Feb 27, 2023
"الاختفاء القسري" - نموذج لرفاهية ان تنشط بيئياً في بلد يحكمه السلاح
وائل منذر
باحث

الرجاء الضغط هنا لنبذة والمنشورات
وائل منذر

"الاختفاء القسري" - نموذج لرفاهية ان تنشط بيئياً في بلد يحكمه السلاح - وائل منذر


كان يفترض ان يكون يوماً عادياً للمهندس جاسم الأسدي الناشط في مجال الحفاظ على البيئة الطبيعية ومدير مكتب منظمة طبيعة العراق في الاهوار جنوب العراق، عندما قرر الذهاب الى بغداد صباحاً في رحلة عمل، الا انه وقبل وصوله الى تخوم العاصمة تعرض لعملية اختطاف نفذتها مجموعة محترفة كانت مسلحة ترتدي زياً مدنياً، انزلته من عجلته وانطلقت به الى مكان مجهول، ولم يعرف عنه شيئاً طيلة فترة اختفائه القسري والتي امتدت لأسبوعين.


الاسدي قاد حملة باسم اللجنة الوطنية لإنقاذ الاهوار باعتبارها أكبر نظام بيئي للأراضي الرطبة في منطقة الشرق الأوسط وغرب آسيا، يتكون من مجموعة من البحيرات والأراضي المستنقعية المتصلة مع بعضها البعض، تضم اربع مسطحات مائية وامتدت تاريخياً على مساحة أكثر من 20 ألف كيلومتر مربع، كمحميات للنباتات الطبيعية والحيوانات البرية والطيور المقيمة والمهاجرة، وتضم ايضاً ثلاثة مواقع أثرية، هي كل من مدن أوروك وأريدو وأور وهي أجزاء من آثار المدن والمباني السومرية، التي أنشئت في بلاد ما بين النهرين بين الألفيتين الرابعة والثالثة قبل الميلاد على ضفاف نهري دجلة والفرات، وتكتسب أور بزقورتها اهمية اضافية باعتبارها المدينة التي ولد فيها النبي ابراهيم (ع) وقد شهدت زيارة البابا فرنسيس العام 2021.


السؤال الذي دائما ما يطرح في العراق يتمركز حول مدى امكانية انتهاء حالات الاختفاء القسري والاختطاف في ظل انعدام المنظومة القانونية الملائمة، فحالة الاختطاف اعادت الى الاذهان صورة تكررت خلال فترة الاقتتال الطائفي بعد العام 2005، وفترة سيطرة تنظيم داعش الارهابي على ثلث مساحة العراق العام 2014، وبصورة اقل الاحتجاجات الشعبية نهاية العام 2019، عندما تعرض العديد من الافراد المدنيين والعسكريين والناشطين السياسيين والمدنيين لحالات اختطاف واختفاء قسري، لم يعرف الرأي العام اغلب نتائج تحقيقاتها لحد الآن، خصوصاً مع عدم عودة كثيرين ممن اختطف ما يرجح وفاتهم.


تاريخ طويل من الجريمة الأبدية.  

يعد ملف المفقودين في العراق من الملفات التي مضت عليها عقود دون حسم، فعدد من تعرض للاختفاء تجاوز حاجز المليون شخص خلال الخمس واربعون سنة الماضية، نتيجة لممارسات كانت سابقاً تتم من قبل السلطة بدوافع عدة يقف في مقدمتها الاسباب السياسية والعرقية والطائفية، وبعد العام 2003 ظهرت دوافع جديدة شملت الهجمات المدافعين عن حقوق الانسان وكذلك العاملين في مجال الاعلام.


ورغم ان العراق سبق له الانضمام الى الاتفاقية الدولية لحماية جميع الاشخاص من الاختفاء القسري، وادخل الاتفاقية في منظومته القانونية الوطنية بعد نشره قانون المصادقة  عليها في نوفمبر العام 2010، وعلى الرغم من سعي لجنة حقوق الانسان في البرلمان تشريع قانون يجرم الاختفاء القسري، الا أن جهودها اصطدمت بطلب حكومي يقضي بعدم المضي بإجراءات التشريع بانتظار مشروع  عكفت على انجازه منذ سنوات عدة، والذي يبدو انها لم تقرر بعد انزاله من الادراج العالية، لذا لم يكن لدعوات لجنة الأمم المتحدة المعنية بحالات الاختفاء القسري (CED )بعد زيارتها للعراق من أثر على أرض الواقع، فطلبها اتخاذ إجراءات عاجلة لإدراج اعمال الاختفاء القسري كجريمة مستقلة في التشريع الوطني، يبدو انه لم يجد للآن اذناً صاغية.


من يقف وراء جرائم الاختفاء القسري؟

عادة ما يتم الاختفاء القسري او الاعتقال أو الاحتجاز أو الاختطاف، أو أي شكل من أشكال الحرمان من الحرية، على أيدي موظفي الدولة، أو أشخاص أو مجموعات من الأفراد يتصرفون بإذن أو دعم من الدولة أو بموافقتها، او بتجاهل متعمد منها، ويعقبه رفض الاعتراف بحرمان الشخص من حريته، أو إخفاء مصير الشخص المختفي، أو مكان وجوده، مما يحرمه من الحماية القانونية فكثيراً من اختطف اشخاص ثم اطلق سراحهم من قبل نفس الجهات دون ان تتوصل التحقيقات الى معرفة الجناة او الجهات التي تقف وراءهم.


