المجتمع المدني السوداني: أدوار متعددة وتحديات مستمرة - مدني عباس مدني
ظل المجتمع المدني في السودان يلعب أدوارًا مهمة في تاريخ السودان من قبل استقلاله في العام 1956، حيث ساهم في تشكيل الحركة الوطنية في السودان، ولعب أدوارًا مهمة في تشجيع التعليم الأهلي وتنظيم السودانيين، كما تواصل دوره الريادي في فترات الحكم الوطني وقاوم كافة أشكال الأنظمة الاستبدادية. وقد ظل المجتمع المدني في السودان يتفاعل مع التغييرات السياسية والاجتماعية والاقتصادية بشكل مستمر، لذلك ظل الحديث عن أدواره وما يقوم به من مهام مكان حوار متصل.
يمر السودان منذ قيام ثورة ديسمبر 2018 بتغييرات كبيرة، فالمرور من محطة الثورة إلى الانقلاب وصولاً إلى الحرب يُعتبر مسارًا زلزاليًا، يواجه فيه المجتمع المدني في السودان تحديات مختلفة ويحاول أن يصمد فيها بل ويساهم في إحداث تغييرات في هذا المسار لصالح قضايا السلام، التحول الديمقراطي، التنمية وحقوق الإنسان.
يحاول هذا المقال تلمس نقاط محددة ذات صلة تتعلق بمساهمة المجتمع السوداني في الثورة، والجدل حول الأدوار السياسية للمجتمع المدني وتأثير الحرب عليه، كما يتناول التغييرات التي طرأت على المجتمع المدني من خلال إسهام المجموعات الشبابية والقاعدية، كما يخلص إلى وجود عشم كبير حول الدور المستقبلي للمجتمع في السودان.
المجتمع المدني وجدل الدور السياسي في السودان
يلعب المجتمع المدني في السودان أدوارًا مختلفة ومتعددة، حيث ظل يؤدي أدوارًا تنموية، سياسية، ثقافية واجتماعية متنوعة، كما تتنوع أشكاله وطبيعة نشاطاته، حيث يمتد ليشكل إطارًا واسعًا يشمل منظمات المجتمع المدني، النقابات، الحركات النسوية والشبابية، المجموعات القاعدية وكل ما يندرج تحت مفهوم المجتمع المدني.
هذا التنوع في الأشكال والأنشطة التي يقوم بها المجتمع المدني في السودان جعله أكثر حيوية وديناميكية، وفي ذات الوقت، فإن تمدده في مساحات مختلفة خاصة في المجال السياسي يثير العديد من النقاشات والحوارات حول حدود مشاركة المجتمع المدني في المجال السياسي، وإلى أي مدى يمكن أن تقود هذه الدينامية إلى تغييرات سياسية واجتماعية، وهل يمكن أن تقود إلى قيام حركات اجتماعية جديدة، لا سيما مع انخراط مجموعات شبابية ذات حيوية عالية في المجتمع المدني.
إن حوارات ونقاشات عديدة حول المجتمع المدني السوداني تُخاض في هذه اللحظة الراهنة التي تغطي فيها الحرب وآثارها أغلب مناطق السودان، ويتراجع دور الدولة في ذات اللحظة التي تتم فيها عسكرة وامتداد المجال العام. هل يستطيع المجتمع المدني تجاوز التضييق على نشاطه، أم أن تراجع دور الدولة سيكون لصالحه ليلعب أدوارًا إضافية عبر تدخلاته الإنسانية والحقوقية؟ هذا المقال يحاول الاقتراب من هذه الحوارات وإلى أي مدى يمكن أن تكون مفيدة في الحوار الاجتماعي في السودان في ظل التغييرات السريعة والمفصلية التي يمر بها في طريق الثورة والحرب.
المجتمع المدني وثورة ديسمبر 2018 :
قام المجتمع المدني في السودان بدور كبير في مجابهة نظام المؤتمر الوطني في السودان وفي قيادة النضالات التي أدت إلى إسقاطه في أبريل 2019، عبر تحالف سياسي مدني (الحرية والتغيير) الذي شمل المجموعات المهنية ومنظمات المجتمع المدني، بالإضافة إلى التكتلات السياسية الرئيسية في السودان. هذا التحالف هو الذي قام وبالشراكة مع القيادات العسكرية بتشكيل السلطة الانتقالية في السودان.
ساهم المجتمع المدني بفعالية في تشكيل الحكومة الانتقالية، وهو أمر استثنائي، وإن تم بقبول وتشجيع القوى السياسية، إلا أن ذلك الأمر سرعان ما تحول إلى حالة شد، لاسيما وأن الاستقطاب بين القوى السياسية قد أثر على العديد من مكونات المجتمع المدني من خلال العناصر المسيسة بداخله، حيث اتقسم (تجمع المهنيين) صاحب الدور الرمزي في تشكيل تحالف الحرية والتغيير. كما أن المشاركة في السلطة الانتقالية خلقت بعض التخوفات لدى القوى السياسية من تحول المجتمع المدني إلى منافس سياسي. وفي داخل المجتمع المدني، كشفت تجربة السلطة الانتقالية عن عدم وجود تصور متفق عليه لحدود الدور السياسي في المجتمع المدني، حيث كان البعض يرى أن المشاركة في السلطة الانتقالية فرضها الاتفاق على تشكيل حكومة غير سياسية لإدارة الانتقال في السودان، بينما يرى آخرون أن المشاركة في السلطة السياسية تشكل خصمًا على الدور الرقابي للمجتمع المدني وتضر بفعاليته وحيويته.
