التضامن النسوي: دعوة إلى النقاش
شهدنا، في الفترة الأخيرة، مواقف متعدّدة ومتباينة إزاء قضايا مختلفة، أثارت – وما تزال تثير – مجموعةً من الأسئلة حول معنى التضامن النسوي وأشكاله.
ما هو الشكل السياسي الصحيح للتضامن؟ ما المقصود بـ “تضامن نسوي” في السياق اللبناني؟ هل هو مجرد "أننا كلنا نساء”؟ هل يعترف هذا التضامن بالاختلاف (العرق، الجنسية، الطبقة، الدين، الرأي السياسي…) أم يُفترض “أن تكوني مثلنا” كي تُشملي؟ هل هناك آليات ومنصات لبناء التضامن أم أن الأمر يقتصر على بيان أو احتفال سنوي؟ ما العلاقة بين “الإنجازات” التي يُحتفل بها وبين التضامن؟ هل الاحتفال بالإنجازات الفردية يعزّز التضامن الجماعي، أو أنه يخدم بعض النساء فقط بينما تترك أخريات خلف الكواليس؟
وحين نحتفل بالمرأة اللبنانية، هل نعترف بنساء غير لبنانيّات يقمن في لبنان؟ وهل إن التحفظ على الاحتفال نسفٌ للتضامن؟
تزداد أهمية هذه التساؤلات بفعل ما جرى ويجري في غزة وعودة النقاش بشأن مفهوم "التضامن" في المنطقة والعالم. فقد ظهرت على مستوى العالم، مواقف متباينة لنسويات وقفن على الحياد، وأخريات تبنين السردية الإسرائيلية، وأخريات رأين أن ما ترتكبه إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني هو قضية سياسية ونسوية وأخلاقية في آن. هذه المواقف تعيد طرح نقاش معنى التضامن. فهل هو مجرد موقف أخلاقي فحسب، أم هو ممارسة سياسية تفكك الأنظمة التي تضطهد وتسمح باضطهاد الفلسطينيين وكل النساء المهمشات حول العالم؟
هذه التساؤلات لا تغفل التعقيدات والتحديات التي تواجهها الحركات النسوية، ولا السياقات التاريخية التي شكلَّت مفهوم التضامن النسوي الذي لطالما كان محل جدلٍ على مستوى المفهوم والمقاربة والآليات. وهي كذلك لا تعني رفض الاختلاف. فالتنوع ضروري ويتيح بناء تحالفات متينة. لان التضامن لا يرفض الاختلاف وهو ليس انصهارًا في تجربة واحدة، بل هو فعل مستمر من الإصغاء والتفاعل والمساءلة والانفتاح على نضالات الجميع، والتقاطع مع مختلف القضايا.
في الآونة الأخيرة، تتعزّز هذه الأسئلة بفعل التحولات المصيرية التي تشهدها بلداننا والعالم، والانقسامات العميقة التي تمسّ قضايا أساسية وإشكالية. وهي تحولات تطرح مجتمعةً الحاجة إلى إعادة نقاش مفهوم "التضامن" والتفكير النقدي في معانيه وآلياته وجدواه. ومن هذا المنطلق، ثمة مسائل تستدعي النقاش، لا من باب الدعوة إلى تبنّي رؤية بعينها، بل من باب فتح حوار نقدي حول دلالات "التضامن". ومن هذه المسائل:
أوّلًا، ربما يُستعمل مصطلح التضامن للتعبير عن نوايا طيبة لكنها تُخفي أحيانًا عجزًا أو نفاقًا سياسيًا، وقد يكون مجرد دعم مؤقت أو موقفاً عاطفياً. من هنا، الحاجة إلى إعادة تعريفه بوصفه ممارسة تتجاوز الشعارات نحو بناء روابط حقيقية قادرة على التغيير. هو ليس شعارًا يُرفع، بل ممارسة نقدية تتجسد في الفعل الجماعي، والالتزام الأخلاقي، والقدرة على العمل عبر الاختلافات الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وتجاوزها بطريقة تعكس القيم الأساسية، مع الحفاظ على هوية كل مجموعة واستقلاليتها. لذلك، تبرز الحاجة إلى استعادة هذا المفهوم وتحديثه والحوار بشأنه وتفكيك الخطابات التي جعلت منه مفهومًا تجميلياً.
ثانيًا، يبرز بعدٌ آخر للتضامن من خلال الإشكالية البنيوية في العمل النسوي نفسه. فثمة إشكالية مزدوجة تواجه هذا العمل، تتجلى في الارتباط بالمانحين، وفي البنى الداخلية للمؤسسات النسوية ومقارباتها. والأسباب وراء ذلك كثيرة لا يسع المجال لبحثها جميعًا، إلا أنه من المفيد دوماً استحضار أبرز التحولات التاريخية التي أسهمت في إضعاف البحث في مفهوم التضامن. من بين هذه التحولات، السياسات التي أعادت رسم حدود العمل النسوي، حيث أصبحت منظمات المجتمع المدني الفاعل الأساسي في تنظيم النساء. وعلى الرغم من أهمية الدور الذي أدّته هذه الجهات، فإن مأسسة العمل النسوي وجّهت الخطاب النسوي نحو مفاهيم المساواة الليبرالية بعيداً عن العمل على الهياكل والبنى التي تتسبَّب بالتمييز. وبذلك انحسر التركيز من نقد البنى الاقتصادية والسياسية والثقافية إلى مقاربات قائمة على التمكين الذاتي، ما أفقد العمل النسوي جزءًا كبيرًا من طابعه الجماعي والتضامني والشمولي. وقد انعكست هذه التحولات عمليًا في طبيعة التحالفات النسوية، التي واجهت صعوبات حقيقية في التكوين والاستمرار، نتيجة عوامل كثيرة، من بينها بشكل اساسي تباين مواقفها السياسية من هذه البنى وآليات الاشتباك معها، إضافةً إلى ضعف التوافق على كون التضامن هو أحد استراتيجيات العمل وأدواته.
ثالثا: غالباً ما يتم التعامل مع التضامن بوصفه موقف ضد العنف أو دعوة إلى التمكين السياسي والاقتصادي للنساء، بعيداً عن كونه فعل التزام بالقيم الأساسية مثل الحرية، والعدالة، وتقرير المصير للجميع. في ظل ما يجري اليوم، يُطرح السؤال عن التضامن وما إذا كان ما زال امتحانًا لهذه القيم، واختبارًا لقدرة الحركات النسوية على تحويل مبادئها إلى فعل سياسي في إطار رؤية غير استنسابية.
أدرك أن انجازات الحركات النسوية لم تأتِ من فراغ بل كانت ثمرة نضال جماعي وتعبئة اجتماعية مستمرة. لذلك تأتي التساؤلات للدعوة للتأمل في كيفية بناء تحالفات تتجاوز الرواسب والهويات والعقائد والانتماءات والمواقف السياسية. هذا الالتزام لن يتحقق إلا بنقد ذاتي وحوار في شأن المفاهيم والقيم النسوية. وقبل ذلك لا بد من الإجابة عما إذا كان التضامن ما زال مفهومًا مركزيًا في العمل النسوي؟ الإجابة ستساعدنا في تأطير مفهوم جديد، غير معلًّب أو أُحادي ولكن غير تجميلي في الوقت ذاته.
الإجابة ليست سهلة، لكن التفكير فيها ضرورة.