تأثير الحرب على الأوضاع السياسية ومسار التحول الديمقراطي في السودان - د. محمد إبراهيم الحسن
تأثير الحرب على الأوضاع
السياسية ومسار التحول الديمقراطي في السودان - د. محمد إبراهيم الحسن
قد تكون الحرب أبشع ممارسات البشرية.
فمهما كانت أسبابها ودوافعها تبدو كظاهرة غير عقلانية وتتسم بالتعقيد ولا يوجد أي
مجال للتخمين والتنبؤ في ميدان الحرب، وجرثومة الحروب تنمو في مختلف البيئات
والبنيات الجغرافية والسكانية والإقتصادية والسياسية، وبحسب كلاوزفيتز فإن الحرب
نشاط إجتماعي وشأن من شؤون الدولة وعمل منظم تشنّه الدولة لمصلحتها وأحياناً تكون
ضد الدولة نفسها. ولقد انقسم المفكرون والسياسيون والاستراتيجيون حول الأسباب التي
تؤدي الى اندلاعها.
وعلى الرغم من صعوبة الإحاطة الكاملة في هذه المساحة
والوقوف على حقيقة الدوافع والعوامل التي أدت الى تفجر حرب 15 أبريل 2023م في
السودان إلا أنه يمكن تلمس بعض الأسباب الرئيسة التي أسهمت في نشوبها والتي تتمثل في
النقاط التالية:
الموقع الجيو-إستراتيجي
للسودان والاطماع الخارجية:
والذي جعله حاضراً في الأجندة الدولية والإقليمية في إطار التنافس وصراع المصالح،
فالحروب الأهلية التي شهدتها البلاد منذ ما قبل الإستقلال وحتى تاريخه مرتبطة
بصراع المصالح بين بعض القوى الدولية والإقليمية والتي بدورها حولت السودان الى ساحة
معارك تبعاً للمتغيرات التي تشهدها الساحة السياسية الداخلية والعالمية، ويبدو
صراع المحاور ماثلاً في المعارك التي تدور منذ إندلاع الحرب في الخرطوم.
الأسباب الاقتصادية: يزخر السودان بموارد طبيعية ومادية هائلة من نفط ومعادن
إستراتجية وثروة حيوانية وسمكية فضلاً عن المياه والأراضي الزراعية الشاسعة والتي جعلته
في محط الأطماع الخارجية منذ الغزوات والهجرات التاريخية والتجارب الأستعمارية
المختلفة وحتى الوقت الراهن، بالإضافة الى ذلك فقد أصبحت عاملاً رئيسياً في صراع
الثروة والسلطة بين النخب المختلفة سواء كانت مدنية أو عسكرية كما أنها شكلت مركزاً
لتفريخ وإنتاج الحركات المسلحة في الأقاليم "الولايات" التي تعاني من
مشكلات التهميش التنموي، وبعد ان اقتلعت ثورة ديسمبر نظام عمر البشير في أبريل
2019م بدا الصراع واضحا ًبين الجيش وقوات الدعم السريع للهيمنة على الموارد
الاقتصادية والسعي لورثة ثروات ومؤسسات ومشروعات النظام البائد المالية، والعمل
المشترك على عرقلة عملية تفكيك التمكين الاقتصادي التي تقوم بها الحكومة
الإنتقالية بقيادة د.عبدالله حمدوك والتي توجت بإنقلاب أكتوبر 2021م . ومن ثم ظل
الصراع محتدماً بين الجناحين العسكريين في الظفر بالثروة الى أن وصل قمته بتفجر
الحرب الراهنة.
العوامل الاجتماعية: يعتبر السودان بمثابة أفريقيا مصغرة من حيث التنوع
والتعدد الإثني والقبلي واللغوي والمعتقدي والتي القت بظلالها الكثيفة على الحروب
التي دارت فيه من الجنوب مروراً بدارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق وانتهاءً
بالحرب الحالية، فالبعد الاثني والجهوي ظل حاضراً ولايزال. ويرى بعض المهتمين
بالشأن السوداني أن الحرب الحالية هي مفاصلة عسكرية داخل الحركة الإسلامية بين
القيادات الدارفورية "الغرب" والقيادات في الوسط والشرق والشمال الشيء
الذي أدى الى إضغام خطاب جهوي في بنيات الحرب مصحوباً بصعود بعض الأصوات ذات
النزعة الانفصالية.
الدوافع السياسية: تثير الحرب الحالية جدلاً واسعاً حول دوافعها والاهداف السياسية
للأطراف المتصارعة نظراً لاختلاف طبيعتها عن طبيعة الحروب السابقة واختلاف طبيعة طرفي
النزاع فيها. أذ غالبا ما دارت الحروب بين الحكومات المركزية وحركات مسلحة لديها
مشروعها السياسي. إلا ان الحرب الأخيرة اندلعت بين طرفين قاسما السلطة السياسية
بعد الانقلاب على الحكومة الانتقالية المشتركة بين المدنيين والعسكر في أكتوبر
2021م. وقد فشل جنرالا الحرب في تجربتهما في الحكم المشترك على امتداد العام والنصف.
إلا ان الارتباط وثيق بين الدوافع السياسية الكامنة وراء الحرب مع اهداف ثورة ديسمبر
التي أحدثت تحولات عميقة في المشهد السياسي العام. ولعل الهم المشترك للجنرالين
"برهان وحميدتي" هو الغاء نتائج ثورة ديسمبر مصحوبا بالرغبة في التمسك
بالسلطة، وطبعا مسنودا الى غطاء إقليمي يسعى لإفشال تجربة التحول الديمقراطي في السودان.
