تونس: الاستعداد لتطبيق شروط صندوق النقد
لا تزال تونس تواجه تداعيات ثلاث أزمات مؤلمة وشديدة التعقيد. أولها الأزمة السياسية المستمرة التي لا تزال تحول دون تحقيق الاستقرار الحكومي. هذا الاستقرار الذي لم يعد مطلب التونسيين وحدهم، وإنما تحول أيضا إلى رغبة ملحة لجميع الأطراف التي تتعامل مع تونس مثل المؤسسات الدولية وعلى رأسها صندوق النقد الدولي. فالحكومة الحالية التي لم يمض على عمرها سوى أربعة شهور تجد نفسها في مأزق غير مسبوق، بسبب رفض الرئيس قيس سعيد قبول التعديل الوزاري الواسع الذي قام به هشام المشيشي، رغم تزكيتهم من قبل البرلمان بأغلبية مريحة. حجة سعيد في ذلك أن أحد الوزراء له قضية شبهة فساد منشورة لدى القضاء، وثلاثة منهم تحول حولهم شبهة تضارب مصالح. وهو ما ينفيه رئيس الحكومة، ويعتبر أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته.
أما الأزمة الثانية فهي اقتصادية، حيث لم يعد بالإمكان تأجيل الإصلاحات التي يدعو إليها الكثيرون، وبالأخص صندوق النقد الدولي الذي قرر لأول مرة منذ شروعه في التعاون مع تونس أن يعاقبها من خلال الامتناع عن منحها القسط الثالث من قرض وقعت عليه في سنة 2015. ويعود السبب إلى عدم التزام الحكومات المتتالية تنفيذ الشروط الواردة بالعقد. في مقدمة هذه الشروط الضغط على كتلة الأجور، والشروع في إصلاح المؤسسات العمومية التي تعاني من عجز متراكم. لكن مختلف الحكومات تخوفت من الإقدام على هذه الخطوات خوفا من غضب النقابات، وشعورا منها بأن طريق الإصلاحات مكلف جدا على المستويين السياسي والاجتماعي. المشكلة اليوم أن صندوق النقد لم يأت إلى تونس ولم يحاول إغراءها لتزيد من حجم ديونها، وإنما الحكومة هي التي لجأت إليه من أجل مساعدتها على سد الثغرة في ميزانيتها الجديدة لسنة 2021. عندها تعامل معها الصندوق بصراحة ووضوح، وقدم لها قائمة في الإصلاحات العاجلة التي بدونها لن يقدم لها أي قرض جديد.
بالنسبة للأزمة الثالثة فهي ثقيلة في الميزان نظرا لكونها تتعلق بدفع ضريبة قاسية في الأرواح بعد الموجة الرابعة من جائحة كوفيد 19. فخلال الموجة الأولى التي تغلبت عليها حكومة الفخفاخ فقدت تونس حوالي 350 قتيل فقط، لكن اليوم بلغت المحصلة سبعة آلاف، في حين امتلأت المستشفيات بنسبة تجاوزت ثمانين بالمائة من قدراتها. لقد أُنهك الجيش الأبيض، وكشفت القدرات الذاتية والبنية التحتية الصحية عن ثغراتها الهيكلية في ظرف مأزوم. تأخر وصول اللقاح، وتعددت احتجاجات الأطباء والكادر الصحي الذين لجأوا إلى الإضراب مرات عديدة، سواء بسبب عدم توفر الإمكانيات الضرورية، أو بسبب تعرض بعضهم للعنف من قبل المواطنين الغاضبين. كما أن الإطار الطبي يشكو أيضا من تدهور أوضاعهم المالية والاجتماعية. لقد انهار القطاع الصحي بعد سنوات طويلة من الإهمال.
في ظل هذه الأجواء الداكنة، تحاول الحكومة البحث عن حلول لإنقاذ البلاد والدولة من انهيار وارد. فعلى المستوى السياسي، تتعالى أصوات خبراء القانون الدستوري بحثا عن فتاوى من شأنها أن تخرج النظام السياسي من مأزقه الراهن. فالرئيس متمسك بالقول أن من حقه رفض الوزراء الذين يعتقد بكونهم في وضع مخالف للدستور، وان وجودهم في الحكومة من شأنه أن يلحق ضررا بالشعب وبدولة القانون. في حين تعتقد الحكومة والأغلبية البرلمانية أن المصلحة العامة تفرض على الرئيس تمكين الوزراء من الشروع في تحمل مهامهم، والقضاء وحده هو الذي يمكن أن يفصل في هذه المسألة. لكن من وراء هذا الصراع القانوني، تكمن معضلة الصراع حول الصلاحيات وتحديد أدوار الرؤساء الثلاثة. في ظل غياب المحكمة الدستورية التي عطلتها الأحزاب، فُقد الهيكل الذي من شأنه أن يحسم أي خلاف يهدد استقرار الدولة، ويُعرّض المسار الانتقالي إلى الخطر.
هناك تصوران لمستقبل النظام السياسي. تصور يدافع عنه رئيس الجمهورية، والقائم على أن الدولة لها راس واحد، وأن الرئيس هو الذي اختاره الشعب ليحكم لا أن يكون مجرد "ساعي بريد" على حد قوله. في المقابل أكد رئيس مجلس النواب راشد الغنوشي مؤخرا أن "الأزمة السياسية التي تعيشها البلاد هي إشكالية المزج بين النظامين الرئاسي والبرلماني، وأن المفترض أن دور الرئيس في النظام الحالي رمزي". وبذلك يكون رئيس حركة النهضة قد زاد في تعميق الصراع عندما حول منصب الرئاسة إلى هيكل صوري بلا سلطة. هذا يعني أن أزمة الحكم مرشحة لمزيد من الحدة والتفكك.
في المجال الاقتصادي، أعلن مؤخرا وزير المالية أن تونس تستعد تدشين حزمة إصلاحات عاجلة من أجل "اقتصادها العليل"، وأنها تخطط "للتقليص من أجور الوظيفة العمومية"، وتعمل على "تحفيض الدعم" و "إعادة هيكلة الشركات المملوكة للدولة ذات الأداء الضعيف". هذا يعني أن الحكومة قررت الاستجابة لشروط صندوق النقد، وهي تتهيأ لتقديم عرض متكامل في هذا الشأن. لكنها تعلم بأن ذلك لن يتحقق إذا لم تأخذ بعين الاعتبار صوت الاتحاد العام التونسي للشغل، رغم أنها نجحت في كسب البنك المركزي إلى صفها، والذي سيلعب دورا هاما في تمويل الميزانية الجديدة.
ويحصل هذا في ظل حركات احتجاجية متصاعدة لم تهدأ حتى الآن رغم مرور أشهر عديدة. وهذا مؤشر على أن تونس لا تزال بعيدة عن الوصول إلى شاطئ الأمان. الأسابيع القادمة ستكون ساخنة ومليئة بالأحداث والمفاجآت.
صلاح الدين الجورشي