يُعدُّ تحرير أسعار المحروقات والأدوية، أي بيعها وفق سعر الدولار في السوق، أمراً متوقّعاً، لا بل حتميّاً، نتيجة إفلاس القطاع المالي وتراجع حجم الدولارات الوافدة إلى لبنان، لا سيّما من الودائع، اللذين أدّيا إلى تعطّل الاقتصاد السياسي وتراجع القدرة على تشغيل مُحرّكاته، وبالتالي الإبقاء على مستوى المعيشة نفسه.
إلّا أن تحرير الأسعار في ظلّ غياب أي خطّة موازية لحماية المجتمع عبر تأمين الحقوق والخدمات الأساسيّة للجميع وخصوصاً الطبابة والسكن والتعليم والنقل، وبناء اقتصاد كفوء يساهم في النهوض عبر شحذ عجلات إنتاج القيمة وخلق فرص العمل، هو بمثابة قفزة نحو مرحلة جديدة من السقوط الحرّ، والتوغّل أعمق في نفقٍ لا يلوح في أفقه أي بصيص ضوء.
تبديد المجتمع
لا تنحصر تبعات تحرير أسعار السلع الأساسيّة بارتفاع أسعارها وبالتالي كلفة معيشة المقيمين فحسب، الذين بات 74% منهم يعيشون في فقر بحسب الإسكوا، فيما 33% من الأسر محرومة من الطبابة والرعاية الصحّية، وأكثر من نصفها لا يستطيع الحصول على الدواء. بل سوف يؤدّي إلى القضاء على ما تبقّى من مؤسّسات صغيرة ومتوسّطة ونشاطات اقتصاديّة تعتمد على الطاقة والنقل لاستمرار تشغيلها. وفق مسح أخير أجراه البنك الدولي تبيّن أنّ 61% من الشركات اللبنانيّة قلّصت 43% من موظّفيها الثابتين منذ خريف 2019، وأنّ تراجع النموّ الاقتصادي سوف يستمرّ في العام 2021 بنسبة 9.5%، بعد أن سجّل 20.3% في العام 2020، و6.7% في العام 2019. هذه الأرقام مرشّحة للارتفاع أكثر بعد تحرير الأسعار، ما سوف يفاقم الانكماش الاقتصادي ويرفع معدّل البطالة وبالتالي الفقر والهجرة.
لا تُدفع هذه الكلفة الباهظة سوى للحفاظ على مصالح أصحاب المصارف وكبار مودعيها، بما يشكّلونه في بنية الاقتصاد السياسي وتركيبة التنظيم الطبقي للبلاد، وذلك من خلال الامتناع عن إعلان إفلاس مؤسّساتهم المُفلسة فعلياً، وتحميلهم خسائر ما تسبّبوا به. وهذا ما يُحدِّد مُسبقاً المستقبل القاتم للأجيال المُقبلة، إذ يتوقّع البنك الدولي أن يلزَم لبنان بين 12 إلى 19 عاماً ليتعافى، بمعنى أنّ يعود إلى الحال التي كان عليها في العام 2017، وهي حال مذرية بكلّ الأحوال، مع ما سوف تحمله هذه الفترة الطويلة من تشوّهات سوف تصيب المجتمع سواء من خلال هجرة من استطاع إليها سبيلاً أو بانجرار المزيد ممن يبقى نحو الفقر.
تهرّب من تحديد سعر صرف
يُصوَّر تحرير الأسعار على أنّه رفع للدعم حماية لأموال المودعين، لكن بعد تبديد نحو 90% منها، سواء بتهريبها إلى حسابات النافذين والمحظيين في الخارج، أو بتحويلها من مجمل المودعين إلى أصحاب المصارف وكبار مودعيها عبر آليّة الدَّيْن ودفع الفوائد، أو من خلال الاستيراد الذي عزّز مصالح المستوردين والتجّار وحافظ على أرباحهم. لكن ما يحصل فعلياً هو تهرّب من تحديد سعر صرف رسمي جديد، وهذه إحدى مسؤوليّات المجلس النيابي، بهدف الإبقاء على سعر الصرف الرسمي الحالي.
مع تنامي أزمة شحّ الدولارات، التزم مصرف لبنان منذ صيف 2019 بتأمين الدولارات لمستوردي المحروقات والقمح والأدوية على السعر الرسمي. لم يدعم مصرف لبنان أسعار هذه السلع، ولم يضخّ عملات أجنبيّة في السوق أو يمتنع عن التدخّل أساساً، بحيث يلجأ المستوردون إلى الصرّافين لشراء الدولار، الذي ربّما ما كان وصل سعره إلى هذا المستوى.
