انتخابات 2024 في تونس: اختبار للديمقراطية وسط الجدل
مساء الإثنين 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2024، تم إعلان فوز المرشح قيس سعيّد بولاية رئاسية ثانية في تونس بنسبة بلغت 90.69 في المئة من أصوات المقترعين، في ظل جدلٍ واسع متعلّق بنسب المشاركة، وديمقراطية ونزاهة الانتخابات، والإجراءات القانونية التي رافقتها، وتداعياتها المحتملة على مجمل المشهد السياسي التونسي.
وقد انقسمت الآراء حول الانتخابات الاخيرة، بين من
اعتبرها فرصة للتغيير وبين من رأى فيها "مسرحية صورية" لتجديد العهدة
للرئيس وتعزيز شرعية نظامه المتراجعة. وفي خضم هذا الجدل
المتواصل، تعرض معظم الذين أعلنوا ترشحهم للرئاسة للملاحقة القضائية والسجن، مما
جعل عددا من الشخصيات والأحزاب تؤكد استحالة اختيار رئيس بطريقة ديمقراطية في ظل
حكم قيس سعيّد، ونادت بمقاطعة الانتخابات وكان سعيّد قد صرح في السادس من نيسان/أبريل
2024 بأنه لن يقبل بترشح مجموعات ترتمي في أحضان الخارج، وفق قوله. وفي هذا الإطار، أعلنت
جبهة الخلاص الوطني، أكبر ائتلاف للمعارضة، في نيسان/ أبريل الماضي، أنها لن تشارك
في الانتخابات بدعوى "غياب شروط التنافس"، بينما تقول السلطات إن
الانتخابات تتوفر لها شروط النزاهة والشفافية والتنافس العادل.
وفي 19 تموز/يوليو 2024 أعلن الرئيس التونسي قيس سعيّد ترشحه بصفة رسمية
للانتخابات الرئاسية المقررة في السادس من أكتوبر/تشرين الأول المقبل. وفي الثاني من سبتمبر، أقرّت
الهيئة العليا المستقلة للانتخابات القائمة النهائية للمرشحين للانتخابات
الرئاسية، حيث تضمنت إضافة إلى قيس سعيّد، رئيس حركة الشعب زهير المغزاوي، ورئيس
حركة "عازمون" عياشي زمال.
جرت الانتخابات، وفقًا لمقتضيات دستور 2022 الذي صاغه
الرئيس سعيد، ومنح فيه نفسه صلاحيات تنفيذية وتشريعية واسعة، وحصانة من أي مساءلة
أو محاسبة، مقابل تقليص صلاحيات البرلمان والقضاء وأُسندت مهمة الإشراف على
العملية الانتخابية إلى الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، التي كانت تنحصر
مهمتها في مجرد البتّ في دعاوى تجاوز السلطة، التي يتم رفعها لإلغاء مقررات
إدارية، قبل أن يتم تعديل القوانين المنظمة لها (عام 2014)، باتجاه إكسابها مزيدًا
من الاستقلالية، ومنحها العلوية في قراراتها، خصوصًا في النزاعات الانتخابية، بما
يجعل لها "الولاية" على المسار الانتخابيّ.
في قراءة موجزة للانتخابات الأخيرة، يمكن الإضاءة على
أربع قضايا أساسية.
تقييد العمل السياسي
تمت الانتخابات في وقت تم اعتقال 20 معارضا، بمن فيهم
زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي ورئيسة "الحزب الدستوري الحرّ" عبير
موسي، إضافة إلى استمرار اعتقال وزراء ونواب سابقين ورجال أعمال بتهم مختلفة بما
في ذلك "التآمر على أمن الدولة".
كما ان العديد من الشخصيات المعارضة والنشطاء المدافعين عن حقوق الانسان قد وضعوا
في الإقامة الجبرية او منعوا من السفر.
تقييد مراقبة الانتخابات
اللافت الابرز في هذه الانتخابات كان اعلان الهيئة المستقلة
للانتخابات رفضها منح الاعتماد لعدد من الجمعيات التي تهتم بمراقبة الانتخابات،
مشيرة إلى تلقيها إشعارات من جهات رسمية بشأن تلقي هذه الجمعيات تمويلات أجنبية
مشبوهة بمبالغ مالية ضخمة، مصدرها بلدان بعضها لا تربطها علاقات دبلوماسية بتونس. وذكر
بيان للهيئة أنه تمت إحالة المعطيات حول هذه الجمعيات إلى الجهات المعنية للتعهد
وإجراء اللازم، كما كشفت عضوة الهيئة نجلاء العبروقي أن كلا من منظمة "أنا
يقظ" وجمعية "مراقبون" الرقابية من بين الجمعيات المعنية بالإحالة
على النيابة العمومية بتهمة التمويل الأجنبي. وتحظى المنظمتان المذكورتان بمصداقية
في مجال مراقبة الانتخابات في الشارع التونسي ولدى المنظمات الدولية المتخصصة في
الديمقراطية وحقوق الانسان والتنمية، إذ كان لهما دور في مراقبة مختلف المحطات
الانتخابية التي عرفتها تونس منذ عام 2011. من جهتها، قالت منظمة "أنا
يقظ" ردا على الاتهامات الموجهة إليها إن هيئة الانتخابات "تحاول بشتّى
الوسائل أن تقصي منظمات المجتمع المدني من ملاحظة الانتخابات بحجج واهية، مما يعزز
غياب مقومات النزاهة في المسار الانتخابي".
