أزمات لبنان المتعددة
نشرت هذه المساهمة للمرة الأولى في تقرير تسليط الضوء على التنمية المستدامة 2021
جاء انتشار فيروس كورونا في لبنان في أعقاب أزمة سياسية واقتصادية خطيرة عصفت بالبلاد في منتصف عام 2019. وقد كان لبنان يعاني، منذ قبل الجائحة، من ركود اقتصادي، تفجّر في آب/أغسطس 2019. وكانت بوادر الأزمة الاقتصادية قد ظهرت منذ العام 2016، مع ارتفاع مستوى خدمة الدين العام (35٪ من الموازنة)، وميزان المدفوعات السلبي وعجز بحدود الـ11٪. ترافق ذلك مع زعزعة استقرار سعر الصرف، والتزايد السريع في معدلات الفقر والبطالة بسبب الإغلاق العام للأعمال التجارية. بالإضافة إلى ذلك، واجهت البلاد انهيار القطاع المصرفي، مما صعّب وصول الأفراد والأسر إلى حساباتهم المصرفية.
في مواجهة هذا الاضطراب الاقتصادي، خرج اللبنانيون إلى الشوارع في 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019 مطالبين بتغييرات سياسية ومنهجية وإجراء إصلاحات اقتصادية. أدّت الاحتجاجات الجماهيرية إلى إجبار الحكومة على الاستقالة، وتم تشكيل حكومة جديدة في كانون الثاني/يناير 2020. وقد فاقمت جائحة كوفيد-19 الأزمة الاقتصادية وقلبت الطاولة لصالح النخب السياسية التقليدية. ومع فرض إجراءات الإغلاق والاحتواء، وتزايد عدد الإصابات، تشرذمت الاحتجاجات ولم تتمكّن من الاستمرار في حظر التجول والقيود على الحركة.
أدّى فشل الحكومة المعينة حديثًا في الاستجابة المناسبة إلى تضوّر معظم العائلات جوعًا وعجزها عن توفير الضروريات الأساسية. وقد أضاءت إجراءات احتواء الفيروس على الثغرات القائمة في نظام الحماية الاجتماعية في لبنان، والافتقار للبرامج الرسمية الكافية لدعم الأسر الفقيرة. حتى أن قرار الحكومة بتوزيع 400 ألف ليرة لبنانية على العائلات الأشد فقرًا، والذي اعتُمد في 1 نيسان/أبريل 2020 ونفّذه الجيش اللبناني بالتنسيق مع السلطات المحلية، كان غامضًا وسيّء التنظيم للغاية، حيث لم تستفد منه معظم العائلات المحتاجة وجاء اختيار المستفيدين بناء على الانتماءات السياسية والطائفية.
ثم جاء الانفجار الهائل في 4 آب/أغسطس 2020، والذي هز البلاد بأكملها وأسفر عن مقتل 250 شخص، وإصابة أكثر من 6000، وتشريد 300000، وتدمير ممتلكات بقيمة 10-15 مليار دولار أمريكي. وتجدر الإشارة أيضًا الى تدمير الانفجار للمستشفيات القريبة وعدّة مرافق للرعاية الصحية المزدحمة للغاية خلال الوباء وأزمة الرعاية الصحية ومحدودية الموارد الطبية الناتجة عنه، حيث لم تمر الرعاية الصحية بوضع سيء كهذا.
استقالت الحكومة بعد الانفجار في 6 آب/أغسطس 2020، مما أدى إلى أزمة سياسية تضاف إلى أكثر الأزمات الوجودية تعقيدًا في تاريخ البلد، حيث ترتفع معدلات الفقر والبطالة بشكل كبير، ويقترن ارتفاع معدلات التضخم بنقص الغذاء والدواء، مما يؤدي إلى استمرار الأسعار بالارتفاع. وقد برزت مخاوف بشأن زيادة سوء التغذية نتيجة انخفاض فرص الحصول على الغذاء وعدم كفاية المدخول الغذائي لفئات كبيرة من الأكثر ضعفًا. لقد أُنهك القطاع الطبي، وباتت المستشفيات والصيدليات غير قادرة على توفير الاحتياجات والأدوية الأساسية. وكان القطاع الصحي الرسمي يواجه الصدمة في أولها بينما عانى القطاع الخاص من عجز مالي أضعف قدرته على الاستجابة للاحتياجات المتزايدة. ثم جاء انقطاع التيار الكهربائي لمدة 22 ساعة في اليوم والنقص في الوقود ليزيد الطين بلّة ويؤدّي إلى كارثة تعليمية. فبغياب الكهرباء والاتصال بشبكة الانترنت، لم يتمكّن الكثير من التلامذة من مواصلة تعليمهم وانتهى بهم الأمر بالتسرب، ففي حين يعيش 55 في المائة من اللبنانيين تحت خط الفقر، لم تتمكّن جميع الأسر من توفير جهاز إلكتروني لحضور أطفالها فصولهم الدراسية. ومن المرجح أن تتفاقم العواقب الاجتماعية والاقتصادية الهائلة للوباء وأن تمتد إلى ما بعد الجائحة نفسها. وقد أدى ضعف الدولة وغياب قدرتها على مواجهة احتكارات الشركات، وخاصة في قطاع الطاقة والأدوية والغذاء، إلى تضاعف الأزمة والنقص في السلع الأساسية.
