Dec 22, 2025
إقصاء العمّال عن صنع القرار: كيف تُقوّض النيو ليبرالية الديمقراطية الاقتصادية؟ - ليلى عيسى

إقصاء العمّال عن صنع القرار: كيف تُقوّض النيو ليبرالية الديمقراطية الاقتصادية؟ - ليلى عيسى

 

يرى الأستاذ في علم الاقتصاد والوزير اليوناني السابق يانيس ڤاروفاكيس أنّ الاقتصاد أكثر أهمية من أن يترك للاقتصاديين وحدهم، ولذلك قام بتأليف كتابه "الاقتصاد كما أشرحه لابنتي" الصادر عام 2013. ففي مقدمة الكتاب يشير إلى أن "نجاحات الاقتصاد وإخفاقاته تُقرر مصير حياتنا، كما أنّ قواه تهزأ بديمقراطياتنا، وينشب مخالبه عميقاً في أرواحنا، حيث تتشكل آمالنا وتطلعاتنا."

يُبرز هذا الاقتباس أن الاقتصاد ليس مجرد أرقام ومعادلات، بل قوة حقيقية تشكّل حياتنا اليومية، تحدد فرصنا، وتؤثر في الديمقراطية نفسها. ومن منظور ڤاروفاكيس، عندما يُترك الاقتصاد فقط لأيدي الخبراء أو النخب المالية، تصبح قراراته بعيدة عن الناس، ويزداد خطر تقويض الديمقراطية وفقدان المجتمع قدرته على حماية مصالحه.

ومن هنا يبرز السؤال المركزي الذي يسعى هذا المقال إلى تفكيكه: كيف يساهم النظام النيو ليبرالي في إقصاء العمال عن دوائر صنع القرار الاقتصادي؟

لفهم هذه العلاقة، لا بد من التوقف عند إحدى الركائز الأساسية للنظام النيو ليبرالي، وهي إخضاع الحياة الاجتماعية والاقتصادية بأكملها لمنطق السوق، بوصفه المدخل الأساسي لإعادة تشكيل علاقات القوة وإقصاء العمال عن مواقع التأثير والقرار.


إخضاع حياتنا لمنطق السوق

أحد أخطر مظاهر النيو ليبرالية هو إخضاع كل جوانب حياتنا لمنطق السوق؛ حيث تُختزل القيمة الإنسانية والاجتماعية والثقافية لأي شيء بقدرته على تحقيق الربح. في هذا النموذج، لا تُقاس الأشياء بجودتها أو معناها أو أثرها على الحياة الجماعية، بل بسعرها وبقدرتها على التداول. وهكذا تتحوّل المعرفة، الوقت، الراحة، العلاقات الاجتماعية، وحتى الرعاية الصحية والتعليم، إلى "سلع" يمكن تقييمها وشراؤها وبيعها، بينما يتم تهميش كل ما لا يدخل في هذا الإطار بوصفه غير مهم أو غير منتج.

تُنتج هذه المقاربة مجتمعًا يعيش تحت ضغط دائم: نعمل أكثر مما ينبغي، نرتاح أقل مما نحتاج، ومع ذلك نحصل على قيمة أقل بكثير مما نبذله، لأن القيمة الحقيقية تذهب إلى الشركات العملاقة التي تستفيد من كل لحظة نقضيها في العمل، أو على الإنترنت، أو حتى أثناء الترفيه.

هذا النموذج لا يعيد فقط تعريف العمل والوقت، بل يعيد صياغة معنى الحياة اليومية نفسه. والنتيجة هي مجتمع تُبنى فيه القرارات على حساب الربح لا على الحاجات الفعلية للناس، وتتلاشى فيه الحدود بين العمل والراحة، وبين الخاص والعام، وبين الاجتماعي والاقتصادي، بحيث يتحوّل كل مجال من مجالات حياتنا إلى امتداد لمنطق السوق.

النيو ليبرالية وإقصاء المجتمع من صنع القرار الاقتصادي

تقوم النيو ليبرالية الحديثة على فصلٍ ممنهج بين الاقتصاد والسياسة، بحيث تُنتزع القرارات الاقتصادية الأساسية من دائرة النقاش العام، وتُحصر في أيدي نخبة اقتصادية وشركات كبرى وخبراء محميين بنفوذ سياسي. وتشمل هذه القرارات قضايا تمس الحياة اليومية مباشرة، مثل الأجور، الضرائب، تنظيم الأسواق، شروط وفرص العمل، والخصخصة والخدمات الأساسية. هذا الفصل بين الاقتصاد والمجتمع يجعل القرارات الاقتصادية أقل شفافية، وأبعد ما يكون عن التمثيل الحقيقي لاحتياجات الفئات العريضة من المواطنين.