تحديات المجتمع المدني في السودان في ظل الحرب وعسكرة الفضاء العمومي:
اشتعلت الحرب السودانية في الخرطوم بين ذات الأطراف العسكرية التي نفذت الانقلاب ضد السلطة المدنية الانتقالية، أي بين الجيش والدعم السريع، بتحريض من الحركة الإسلامية في السودان. لذلك كان التضييق على المجال المدني والسياسي وإعاقة مسار الثورة السودانية هو أحد الأهداف الرئيسية، فتخوين القوى المدنية وتعطيل النشاط المدني كان واضحًا منذ بداية الحرب. وتحولت حالة الدينامية التي ميزت نشاط المجتمع المدني إلى حالة ترقب وحذر، حيث توقفت الأنشطة المتعلقة بالمشاركة وحقوق الإنسان.
ومع تمدد رقعة الحرب وزمانها، بدأت العديد من مكونات المجتمع المدني، لاسيما القاعدية، في ترتيب أوراقها والعمل في المجال الإنساني. كما لجأ العديد من الفاعلين في المجتمع المدني إلى دول الجوار، حيث انتظمت العديد من الأنشطة والحوارات حول المجتمع المدني والأدوار المطلوبة منها في إيقاف الحرب والعمل الإنساني واستعادة مسار التحول الديمقراطي.
هذا الحوار يتم على مستويات مختلفة، منها ما يتم بالاشتراك مع النادي السياسي، ومنها ما يتم بشكل مستقل، كما بدأت العديد من مؤسسات المجتمع المدني في طرح أفكار حول توحيد المجتمع المدني في السودان.
المجموعات القاعدية والشبابية وحراك المجتمع المدني في السودان:
لعل أكثر ما ميز ثورة ديسمبر في السودان هو نسبة المشاركة السياسية العالية للشباب من النوعين، وهي مشاركة لم تقتصر على القيام بالعمل الاحتجاجي الذي قاد إلى إسقاط نظام البشير. فقد قاموا بتكوين تشكيلات عديدة للتعبير عن أنفسهم والمساهمة في الانتقال الديمقراطي. فبالإضافة إلى (لجان المقاومة) التي تشكلت جغرافيًا لتشمل كل ولايات السودان، قاموا بتشكيل لجان التغيير والخدمات بالتعاون مع السلطة الانتقالية، وتأسيس العديد من منظمات المجتمع المدني والتعاونيات.
كما كان لهم دور رئيسي في مقاومة انقلاب 25 أكتوبر، وظلت مواكبهم الرافضة وأفعالهم الاحتجاجية مستمرة حتى نشوب الحرب السودانية في 15 أبريل 2023. بعد نشوب الحرب، عملت المجموعات الشبابية على تنظيم أنفسهم من خلال مبادرات مختلفة، من أهمها تشكيل (غرف الطوارئ)، التي تشكل نافذة رئيسية للتدخلات الإنسانية من المنظمات الدولية أو الوطنية. ومع تمدد شبح المجاعة الذي يطال 10 ولايات سودانية وتواصل العمليات العسكرية، فإن هناك زيادة في الاعتمادية والأدوار التي تقوم بها المجموعات القاعدية الشبابية في السودان، حيث تقوم بتوفير الغذاء عبر المطابخ الجماعية، وتساهم في تأهيل وتشغيل المراكز الصحية وغيرها من الأدوار في ظل تراجع الدور الحكومي حتى في مناطق سيطرة الجيش.
الأدوار المتعددة والمتنوعة التي ظلت تلعبها المجموعات الشبابية في السودان، وقدرتها على التواؤم مع الأوضاع المختلفة، وتبنيها لآليات عمل ديمقراطي أفقي، تجعلنا ننظر إلى بوادر تشكل حركة اجتماعية، ومجتمع مدني قاعدي، بل وقد تمضي هذه التطورات إلى تشكيلات سياسية جديدة.
المجتمع المدني في السودان: آمال كبيرة رغم العسر
على الرغم مما يواجه السودان من تحديات كبيرة بسبب الحرب، من تهديد المجاعة وانقسام الدولة، والملاحقة التي تطال الفاعلين في الفضاء المدني، إلا أن هناك عوامل مختلفة تشجع على الاعتقاد بأن المجتمع المدني مؤهل للعب أدوار مهمة في التصدي لكل ذلك. فالحيوية من المجموعات الشبابية والقاعدية والمجموعات النسوية، ونشاط المجتمع المدني في إعادة تنظيم وترتيب نفسه، كلها يمكن أن تقودنا إلى مجتمع مدني فعال وحيوي وذو دور كبير في إيقاف الحرب والتصدي للكوارث الإنسانية في السودان، بل والمساهمة الفعالة في إعادة البناء الوطني الذي مزقته الحرب.
مدني عباس مدني