لكن الحكومة اللبنانية، بشكل عام، لم تطرح أو تنفّذ أي إصلاحات حاسمة لدعم خطة الإنقاذ الاقتصادي، مما أدّى إلى امتناع مجتمع المانحين عن تقديم الدعم وحصر تدخلاته في الاستجابة الإنسانية الفورية من خلال المجتمع المدني والجهات الفاعلة غير الحكومية. وتثابر منظمات المجتمع المدني لتعويض النقص الناجم عن تقاعس الحكومة، وقد كانت أول من استجاب للأزمة، بالرغم من تعليق أنشطتها الأساسية بسبب الوباء، لكن عديد من هذه المنظمات أصبح عرضة للاقفال، مع محدودية فرص التمويل والافتقار إلى القدرة على تنظيم مناسبات لجمع التبرعات والانخفاض المستمر في الدعم الحكومي، خاصة وأن خطة الإنقاذ المالي التي تمت صياغتها لم تتم الموافقة عليها بعد وتبقى مقيّدة بسبب الجمود السياسي. وقد أدّى هذا الوضع إلى أخذ مجموعة كبيرة من منظمات المجتمع المدني والمتطوعين زمام الأمور للاستجابة السريعة رغم نقص الموارد والقدرات المحدودة. يتم تمويل معظم الأنشطة من خلال حملات التضامن من اللبنانيين، في كل من لبنان والشتات. ومع غياب خطة مناسبة وشاملة للتعامل مع التداعيات الاجتماعية والاقتصادية للوباء، يلعب المجتمع المدني اللبناني دورًا مهمًا في حماية الفئات الأكثر ضعفًا، لكن لا يزال التحدي يكمن في القدرة على الاستمرار وتوفير الموارد الكافية.
اقترح البنك الدولي خطتي إنقاذ، الأولى عبارة عن قرض فوري لتقديم الدعم الإنساني للأسر الأشد فقرًا، لكن وزارة الشؤون الاجتماعية فشلت في توفير البيانات ذات الصلة وما زال البرنامج غير مطبق، والثانية هي قرض يستهدف 70 في المائة من الأسر التي لديها قسائم غذائية بشرط أن ترفع الحكومة الدعم عن المواد الغذائية والأدوية والنفط، وستؤدي تدابير التقشف هذه إلى زيادة نسبة الفقر إلى أكثر من 65-70 في المائة، فليس من المستغرب أن يكون نقد المجتمع المدني شديدًا في دعوته إلى تنفيذ خطة حماية اجتماعية شاملة تغطي الصحة والتعليم والغذاء.
وقد قرر صندوق النقد الدولي مؤخرًا تزويد لبنان بمبلغ 860 مليون دولار أمريكي في شكل حقوق سحب خاصة (SDRs)، في غياب الرؤية لدى السلطات حول كيفية تحديد الأولويات. يقترح البعض استخدام حقوق السحب الخاصة لتقديم الدعم الإنساني والغذائي، بينما يقترح البعض الآخر الاستثمار في البنية التحتية. أمّا المجتمع المدني فيطرح خيارًا ثالثًا هو الاستثمار في القطاعات الإنتاجية، وبشكل أساسي تصنيع الأغذية وصناعة الأدوية. لكن، ومهما كانت الأهداف، لا توجد ثقة في السياسيين الحاكمين الحاليين الفائقي الفساد وحيث يكون خطر إهدار الموارد مرتفعًا للغاية.
أدت الأزمات المتعددة إلى زيادة التقلبات الاجتماعية وانعدام الأمن مع تزايد الضغط لتوفير الضروريات الأساسية من الموارد النادرة للغاية. يكافح الشعب اللبناني الآن من أجل البقاء، بينما تفشل الحكومة في تنفيذ أي إصلاحات كان من الممكن أن تعزز الاقتصاد أو على الأقل تحرر المساعدات الدولية. وكان لبنان قد اعتمد تاريخيًا على الديون الضخمة في دفع فواتيره، مما جعله ثالث أكثر دولة مثقلة بالديون في العالم، كما استنزف الفساد المستشري الأموال الحكومية. ومن أجل أي أمل في التعافي، من الضروري إدخال إصلاحات منهجية أساسية، وضمان كفاءة المؤسسات السياسية والقضاء وكذلك الإدارة العامة. ومن الضروري إنشاء آليات رقابة ومساءلة لمراقبة الإنفاق العام واعتماد تغييرات هيكلية، مثل خطة إصلاح اقتصادي جديدة ترسم خارطة طريق لفرض ضرائب أكثر استباقية وفعالية وتسعى جاهدة لإعادة بناء الثقة المفقودة تمامًا.
رشا فتوح، شبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية