اللبنانيون المفقودون والمخفيون قسرا في سوريا: أي مسار؟ أي مصير؟ - اديب نعمه
اديب نعمه

اللبنانيون المفقودون والمخفيون قسرا
في سوريا: أي مسار؟ أي مصير؟ - اديب نعمه[1]
سياق
ما من شك ان قضية المفقودين والمخفيين
قسرا هي الأكثر ايلاما وتعقيدا في سوريا ما بعد الأسد. فقد فتحت السجون كلها، وخرج
من خرج، ولا يزال مصير ما يتراوح بين 100 و200 ألف سوري (ومن جنسيات أخرى) مجهولا،
فيما تكتشف كل يوم مقابر جماعية كبيرة او صغيرة على الأراضي السورية. لا توجد طبعا
ارقام نهائية او شبه نهائية تعكس حجم هذه المأساة الإنسانية الفظيعة، الا ان طبيعة
هذا الظلم وهذا الانتهاك المتمادي لحقوق الانسان من خلال الاعتقال غير القانوني
والتعذيب والاخفاء القسري والقتل واخفاء الجثث في مقابر مجهولة، أكثر فظاعة أي
تقدير عددي.
للبنان حصة في هذه القضية. فعلى امتداد سنوات الحرب والأزمات المتعاقبة منذ عام 1975، كان لسوريا ولجيشها المتواجد في لبنان، أدوار مباشرة في الحروب الاهلية اللبنانية، وفي الأنواع الأخرى من الحروب التي دارت رحاها على ارض لبنان.
كانت ممارسات الخطف والاخفاء القسري شائعة
لدى الميلشيات اللبنانية كما لدى القوى المسلحة الأخرى المتواجدة في لبنان، ومن
ضمنها القوات السورية وأجهزتها المخابراتية وامتداداتها السياسية. ولا يخفى على أحد
ان النظام السوري مارس وصاية مباشرة على الحياة السياسية والعامة في لبنان بشكل
رسمي ومعترف به منذ عام 1976 وحتى خروج الجيش السوري من لبنان عام 2005. أي ان
فترة الوصاية السورية العسكرية والمباشرة امتدت نحو 25 عاما، دون ان يعني ذلك ان
نفوذها انعدم بعد هذا التاريخ. خلال هذه الفترة، دخل النظام السوري وجيشه المتواجد
في لبنان اجهزته وامتداداته الأخرى في حروب مباشرة مع منظمة التحرير الفلسطينية في
المخيمات الفلسطينية الموجودة في لبنان، مع أطراف لبنانية متعددة وبشكل متعاقب،
مما جعل النظام السوري ومخابراته طرفا مبادرا او مشاركا بفعالية في اعمال الخطف
والاخفاء القسري لمواطنين لبنانيين ومن جنسيات أخرى مقيمين في لبنان، يرجح ان
غالبيتهم نقلت الى داخل الأراضي السورية حيث اختفت آثارهم، او ربما دفن بعضهم على
الأراضي اللبنانية نفسها.
مفقودون او مخفيون قسرا في سوريا؟
في المعطيات المتداولة في لبنان، انه
مما مجموعه 17 ألف مفقود ومخفي قسرا في لبنان منذ عام 1975، يرجح ان 700 منهم هم
في سورية، او تتحمل السلطات السورية السابقة مسؤولية فقدانهم. ونلفت النظر الى ان
هذه الأرقام هي تقديرات، اذ انه رغم مرور 50 سنة على بدء الحرب الاهلية في لبنان،
لم تقم جهة رسمية او أي جهة أخرى موثوق بها وذات اختصاص، بالتدقيق في هذه الأرقام.
اما الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسرا، فإن قانون تشكيلها صدر عام 2018،
وتشكيل الهيئة نفسها تم عام 2020، ولم تتوفر لها الإمكانيات الفعلية بعد بما
يمكنها من أداء هذه المهمة التي اناطها بها القانون. لذلك نستمر في لبنان في
اعتماد هذه التقديرات لكونها الوحيدة المتاحة، التي لا يجوز ان يجري استبدالها الا
بناء على عمل علمي ومنهجي.