نشير إلى ان القانون قد منح الجمعيات ومنظمات المجتمع
المدني حق مراقبة الانتخابات، وترك للهيئة العليا المستقلة للانتخابات مسألة تنظيم
شروط الاعتماد وإجراءاته.
نزاع قضائي- إداري وتشكيك باستقلالية الهيئة العليا المستقلة
للانتخابات
شهدت الانتخابات الرئاسية 2024 تحدياً يتعلق بعدم احترام
مبادئ دولة القانون والمؤسسات، لاسيما الفصل بين السلطات، واستقلال السلطة
القضائية، بالتالي الحق في المحاكمة العادلة والعدل في تنفيذ قرارات المحاكم، وذلك
على خلفية الجدل القائم بين الهيئة العليا للانتخابات والمحكمة الإدارية العليا،
بشأن قرارات هذه الأخيرة التي تجاهلتها الهيئة.
فقد قبلت
المحكمة الإدارية طعون ثلاثة مرشحين للانتخابات الرئاسية، وقررت عودتهم إلى السباق
الانتخابي، ملغية بذلك قرارات الهيئة التي أسقتطها "بدون وجه قانوني" كما
وصف ذلك المرشحون الثلاثة، وكما نص عليه ضمنيًا قرار المحكمة، مع الطلب من الهيئة
إعادة النظر بالرزنامة الانتخابية بما يسمح لهم إطلاق حملتهم، لكن جاء قرار الهيئة
العليا المستقلة للانتخابات مفاجئاً للمتابعين،
من خلال رفض قرار المحكمة الادارية والإمعان في إقصاء المرشحين الثلاثة.
تسبًّب قرار هيئة الانتخابات في الكثير من الانتقادات التي صدرت عن قانونيين وحقوقيين وشخصيات سياسية وأحزاب ومنظمات، وتم وصفه بـ “التعسفي" و"الإقصائي" والمنحاز لرئيس الدولة الحالي. واُتهمت الهيئة بتحولها إلى "أداة لدى السلطة التنفيذية"، بما أفقدها استقلاليتها، وبالتالي مصداقيتها، ونزع عنها صفة الحياد التي عُرفت بها الهيئة منذ إنشاءها في العام 2011، خلال أول انتخابات تعددية حقيقية في البلاد، إبّان ثورة 14 يناير/كانون الثاني 2011. ودعت منظمة العفو الدولية السلطات التونسية إلى وضع حد للقمع المتزايد للحريات الأساسية، وقالت المنظمة -في بيان- إن تصاعد حالات الاعتقال التعسفي لسياسيي المعارضة وتهميش المرشحين وانتهاك القرارات القضائية يمثل مدعاة للقلق والريبة، فغالبا ما تُستخدم التهم الجنائية لإسكات الأصوات المعارضة، في حين يتم تقييد وسائل الإعلام والمنظمات غير الحكومية بشكل صارم كوسيلة لكمّ الأفواه وبث الخوف في صفوف المعارضين للنظام. وأدانت منظمة العفو الدولية بتونس رفض الهيئة العليا المستقلة للانتخابات الامتثال للقرارات القضائية التي تعيد بعض المرشحين للرئاسة، وذلك يمثل ضربة جديدة لاستقلالية القضاء وسيادة القانون.
انتظر المحيط السياسي والشعبي تراجعًا من الهيئة؛ لضمان
شفافية الانتخابات ونزاهتها، لكن هذه الأخيرة أصرت على موقفها. وخرج رئيسها، فاروق
بوعسكر، ليعلن مجددًا استمرار إقصاء المرشحين الثلاثة: عماد الدايمي، ومنذر
الزنايدي، وعبد اللطيف المكي. ووجه اتهامًا للمحكمة الإدارية بخرق الإجراءات
القانونية، الشيء الذي نفته المحكمة نفيًا قاطعًا، عبر عرض وثائق تؤكد سلامة
إجراءاتها وخطواتها وفقًا للقانون والمجلة الجزائية المنظمة لعمل المحكمة ومجالات
تدخلها.
