المستويين المحلي والوطني، استنادًا إلى الرؤى المكانية التي يبرزها المخطّط التوجيهي. ويشمل ذلك مراجعة ديناميات سوق العمل، وفهم الخصوصيات الاجتماعية–الاقتصادية الإقليمية، ومواءمتها مع مسارات التعليم المهني والأكاديمي. كما ينبغي توجيه القطاع الخاص نحو تعزيز سلاسل القيمة المحلية وتوليد فرص عمل مستدامة، ولا سيّما للفئات المهمَّشة. ورغم أنّ البعد الاقتصادي يتجاوز هذه التدابير، فإنّ التخطيط السليم لاستعمال الأراضي والاعتراف بالموارد الطبيعية والبشرية يشكّلان الأساس لأي استراتيجية تعافٍ وطنية تضمن حق الناس في التنمية.
وعلى الصعيد الوطني، يستحقّ كل جزء من الأراضي اللبنانية اهتمامًا علميًا وعمليًا عبر توثيق موارده، وحمايتها، وصون تراثه الثقافي ومجتمعاته. والأهمّ هو تعزيز الوعي العام لدى المواطنين اللبنانيين بالخصوصيات الطبيعية والثقافية لكل منطقة. وينبغي إدماج هذه المعارف في المناهج المدرسية لتعزيز فهم وطني موحّد لهوية البلاد وأصولها الأساسية.
إنّ إعادة بناء هذا الوعي الجماعي—بالأرض والموارد والناس—أمرٌ جوهري لصون ما تبقّى، وفتح الطريق أمام التعافي والازدهار.
احدث المنشورات