قانون الشراء العام في لبنان... اولى الخطوات الجدية في مكافحة الفساد
اسباب الفساد
يعاني لبنان منذ استقلاله من أزمة جوهرية متمثلة في أسلوب ونهج ادارة الدولة. فبالرغم من وجود مجموعة من المؤسسات والتشريعات الكفيلة بتأمين حوكمة فاعلة وشفافة، لم تقم الادارات اللبنانية المتعاقبة بتطويرها لتمكينها من مواكبة العصر. اضافة الى ذلك، كانت ممارسات السلطة اللبنانية طيلة عقود ترتكز على مبدأ التحايل على هذه المؤسسات والتشريعات، واستخدامها لمصالح سياسية، طائفية وشخصية عبر استغلال الثغرات في التشريعات، والسيطرة على المؤسسات من خلال تعيين اداراتها وفق معيار التبعية المطلقة للسلطة الحاكمة.
لقد ساهم ذلك في تفشي ظاهرة الفساد الذي أوصل لبنان الى حافة الانهيار مثقلا بدين عام مخيف ومالية عامة منهوبة. هذا النهب المتمادي، والممنهج للمال العام، اعتمد بشكل كبير على الصفقات العمومية في كافة المجالات والخدمات.
الشراء العام في لبنان
ان الدولة، في اي مكان في العالم، هي الشاري الأكبر في الاسواق. فهي تلبي حاجاتها من الاشغال واللوازم والخدمات من خلال تعاقدات مع موردين، وهو باب انفاقها الأساسي الى جانب رواتب موظفيها. يشكل هذا الباب نسبة 13 % من الموازنة العامة للدولة اللبنانية، دون احتساب الصفقات التي تجريها المؤسسات العامة والبلديات. وبالتالي فإن لمنظومة الشراء والصفقات في لبنان أهمية قصوى وتأثير مباشر على مالية الدولة واقتصادها.
هذه المنظومة غير الموحدة، تخضع لسلطة قوانين متفرقة، تخطاها الزمن الى حد بعيد، فقانون المحاسبة العمومية الصادر سنة 1963، ونظام المناقصات الصادر سنة 1959 والمعدل سنة 1962 فقدا الصلاحية الزمنية والموضوعية، مما أدى الى تدني كبير في جودة المنظومة الشرائية العامة في لبنان والذي رصده المؤشر العام لجودة دورة الشراء الذي بلغ 48/100 لدى الجهات الدولية.
اهمية الاصلاح
من هنا تبرز ضرورة اصلاح جذري لمنظومة الشراء والصفقات، عبر قانون عصري للشراء العام وادواته، أي دفاتر شروط نموذجية وإجراءات واضحة. هذا القانون يشكل أحد الركيزة الاساسية في مكافحة الفساد شبه المقونن والهدر، المتسلحين بثغرات النصوص الحالية والغطاء السياسي لصيغة العقود بالتراضي، واقراره هو بند اساسي في كافة الخطط الإنقاذية المطروحة على الدولة اللبنانية، من مؤتمر "سيدر" الى صندوق النقد الدولي.
إن اقتراح قانون الشراء العام الذي يُناقش في اللجان النيابية المختصة حاليًا، يقدم مقاربة عصرية تعالج في الصميم فوضى المناقصات والمشتريات، بالإضافة الى معالجة كل الثغرات التشريعية التي تشوب منظومة الشراء العام في لبنان. وقد اشارت التقديرات الى ان اقراره قد يحقق وفرًا سنويًا قيمته 500 مليون دولار بحسب معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي، مما يرفع منسوب الانفاق الاستثماري للدولة ويفتح المجال امام المؤسسات الصغيرة والمتوسطة المشاركة بفاعلية في العقود الحكومية، بسبب معالجته مشكلة التأخر في الدفع الذي يسود حاليا في الشراء العام بنسبة 75% واتاحته الولوج الى المعلومات حول الصفقات وشروط المشاركة بها، وذلك يصب في مصلحة تطوير الاقتصاد اللبناني.
ابرز الاصلاحات وأثرها
يقوم الاقتراح على مبدأ الشمولية لكافة صفقات الدولة اللبنانية بكافة مؤسساتها ومرافقها، كما يعتمد على قدرة ادارة الشراء العام على التدخل لوقف أي عملية مخالفة، ويؤمن المساءلة لأول مرة في المناقصات بناء على حق الوصول الى المعلومات الذي اوجب شفافية مطلقة، تمنع الى حد كبير الفساد.
يحدد اقتراح القانون في مقدمته المرتكزات الأساسية التالية:
1- تطبيق الاجراءات التنافسية كقاعدة عامة.
2- اتاحة فرص متكافئة دون تمييز للمشاركة في الشراء العام.