ورغم الجدل بين المؤسستين، فإن النتيجة كانت في إقصاء
المرشحين الثلاثة، والإبقاء على الثلاثي المعلن منذ البداية: الرئيس قيس سعيّد،
وزهير المغزاوي (أمين عام حركة الشعب)، والعياشي الزمال (رئيس حركة
"عازمون") الذي أُدخل السجن موقوفًا؛ بسبب "جرائم تدليس التزكيات
الشعبية"، حسب اتهام السلطة له.
وسارعت السلطة التنفيذية إلى نشر قرار الهيئة ضمن
الجريدة الرسمية للجمهورية التونسية؛ لقطع الطريق أمام أي أمل في العودة إلى
الوراء، كما ردد الرئيس سعيّد دائمًا. حتى إن السلطة التنفيذية، مكّنت هيئة
الانتخابات من شحنة الحبر الانتخابي، و"الأكياس الآمنة"، الخاصة بأوراق
الاقتراع، في رسالة مضمونة الوصول، بأن أمر المرشحين الثلاثة الذين أصرت الهيئة
على إسقاط ترشحهم للانتخابات الرئاسية قد حُسم بشكل لا رجعة فيه، وأن خيار هيئة
الانتخابات كان سليمًا ومنطقيًا، في تقدير السلطة.
تدني نسبة المشاركة
أعلنت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات، أن عدد
المشاركين في التصويت بلغ 2808548؛ ما يعادل 28.8 في المئة من مجموع الناخبين
المسجلين البالغ 9753217، وهي نسبة أدنى كثيرًا من النسب المسجلة في الانتخابات
الرئاسية عامَي 2014 (64 في المئة) و2019 (45 في المئة).
هل كانت فعلا محطة ديمقراطية؟
انطلاقاً من المبادئ والمعايير
الدولية لحرية ونزاهة الانتخابات التي تتبنّاها الشبكات العاملة في مجال ديمقراطية
الانتخابات، وانطلاقاً من الاستنتاجات التي تم التوصل اليها بعد رصد المسار
السياسي والتي تمثلت بمنح الرئيس قيس سعيّد، المنتخب في 2019، نفسه صلاحيات
استثنائية في يوليو/تموز 2021، مدّعيا أنها ضرورية للتعامل مع أزمة الحكم. فأقدم
على تعليق مواد من دستور عام 2014 وحل البرلمان وقام بتنظيم استفتاء لتعديل
الدستور ألغى بعد اقراره بنسبة مشاركة ضعيفة اهم المكتسبات الإصلاحية وشكل تراجعاً
في المسار الديمقراطية. ناهيك عن اتخاذ السلطات مجموعة من الإجراءات القمعية ضد
المعارضين من شخصيات سياسية وأحزاب ومنظمات، بما في ذلك الإقامة الجبرية، وحظر
السفر، والمحاكمة بسبب الانتقاد العلني للرئيس او السلطات، واستخدام قوات الشرطة في
الكثير من الاحيان القوة المفرطة ضد المتظاهرين؛
يمكننا استخلاص ان الانتخابات
الرئاسية التي نظمت بتاريخ 6 تشرين الأول/أكتوبر قد انتهكت المعايير الدولية
لديمقراطية والانتخابات وبالتالي لم تلتزم بالمبادئ والاسس التي تؤدي الى تمثيل
حقيقي وصحيح لرغبة المواطنين.
فمنذ العام 2021 عبّر التونسيون عن
رفضهم للتدابير التي اتخذها الرئيس قيس سعيّد والتي أدت الى التفرد بالحكم وتمركز
السلطات في يد الرجل الواحد بعد مرور عشر سنوات على زوال الدكتاتورية في عام 2011.
وقد برز ذلك في عزوف أكثر من 90%
عن المشاركة في الاستحقاقات الانتخابية السابقة، الاستفتاء على
الدستور، والانتخابات النيابية، والانتخابات المحلية. وأكثر من 70% في الانتخابات الرئاسية علما ان نسبة
المشاركة مشكوك بمصداقيتها بعد التأخير في اصدار النتيجة النهائية حيث يرجح "مراقبون"
ان يكون قد جرى تلاعب في النسب. مع ما يحمله ذلك من دلالات تعكس خيبة امل من
المسار السياسي المنقلب على الإصلاحات الديمقراطية وتوحي بالتشكيك بشرعية النظام وضعف
الثقة بالمنظومة الحاكمة.
لذلك، من الضرورة إجراء انتخابات تستند
الى المعايير الدولية من حيث الحرية والنزاهة والعدالة والشفافية وتكافؤ الفرص. وتؤكد
على ضرورة احترام مبدأ الفصل بين السلطات وتطبيق الاحكام القضائية الصادرة عن
المحكمة الإدارية لما تشكله من احتراما لمبدأ تكافؤ الفرص وتطبيقاً لمعايير
ديمقراطية الانتخابات.