وساهمت حالة الاستقطاب والانقسام التي طالت القوى الثورية لكن حدة المنافسة
ومحاولات الانفراد بالسلطة والرغبة بإحكام السيطرة بصورة خفية وعلنية بين القائدين
والتي بلغت ذروتها في يوليو 2021م كانت تنذر بحدوث مفاصلة حتمية وعن إقتراب
المواجهة المسلحة بالرغم من الجهود التي بذلتها القوى الثورية المدنية والمجتمع
الدولي لتجنبها عبر الاتفاق الإطاري[1].
الحرب - تدهور الأوضاع
السياسية وعقبات التحول الديمقراطي
تكشف الممارسة السياسية للجيش
والدعم السريع تجاه ثورة ديسمبر 2019م بغياب القناعة بغاياتها وأهدافها. وقد استغلت
القوى المناهضة للثورة وعلى رأسها أنصار النظام البائد والذين يسيطرون على مفاصل
القوتين وبقية الأجهزة الأمنية بجانب بعض الحركات المسلحة هذه الوضعية، فإتجهت الى
إشعال الحرب كخيار إستراتيجي يؤدي الى قطع مسيرة التحول الديمقراطي من خلال
التأثيرات والتداعيات العميقة التي ستحدثها على مستوى الدولة والمجتمع والتي تتمثل
بالتالي:
اولاً: تهديد وحدة الدولة: أدت الحرب الى تدمير العديد من مؤسسات الدولة فضلاً عن
عجزها في القيام بأدوارها، خاصة في المناطق التي تسيطر عليها قوات الدعم السريع،
وفي ظل استمرار الفشل وعدم قدرة الأطراف المتقاتلة على حماية المدنيين وارتكابهما مجازر
وتجاوزات على أسس عرقية وجهوية، بدأت تظهر بعض الأصوات ذات النزعة الإنفصالية
"دولة 56 في مقابل دولة النهر والبحر".
ثانياً: العسكرة وانتشار السلاح: سرعان ما تحولت الحرب في السودان بين القوتين الرئيستين
الى حرب أحلاف مفتوحة. فهناك أكثر من 15 مليشيا عسكرية تتقاتل متحالفة مع طرفي
الصراع مع إنتشار السلاح وبصورة كثيفية بين المدنيين وتشبّع جزءً كبير منهم بثقافة
العنف والانتقام، بالإضافة الى الإنتشار الواسع لعصابات الجريمة المنظمة. ويمكن
القول ان العسكرة باتت من من أخطر اثار الحرب الدائرة في السودان، وهي تتعارض مع
عملية التحول الديمقراطي. فالجيوش تسيطر
على أجزاء ليست باليسيرة من الاقتصاد الوطني بالإضافة الى المليشيات الجهوية والقبلية
ما يصعّب مهمة التحول الديمقراطي. فلا يمكن تصور مجتمع ديمقراطي تجري فيه عمليات
عسكرة منظمة ومستمرة.
ثالثاً: تغييب العمل السياسي المدني:
أدى اتساع جغرافية الحرب لتشمل أغلب الولايات الى حدوث شلل كامل في حركة وأنشطة
الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني بالداخل مع حدوث بعض التصدعات
والإنقسامات الأفقية والرأسية بداخل بعضاً منها بسبب سيادة خطاب الحشد والإستقطاب
العسكري القائم أحياناً على أسس قبلية وجهوية. يرافق ذلك توقف شبه كامل للتعليم
واغلاق الكثير من الجامعات والتي تشكل مراكز إعداد وإسناد استراتيجي للأحزاب والمجتمع المدني ما أدى الى انتشار
الجهل والأمية المصحوبة بثقافة العنف والتجييش وتغييب الوعي السياسى والتقافة
السياسية التي تعزز القيم الديمقراطية والعمل السياسي السلمي.
رابعاً: إنتهاك حقوق الإنسان وتغييب العدالة:
منذ إندلاع القتال، أعطت الأطراف المتقاتلة صلاحيات واسعة لقواتها في مناطق
سيطرتها متجاوزة الحدود الدستورية والبناء القانوني للدولة مع التغاضي الواضح عن
الإنتهاكات الصارخة للحقوق والحريات. فانتشار القتل والتعذيب والتوقيف القسري الذي
طال آلاف المدنيين دون محاكمات وبعيداً عن المؤسسات العدلية والأجهزة القضائية، وفي ظل الانتهاكات المستمرة لحقوق
الإنسان وسيادة المنطق الانتقامي، فإن البيئة السياسية التي تهدد التحول
الديمقراطي تتمدد يوما بعد يوم.
خاتمة: إن تداخل مجموعة من العوامل والممارسات أدت الى تفجير
حرب شاملة ومستمرة في السودان والى المزيد من التعقيد في المشهد السياسي لا تزال
تداعياتها تتواتر لتشكل تهديداً جدياً على بنية الدولة والمجتمع من ناحية، وعيوبا في
جسد القوى الثورية الراغبة في تحقيق التحول الديمقراطي الذي شكل هدفا وطنيا وشعبيا
على مدى أكثر من 30 عاما.
المصادر:
1/ عدنان امين شعبان، تأثير
الحرب في السودلن على الدول المجاورة، مركز الامارات للدراسات والبحوث والنشر،
2024م.
2/ محمد إبراهيم الحسن،
العسكرة في السودان وآثارها الاقتصادية، ورقة غير منشورة.
3/ سمر الباجوري، تكلفة الحرب
وأزمات الاقتصاد السوداني.
4/ مواقع إخبارية ومنصات لصحف
سودانية بالشبكة العنكبوتية.
[1] وقّع
المكون العسكري في السودان في الخامس من ديسمبر عام 2022، مع قوى مدنية بارزة في
مقدمتها إعلان الحرية والتغيير (الائتلاف الحاكم سابقا)، اتفاقا إطاريا لحل الأزمة
السياسية في البلاد.