لكن ما هي المسارات والمآلات المحتملة
لقضية المفقودين والمخفيين قسرا اللبنانيين (او الذين كانوا في لبنان) الذي يرجح
مسؤولية النظام السوري عنهم؟
المسار الرئيسي لكشف المصير
نشير أولا، الى ان السجون السورية
فتحت، ولم يعد هناك معتقلين، مع العلم ان هناك أصوات ترتفع بين الحين والأخر تقول
انه ربما كانت هناك أيضا معتقلات او سجون سرية لم تكشف بعد. نحن لا نملك القدرة
على تأكيد او نفي ذلك ولكن المؤشرات على مثل هذا الامر ضعيفة عموما. بالنسبة الينا
كلبنانيين، فإن عدد المسجونين او المعتقلين الاحياء الذي عادوا الى لبنان بعد
انهيار النظام وفتح السجون بلغ 14 شخصا، والرأي الغالب ان الباقين هم في عداد
المفقودين الذين يرجح انهم قتلوا ودفنوا في مواقع مختلفة؛ والمرجح ان علينا ان
نتعامل مع هذا الترجيح الواقعي خلال الأشهر والسنوات القادمة.
بهذا المعنى فإن معرفة مصير المفقودين
اللبنانيين في سوريا، أيا كان سبب الفقدان والوصف القانوني، سيكون مرتبطا عضويا
بمسار الكشف عن مصير المفقودين والمخفيين قسرا السوريين وغيرهم في سوريا، وبعملية
كشف مواقع المقابر الجماعية، وبمسار التعرف على الرفات وتحديد الهويات. ومن
الناحية الموضوعية، وفي حال افترضنا عدم وجود معيقات سياسية او رفض سياسي لكشف
مصير هؤلاء، فإن هذه العملية معقدة وطويلة وتستغرق سنوات، لاسيما انها تطال اعداد
كبيرة من الأشخاص؛ كما انها تتطلب خبرات وقدرات علمية غير متوفرة في سوريا.
والموقف السياسي العام في سوريا يعتبر هذه القضية من الأولويات، ولكن فعليا، وحتى
ساعة كتابة هذا المقال، لم تتخذ بعد إجراءات ممنهجة لإنشاء الهياكل المؤسسية
الضرورية من اجل إطلاق مسار البحث عن مصير المفقودين بشكل مستمر ومنهجي، كأن تنشأ
هيئة وطنية للمفقودين والمخفيين قسرا في سوريا، او تكلف جهات حكومية محددة بأطلاق
مسار البحث، او اصدار مواقف رسمية من اعلى المستويات توضح خطة السلطات الجديدة في
ذلك، ومن ضمنها تشكيل هيئات وطنية مستقلة بمشاركة أهالي الضحايا أنفسهم.
كما يجب ان تشمل الخطة كذلك التعامل
الكامل بين السلطات الرسمية الجديدة وبين المؤسسة الأممية المعنية بكشف مصير
هؤلاء، والتعاون مع السلطات اللبنانية فيما يخص اللبنانيين منهم او الذين فقدوا في
لبنان من جنسيات أخرى ويرجح مسؤولية النظام السوري عن ذلك. حتى الساعة لا يوجد سوى
اعلان نوايا، وخطوات متناثرة هنا وهناك بما لا يشكل مسارا مكتمل العناصر بعد.
المسار المنطقي والواقعي بالنسبة
الينا كلبنانيين هو لحظ ارتباط كشف مصير اللبنانيين ومن فقد في لبنان بالمسار
الوطني السوري في تجميع المعطيات والمعلومات من مصادرها المختلفة وتحليل ما يمكن
ان يشير الى مصير السوريين واللبنانيين معا، وبالمسار الوطني السوري في كشف
المقابر الجماعية وتحديد هويات الرفات. وعلينا ان نتوقع ان يستغرق هذا الامر وقتا
طويلا بناء على ما نعرف من تجارب مماثلة في دول العالم الأخرى التي عرفت مآس
وتجارب مماثلة.