3- توفير معاملة عادلة ومتساوية وشفافة ومسؤولة لجميع العارضين والملتزمين.
4- علنية الاجراءات ونزاهتها ومهنيتها بشكل يفعل الرقابة والمحاسبة .
5- تشجيع التنمية الاقتصادية المحلية والانتاج الوطني على أساس القيمة الفضلى من انفاق المال العام، دون الاخلال بالفعالية.
تخضع عمليات الشراء الى قواعد الحوكمة الرشيدة وتأخذ بعين الاعتبار مقتضيات التنمية المستدامة. لا تطبق أي استثناءات على هذا القانون.
كما يتضمن استحداث ادارة الشراء العام المستقلة التي تنظم وتشرف على منظومة الشراء، ولجنة الاعتراضات التي تنظر في المراجعات والشكاوى. كما يعتمد اقتراح القانون على قدرة ادارة الشراء العام على التدخل المباشر لوقف اي عملية مخالفة، ويؤمن المساءلة لأول مرة في المناقصات بناء على حق الوصول الى المعلومات الذي اوجب شفافية مطلقة، تمنع وتكافح الفساد الى حد كبير.
من جهة اخرى يعالج اقتراح القانون آفة دفاتر الشروط التي لطالما كانت تعد لمصلحة افراد او شركات معينة، عبر تحديده محتويات الدفاتر كالوصف الدقيق للحاجة او السلعة المطلوبة الى جانب شروط العقود وتحديد العملة المستخدمة والمهل بكافة اشكالها.
ايضا يعزز اقتراح قانون الشراء العام مبدأ العلنية للمناقاصات، من خلال الاعلان المسبق عنها وعن الصفقة واجراءات التلزيم. ويعزز الشفافية والقدرة على المحاسبة من خلال الزام نشر المعلومات المرتبطة بالصفقة على منصة الكترونية انفاذًا لمبدأ الحق بالوصول الى المعلومات.
اشكاليات الاقتراح
منذ ان باشرت اللجان النيابية المختصة مناقشة اقتراح قانون الشراء العام، فتح في لبنان نقاش مجتمعي حوله، بين مؤيد ومعارض. ان ضرورة تطوير منظومة الشراء العام هي مصدر اجماع لدى جميع الخبراء والمعنيين، انما يواجه الاقتراح اشكالية اساسية بنظر البعض تتمثل في تحويل ادارة المناقصات الموجودة حاليا، الى ادارة الشراء الذي ينص عنها القانون المقترح وتحجيم دورها لمصلحة الوزراء الغير خاضعين للمساءلة الإدارية، اضافة الى ازالة دورها الرقابي وتحويلها الى جهة رصدية تصدر التقارير فحسب. كما وان الاقتراح لا يُعطى رئيس إدارة الشراء العام الصلاحيات المالية والإدارية و يحصرتحديدها بمرسوم صادر عن مجلس الوزراء خلافا لباقي رؤساء الهيئات الرقابية الاخرى.
مواكبة القانون
يؤكد الخبراء ان اقرار القانون المقترح للشراء العام، يشكل خطوة متقدمة في اتجاه ضبط الهدر ومكافحة الفساد وتطوير منظومة الشراء والتلزيمات في لبنان، انما يجمعون على عدم كفايته اذا لم يترافق مع رزمة تدابير واصلاحات تبدأ بتحديد كافة الجهات المخولة بالشراء العام ومعرفة حدود صلاحياتها واعادة صياغة عصرية لادارة المناقصات في الدولة اللبنانية وصولا الى الشراء الالكتروني الذي يؤمن النزاهة والشفافية ويرفع منسوب الثقة في الدولة لدى الشعب والمستثمرين على حد سواء.
لا بد من الاشارة في الختام ان اقرار قانون الشراء العام يشكل احد الشروط الرئيسية للمجتمع الدولي والجهات المانحة للموافقة على مساعدة لبنان في تخطي محنته الاقتصادية والمالية، بالاضافة الى قانون استقلالية القضاء واصلاح قطاع الكهرباء. ويبقى السؤال المطروح، عن مدى جدية الطبقة السياسية في لبنان في اجراء الاصلاحات المطلوبة لتفادي انحلال الدولة في ظل التوازنات السياسية القائمة وتشابكها الوثيق مع المصالح المالية لافراد ومجموعات التي تكون هذه الطبقة، وامكانية تنازلها عن مكتسباتها في اقتسام موارد الدولة من خلال الصفقات المشبوهة طوعا، علما ان هذه المكتسبات والمنافع شكلت ولا تزال احد ابرز مقومات وجودها، كقوى تتحكم بمفاصال الامور في لبنان.
محمود الناطور