في السياق النيو ليبرالي، لا يعود الاقتصاد مجالًا عامًا خاضعًا للمساءلة الديمقراطية، بل يتحول إلى حيز مغلق تتراجع فيه قدرة الدولة على تنظيم السوق، في مقابل تصاعد نفوذ المصالح الخاصة على حساب المصلحة العامة. وهكذا يُعاد تعريف دور الدولة لا كحامٍ للحقوق الاجتماعية، بل كوسيط يضمن شروط عمل السوق، حتى عندما تأتي هذه الشروط على حساب تحقيق العدالة الاجتماعية للمواطنين.

ولا يقتصر هذا التحول على تغييب النقاش العام، بل يقوم على تحويل الخيارات الاقتصادية إلى قضايا تقنية مغلقة، تُقدَّم باعتبارها حتميات لا بديل عنها. وبهذا، تُستبدل المشاركة السياسية الفعلية بنقاشات إعلامية أو استهلاكية سطحية، تُبقي المجال العام نشطًا شكليًا ومفرغًا سياسيًا.

الاقتصاد "غير" الديمقراطي وتآكل الحركات العمالية

شكّلت الحركات العمالية تاريخيًا إحدى أبرز أدوات المجتمع للدفاع عن العدالة الاقتصادية، من خلال النضال من أجل تحسين شروط العمل، تقليص ساعات العمل، ضمان الأجور العادلة، وتوسيع الحماية الاجتماعية. غير أن صعود النيو ليبرالية ترافق مع سياسات ممنهجة لإضعاف هذه الحركات، عبر تقييد العمل النقابي، والترويج لما يُسمّى "المرونة في سوق العمل" بما في ذلك مدى سرعة تعيين الموظفين وفصلهم، ومستوى التنظيم المحيط بعقود العمل، وتحديد الأجور، مما يؤدي إلى تقويض قدرة النقابات على تمثيل مصالح العمال والدفاع عنها.

في هذا السياق، يوضح ديفيد هارفي أن أحد الأهداف البنيوية للنيو ليبرالية يتمثل في إعادة توزيع السلطة من العمال والدولة إلى الشركات الكبرى، من خلال تحرير الأسواق وتقليص التدخل الحكومي، وهو ما يفضي إلى تآكل قدرة الطبقات العاملة على ممارسة أي شكل من أشكال الرقابة الديمقراطية على الاقتصاد. وبهذا، يصبح إقصاء العمال من صنع القرار نتيجة مباشرة لهيمنة رأس المال على السياسات الاقتصادية.

وهنا تجدر الإشارة بأنّ الاقتصاد النيو ليبرالي يقوم على مفارقة أساسية: فهو يمجّد الحرية الفردية نظريًا، بينما يعمل عمليًا على تقويض أشكال التنظيم الجماعي، ولا سيما النقابات، التي تُمكّن العمال من ممارسة قوة سياسية واجتماعية منظمة. إذ يُعاد رسم حدود "الحرية" بما يجرّد المؤسسات النقابية من شرعيتها السياسية، ويُحصر دورها في وساطة تقنية ضيقة داخل السوق. ويتجلى ذلك في عرقلة الحق في التنظيم النقابي، ورفض المصادقة على الاتفاقيات الدولية الضامنة للحريات النقابية، وإنكار حق فئات واسعة من العمال في إنشاء نقابات تمثلهم.

إلى جانب ذلك، يُدفع الأجراء إلى خوض معارك قانونية فردية بدل النضال الجماعي، ما يزيد هشاشتهم أمام الشركات الكبرى ويُفكك أدوات المقاومة الجماعية. وبهذا التحول، يُعاد إنتاج العامل كفرد معزول في مواجهة صاحب العمل، ويُرسَّخ ميزان قوى مختلّ يجعل علاقات العمل تُدار بمنطق السيطرة لا العدالة، في انسجام تام مع جوهر الاقتصاد اللّاديمقراطي.

 

والنتيجة أن السياسات الاقتصادية، في ظل هذا النظام، تُصاغ على نحو يخدم مصالح رأس المال ولا تستجيب لاحتياجات الأغلبية العاملة، فتتراجع قدرة العمال على المطالبة بحقوقهم أو المشاركة في تحديد شروط وبيئة عملهم. ولا يقتصر أثر ذلك على إضعاف الحركات العمالية فحسب، بل يمتد إلى تقويض قدرة المجتمع ككل على حماية مصالحه الاقتصادية والاجتماعية، وتحويل الديمقراطية إلى إطار شكلي منفصل عن مراكز القرار الفعلية.

في ضوء ما سبق، تبرز الحاجة إلى طرح السؤال التالي: كيف يمكن استعادة البعد الديمقراطي للاقتصاد، وبأي أدوات تنظيمية وسياسية يمكن للعمال والمجتمع إعادة فرض حضورهم في صنع القرار الاقتصادي، في مواجهة منظومة تُعيد إنتاج الإقصاء باسم الحرية والسوق؟


احدث المنشورات
Dec 22, 2025
الأرجنتين وصندوق النقد الدولي: تاريخ طويل من التبعية المالية والمقاومة الاجتماعية - توماس باتاغلينو
Dec 22, 2025
ما بعد العمل غير المرئي: إعادة تأطير الرعاية والتنمية - لينا أيوب