لكن مع ارتفاع سعر الدولار نتيجة عوامل عدّة منها تقييد السيولة، وتأخير فتح اعتمادات الاستيراد، ولجوء المصارف إلى شراء الدولارات من السوق لتكوين سيولة خارجيّة، قرّر المصرف المركزي، خلافاً للقانون، الامتناع عن توفير الدولارات بموجب السعر الرسمي واستبدله بأسعار مختلفة: 3900 ليرة للمحروقات، 13 ألف ليرة للدواء، 12 ألف ليرة للمودعين الخاضعين للتعميم 158، و3900 ليرة للمودعين الخاضعين للتعميم 151، 12 ألف ليرة على منصّة صيرفة، إلخ...
ما يعني أنّ المصرف المركزي، ومن دون أي اعتراض من الحكومة أو البرلمان، أي برضا كلّ الزعماء، قرّر التمسّك بسعر صرف رسمي إنّما من دون استخدامه لحماية المجتمع والاقتصاد. من هنا، يصبح السؤال عن الغاية من الإبقاء على هذا السعر وعدم بيع الدولارات على أساسه مشروعاً.
نهش الموارد الباقية
تحكم الصراعات على الموارد علاقات المجتمعات المختلفة. تشتدّ هذه الصراعات خلال الأزمات، بحيث يستحوذ الأقوى على الموارد المُتاحة حارماً الأضعف منها. أمّا الدولة فهي أداة لتطبيق القواعد (الأنظمة والقوانين) المفروضة بموجب موازين القوى القائمة داخل أي مجتمع، والحرص على عدم خرق النظام وتهديد المصالح الكامنة ضمنه. من هنا تحديداً، تنطلق مسألة تحرير الأسعار التي ليست إلّا محاولة للاستحواذ على الموارد الماليّة القليلة الباقية ومن ضمنها الدولارات.
في الواقع، يكمن الهدف من عدم بيع الدولارات على أساس السعر الرسمي بتخفيف العجز في ميزان المدفوعات أي صافي الأموال الخارجة والوافدة إلى البلاد. ما يعني توفير الدولارات بسعر أعلى من السعر الرسمي لتخفيض القدرة الشرائيّة للمقيمين، وبالتالي الاستهلاك ومن ثمّ الاستيراد، بهدف استخدام الدولارات المتبقية لغايات أخرى غير مُرتبطة بتمكين المقيمين من الحصول على حاجاتهم الأساسيّة والاقتصاد من العمل بكلف أقلّ.
إن الإبقاء على سعر الصرف الرسمي من دون استخدامه لتوفير الدولارات على أساسه يخدم غايتين هما:
1) تخفيض خسائر المصارف من دون إعلان إفلاسها، وذلك عبر دفع الناس إلى تسييل دولاراتهم في المصارف على سعر 3900 ليرة لتأمين كلفة معيشتهم، وبالتالي تخفيض المطلوبات على المصارف بالدولار دون حاجتها إلى تأمين هذه الدولارات، أو من خلال حصولهم على 800 دولار نصفها على سعر 12 ألف ليرة ونصفها بالدولار للغاية نفسها.
2) تجنّب إعادة تقويم رساميل المصارف وفق سعر صرف جديد بما يظهر تبخّرها ويوجب إعلان إفلاسها.
طبعاً خلال هذا الوقت، الذي قد يستمرّ إلى نحو 10 سنوات وفق بعض التقديرات، تكون المصارف قد شطبت جزءاً كبيراً من خسائرها عبر تحميل الكلفة إلى غالبيّة المجتمع بدلاً من دفع ثمن الانهيار من رساميلها وأموالها الخاصّة وفق ما ينصّ عليه القانون.
زبائن لا مواطنين
عملياً، ما تعرضه الأطراف الأقوى في الاقتصاد السياسي في لبنان هو قبول غالبيّة المجتمع بمستوى معيشي أقل أي الانزلاق نحو الفقر وتحمّل الحرمان من أدنى الحقوق الأساسيّة والخدمات العامّة، أو السعي إلى تأمين كلفة احتياجاتهم من مصادر دخل خارجية أي من خلال هجرة الشباب للاستمرار بإرسال التحويلات الماليّة إلى أفراد أسرهم.
في الحالتين الهدف واحد؛ إن وجود عدد كبير من المواطنين الذي يطالبون بحقوقهم لا يناسب نظاماً غير منتج قائم على الاستهلاك، إلّا في حال ارتضوا الفقر والتخلّي عن أبسط حقوقهم. يريدهم هذا النظام مجرّد زبائن يعملون في الخارج ليعزّزوا استهلاك أسرهم في الداخل ويزورنهم دورياً، فيعيدون شحنه بالدولارات التي يحتاجها ليستمرّ أو يجدّد نفسه.
في الواقع، لا يمكن موازنة العجز بالعملات الأجنبيّة إلّا بهذه الطريقة، لا سيّما في ظلّ التمسّك باقتصاد الريع والاستهلاك وعدم تغيير بنيته، وغياب الصراع السياسي لتعديل موازين القوى داخل المجتمع وفرض مصالح الفئات الشعبيّة، وبالتالي تحديد شكل آخر للدولة والاقتصاد الذي نريدهما.