مساران تكميليان
ما سبق ذكره هو المسار العام والأكثر
أهمية. مع ذلك هناك نافذة لبعض الحالات الخاصة المحددة التي يمكن الإفادة منها من
اجل كشف مصير لقسم من هؤلاء على الأقل. ففي بعض الحالات المحددة، حصلت حالات دفن
فردية او جماعية داخل الأراضي اللبنانية، وذلك بحكم ان الجيش السوري والأجهزة
الأمنية السورية كانت موجودة ومسيطرة على الأرض في لبنان.
نتيجة ذلك، واثناء بعض العمليات
العسكرية او الأمنية التي كانت القوات السورية او الأجهزة الأمنية السورية طرفا
فيها، حصلت عمليات اختطاف او إخفاء قسري او حجز جثامين ضحايا تم دفنهم في مواقع
داخل الاراض اللبنانيين يعرفها المسؤولون السوريون، كما يعرفون تفاصيل أخرى عن
الاعداد والهويات.... لقد تم اكتشاف بعضها في سنوات سابقة (على سبيل المثال مقبرة
للعسكريين في وزارة الدفاع اللبنانية)؛ كما أن بعضها الاخر يمكن تحديده اذا ما
التحقيق مع بعض المسؤولين الأمنيين او السياسيين السوريين الذين كانوا في لبنان، واصبحوا
اليوم في عهدة السلطة الجديدة. وفي هذا الصدد لا بد من مسارين تكميليين متوازيين:
-
المسار الأول، هو نبش المقابر التي يمكن ان يكون الجيش او الأجهزة
الأمنية السورية قد استحدثها داخل الأراضي اللبناني، التي تتوفر عنها معلومات لدى
جهات لبنانية، وذلك بعد زوال المانع السياسي الذي حال في سابقا دون القيام بذلك،
بعد سقوط نظام الأسد؛
-
والمسار الثاني، هو التواصل على اعلى المستويات مع السلطات السورية من
اجل استخلاص المعلومات من مسؤولين امنيين وسياسيين سوريين كانوا في لبنان، ويعرفون
عن عمليات خطف او احتجاز او دفن داخل الأراضي اللبنانية.
مثل هذين المسارين يكملان المسار الرئيسي المتمثل في ان معرفة مصير جميع المفقودين هو دون شكل جزء من مسار حل قضية المفقودين في سوريا نفسها.
وماذا عن المفقودين والمخفيين قسرا في لبنان؟
اما وقد تناولنا هذه النقطة الخاصة
بالمفقودين والمخفيين قسرا في سوريا، فإن ذلك يجب ان لا يحجب المشكلة الأكثر
أهمية، وهي ان الحجم الغالب بشكل حاسم للمفقودين والمخفيين قسرا في لبنان، هو
للذين فقدوا او اخفوا قسرا على يد اطراف لبنانية متحاربة منذ 1975، وان العمل من
اجل كشف مصيرهم هو أيضا مهمة ذات أولوية من اجل سلامة البناء الوطني والمجتمع
اللبناني، وهي دون شك اكثر تعقيدا من المهمة المتعلقة بالمفقودين في سوريا لأنها
تخص اطراف لبنانية باتت مطالبة اليوم بقوة اكبر بأن تفرج عن ما تعرفه عن مصير
المفقودين والمخفيين قسرا في لبنان، أيا كان مصيرهم. كما نذكر أيضا ان هذا المسار
وهذه المسؤولية الوطنية تشمل الذين فقدوا في لبنان من كل الجنسيات ودون تمييز، بما
في ذلك الفلسطينيون منهم، والسوريون الذين فقدوا في لبنان. فكل هؤلاء تشملهم
مسؤولية كشف المصير.
اديب نعمه
[1] - مستشار شبكة المنظمات العربية غير الحكومية
للتنمية، وعضو الهيئة الوطنية للمفقودين والمخفيين قسرا في لبنان،