القمة العالمية للتنمية الاجتماعية: بعد ثلاثين عامًا… الحاجة إلى مقاربة جديدة قائمة على العدالة والمساواة - زياد عبد الصمد
زياد عبد الصمد
القمة العالمية للتنمية الاجتماعية: بعد
ثلاثين عامًا… الحاجة إلى مقاربة جديدة قائمة على العدالة والمساواة -زياد عبد الصمد
بعد مرور ثلاثين عامًا على انعقاد القمة العالمية الأولى للتنمية الاجتماعية في كوبنهاغن عام 1995، يجتمع قادة العالم مجددًا لمناقشة أوضاع التنمية الاجتماعية في عالمٍ تغيّر كثيرًا، بل يمكن القول إنه انقلب على ذاته من حيث المفاهيم والأولويات والمسارات. فقد شهدت العقود الثلاثة الماضية تحولات بنيوية عميقة في النظام الدولي، ترافقت مع أزمات متتالية وتحديات متشابكة طالت جميع أبعاد الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية.
لقد انتقلت البشرية منذ تسعينيات القرن
الماضي من مرحلة التفاؤل ببناء نظام عالمي أكثر عدالة واستقرارًا، إلى مرحلة تزداد
فيها الفجوات عمقًا بين الشمال والجنوب، وبين الأغنياء والفقراء، وبين من يمتلك
السلطة والتكنولوجيا والمعرفة ومن يُستبعد منها. فبدل أن تتجسد أهداف القمة الأولى
في القضاء على الفقر وتعزيز العدالة الاجتماعية وتوسيع المشاركة والمساواة في
الفرص، وجدت الشعوب نفسها أمام واقعٍ يكرّس مزيدًا من اللامساواة والإقصاء
والتهميش.
خلال هذه العقود الثلاثة، تتابعت الأزمات
الكبرى التي حوّلت وجه العالم: حروبٌ تحت شعار "مكافحة الإرهاب"، نزاعات
مسلّحة مدمّرة، أزمات اقتصادية ومالية عالمية متكرّرة، تفاقم أزمة المناخ والغذاء،
وانكماش دور المؤسسات الدولية التي كان يُفترض أن تشكّل أطرًا للحكم الرشيد
والتضامن العالمي. وقد ساهمت هذه التحولات في تحويل مسارات التنمية من هدفٍ إنساني
شامل إلى أداةٍ خاضعة لموازين القوى والمصالح الجيوسياسية والاقتصادية للدول
الكبرى.
ولعلّ أحد أبرز المتغيرات التي دخلت في
العقد الأخير على خط التنمية هو الذكاء الاصطناعي، بما يحمله من إمكانات
هائلة لتسريع التقدم في مجالات التعليم والصحة والإدارة والإنتاج، لكنه في الوقت
نفسه يطرح تحديات خطيرة تتصل بالسيادة والخصوصية والعدالة. فبينما تمتلك الدول
الصناعية المتقدمة القدرة على تطوير هذه التقنيات واستثمارها، تجد الدول النامية
نفسها في موقع التبعية التكنولوجية، ما يهدد بتكريس نوع جديد من الهيمنة
الرقمية يعمّق فجوة التنمية بدل أن يردمها.
الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد أداة للتطور
الاقتصادي أو البحث العلمي، بل أصبح أيضًا سلاحًا يُستخدم في النزاعات
والحروب، كما نرى اليوم من خلال توظيفه في أنظمة الاستهداف الذكي والطائرات
المسيّرة والروبوتات القتالية. وهنا يكمن الخطر الأكبر: أن تتحول التكنولوجيا،
التي كان من المفترض أن تُسخّر لخدمة الإنسان والارتقاء بكرامته، إلى وسيلةٍ للقتل
الجماعي وتعميق اللاأمن والإجرام. لذلك بات من الضروري أن تُدرج حوكمة الذكاء
الاصطناعي ضمن أولويات القمة المقبلة، عبر وضع قواعد دولية صارمة لضمان
الاستخدام الأخلاقي للتكنولوجيا وحماية البيانات الشخصية ومنع استغلالها لأغراض
السيطرة أو القمع.
إن استعادة روح القمة الأولى تستدعي أيضًا
مراجعة نقدية للمقاربة التنموية التي سادت خلال العقود الماضية. فالمقاربات التي
تبنّتها المؤسسات الدولية ركّزت بشكلٍ مفرط على الجوانب الاقتصادية، وعلى مؤشرات
النمو والدخل القومي، متجاهلةً أن التنمية ليست مجرد زيادة في الإنتاج أو الناتج
المحلي، بل هي عملية تحرر الإنسان من الفقر والتهميش والاستغلال، وضمان
تمتع كل فرد بحقوقه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية دون تمييز.
لقد أظهرت التجربة أن الاقتصار على
المقاربة الاقتصادية الصرفة يؤدي إلى نتائج معكوسة: ازدياد اللامساواة، تركز
الثروة، وانهيار الثقة بين المواطن والدولة. فالنمو الاقتصادي في حد ذاته لا يحقق
العدالة الاجتماعية إذا لم يترافق مع توزيع عادل للثروة وفرص متكافئة في التعليم
والعمل والخدمات الأساسية. كما أن السياسات النيوليبرالية التي رُوّج لها باسم
"الإصلاحات الاقتصادية" ساهمت في إضعاف شبكات الحماية الاجتماعية، وتآكل
الطبقة الوسطى، وتفكيك التضامن المجتمعي.
من هنا، تبرز الحاجة إلى مقاربة جديدة
للتنمية، تقوم على النهج الحقوقي الذي يربط بين مختلف الأبعاد السياسية
والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية في إطارٍ متكامل وشامل. هذه المقاربة
لا تعتبر الإنسان مجرد أداة للإنتاج أو مستهلكًا في السوق، بل غاية التنمية
وركيزتها الأساسية. وهي مقاربة تضع العدالة والمساواة في صميم السياسات العامة،
وتُحمّل الدولة والمجتمع الدولي مسؤولية تحقيقها.
النهج الحقوقي للتنمية يعني أن الفقر ليس
مجرد ظاهرة اقتصادية بل انتهاكٌ للحقوق الإنسانية، وأن التفاوت بين الجنسين
ليس قدَرًا بل نتيجة لسياساتٍ وتمييزٍ مؤسسي يمكن تغييره، وأن الحق في الصحة
والتعليم والسكن والعمل اللائق يجب أن يُعامل كحقٍّ أساسي لا كامتيازٍ أو خدمةٍ
مشروطة بقدرة الفرد على الدفع. كما يتطلب هذا النهج إشراك المواطنين والمجتمع المدني
في صنع القرار، وتعزيز الشفافية والمساءلة في إدارة الموارد العامة، بما في ذلك
مكافحة الفساد وإصلاح النظام الضريبي لضمان العدالة الجبائية.
كما لا يمكن فصل التنمية الاجتماعية عن
البعد البيئي، إذ أصبحت العدالة المناخية اليوم جزءًا لا يتجزأ من العدالة
الاجتماعية. فالشعوب الفقيرة هي الأكثر تضررًا من التغير المناخي رغم أنها الأقل
مساهمة في أسبابه. وبالتالي، فإن تحقيق التنمية المستدامة العادلة يتطلب تحميل
الدول الصناعية مسؤولياتها التاريخية في تمويل التحول الأخضر ونقل التكنولوجيا
وتخفيف الديون عن الدول النامية.
إن القمة العالمية للتنمية الاجتماعية بعد
ثلاثين عامًا يجب ألا تكون مناسبة للاحتفال بما تحقق، بل محطة لتصحيح المسار. فالعالم اليوم يقف
على مفترق طرق: إما أن يواصل التوجه نحو مزيد من الانقسام واللامساواة، أو أن يؤسس
لعقد اجتماعي عالمي جديد قائم على التضامن الإنساني، والعدالة، والمساواة في
الفرص، واحترام كرامة الإنسان أينما كان.
احدث المنشورات