اصابع الاتهام تشير الى الجهات المسلحة خارج اطار القانون، والتي كثيراً ما تستعين بمقدرات الدولة لتحقيق اهدافها والافلات من العقاب، لذا يكثر استخدام هذا الاسلوب استراتيجياً لبث الرعب داخل المجتمع، فالشعور بغياب الأمن الذي يتولد عن هذه الممارسة يمتد اثره ليصيب المجموعات السكانية المحلية والمجتمع ككل، من هنا نجد ان الاختفاء لا يقتصر الغرض منه على اسكات اصوات المعارضة والصحفيين أو المدافعين عن حقوق الإنسان، إنما يستخدم أيضاً كأداة لإرهاب مجتمعات بأكملها. خصوصاً مع اقترانه بانتهاكات جسدية، كالتعذيب والترهيب والارعاب وهو ما تعرض له الاسدي وظهر واضحاً على ملامح وجهه وجسده لحظة وصوله الى مدينته.


يبدو ان دعوات الاسدي لحماية الاهوار ولفته انظار العالم اليها قد اصطدمت بمصالح جهات تمتلك نفوذاً كبيراً بحيث دفعت الى اختطافه والتنكيل به، والذي كان ينتهي للنسيان لولا الغضب الذي ساد الرأي العام، حتى دفع رئيس لوزراء للتعهد بعودته، والعمل على تحريره من خاطفيه، الذين يبدو انهم تخلو عنه بإرادتهم .


من يتأثّر بالاختفاء القسري؟

لا يستهدف الخاطفون فعل الاختفاء بحد ذاته وانما يسعون ايضا للتأثير على الضحايا انفسهم بتغييبهم او دفعهم الى الصمت في حال اطلاق سراحهم، كذلك عائلات الأشخاص المختفين، فوفقاً للاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، تدخل الأسر في عداد الضحايا أيضاً نظراً للضرر الذي يلحق بهم سواء كان معنوياً او مادياً، فبحثهم الدائم عن أقاربهم قد لا ينتهي وقد يتعرّضون للأذى والضرر في أثناء سعيهم إلى معرفة الحقيقة، كذلك يشمل التأثير المجتمعات المحلية من جراء الجريمة اذ يدب الذعر في نفوسهم وهو أمر نتمنى عدم سماع خبر تحققه.


يبقى السؤال الذي طرحته في البداية هل يمكن ان يكون هناك انهاء حكومي لحالات الاختفاء القسري في حال شرع قانون متكامل يجرم الفعل، قد يدفع رأيي البعض لوصفي بالمتشائم، لكن الحقيقة اظهرتها حادثة اختطاف الاسدي، فهو لم يدعُ الا للعمل على إبقاء ديمومة الاراضي الرطبة في جنوب العراق، كمصدر للتنوع البيئي، وكضامن للحفاظ على طريقة عيش ومعارف تقليدية تناقلتها الاجيال، جيلاً بعد آخر، وناضل لإيصال صوت ابناء هذه المناطق، لضمان حقهم في العيش السليم، ومع ذلك لم تكلف الجهات المختصة امنياً جهدها لإصدار بيان رسمي لا يوم اختطافه ولا يوم اطلاق سراحه من قبل خاطفيه، واقتصر الأمر على منشور في صفحة فيسبوك الخاصة بالمتحدث الرسمي للقائد العام للقوات المسلحة، بعد خمس ايام على اختطافه، أثر اعلان شقيق الاسدي عن اختفاءه قسراً خلال اتصال مع احدى القنوات الفضائية.

فعن اي رفاهية أتحدث؟


وائل منذر


المراجع:
1. احمد عيد، تفقير جنوب العراق: الأزمات تعبث بمعيشة 60% من سكان الأهوار، العربي الجديد، 12/11/2022.
2. ميادة داود، العراق. الاختفاء القسري جريمة يغذيها الإفلات من العقاب، ارفع صوتك، 29/8/2022،
3. قانون انضمام العراق الى اتفاقية حماية الاشخاص من الاختفاء القسري https://www.moj.gov.iq/uploaded/4158.pdf
4. موقع لجنة الامم المتحدة المعنية بحالات الاختفاء القسري. https://www.ohchr.org/ar/treaty-bodies/ced
5. موقع الامم المتحدة / اخبار الامم المتحدة، الاختفاء القسري في العراق: لجنة أممية تدعو إلى إصلاح تشريعي عاجل ووضع حد لمعاناة أقارب المختفين، 25/11/2022.
https://news.un.org/ar/story/2022/11/1115972

احدث المنشورات
Dec 07, 2024
النشرة الشهرية لشهر تشرين الثاني/نوفمبر 2024
Dec 03, 2024
الديون السيادية في المنطقة العربية: بين استدامتها وعدالة السياسات الضريبية - أحمد محمد عوض
منشورات ذات صلة
Jan 23, 2023
مرصد الفضاء المدني - العراق: التقرير الوطني لراصد الفضاء المدني
Sep 10, 2024
بعد مرور عشر سنوات على الإبادة الجماعية، هل نحن بحاجة الى حوار وطني بشأن العدالة الانتقالية في العراق؟ - د. سعد سلوم