
أزمات الديون كعرض للاختلالات الاقتصادية الهيكلية: مصر مثالا - محمد رمضان

أزمات الديون كعرض للاختلالات الاقتصادية الهيكلية: مصر مثالا - محمد رمضان
تعيش مصر واحدة من أعنف أزمات المديونية في تاريخها الحديث، أزمة امتدت من 2022 حتى اليوم، تراكمت خلالها الضغوط علي ميزان المدفوعات المحلي لمصر، بفعل مدفوعات الديون الخارجية الكبيرة، ورغم الإنقاذ المالي بالاقتراض من صندوق النقد، وصفقات بيع الأصول الكبيرة وبالأخص رأس الحكمة إلا أن تلك السيولة لا تضمن حلولا هيكلية لأزمة هيكلية بل يمكنها علي العكس أن تساهم في تعميق أزمة النموذج التنموي في مصر، وذلك من خلال زيادة التركز في الاستثمارات الكلية في قطاعات البنية التحتية والعقارات.
تعود جذور الأزمة الاقتصادية المصرية إلي اختلالات بنيوية في نمط النمو الاقتصادي. فمنذ 2014 اعتمدت الدولة على الاقتراض المكثف لتمويل مشاريع البنية التحتية والعاصمة الإدارية والمدن الجديدة، في وقت تراجع فيه الاستثمار في القطاعات الإنتاجية كالزراعة والصناعة التحويلية. وبذلك تحولت القروض إلى أداة لشراء الوقت وليس لبناء قدرة إنتاجية تولّد عملة صعبة أو فرص عمل مستدامة. ساهمت هذه السياسات في تضاعف الدين الخارجي من نحو 44 مليار دولار عام 2014 إلى 168 ملياراً بنهاية 2023، أي أكثر من ثلاثة أضعاف خلال أقل من عقد. وعلى الجانب المحلي، استمر تضخم الدين الداخلي مع ارتفاع مدفوعات الفوائد إلى مستويات قياسية تلتهم أكثر من 47% من إجمالي المصروفات في موازنة 2024/2025، مقابل 25% فقط عام 2014.
تعمقت الأزمة بفعل اعتماد مصر على الأموال الساخنة كوسيلة لتمويل فجوة الدولار. ورغم ثلاث صدمات كبرى لتخارج هذه الاستثمارات (2018، 2020، 2022) استمرت الحكومة في استقطابها عبر أسعار فائدة مرتفعة وإعفاءات ضريبية للأجانب، بينما يتحمل المواطن المصري كلفة هذه السياسات من ضرائب غير مباشرة وتضخم.
في الوقت نفسه، أصبحت الودائع الخليجية في البنك المركزي تمثل نحو 83% من الاحتياطي الأجنبي بنهاية 2023. هذا النمط من التمويل قصير الأجل يحوّل العلاقة مع الخليج إلى أداة ضغط جيوسياسي، إذ تُربط عمليات التجديد أو التحويل بصفقات بيع أصول كبرى مثل رأس الحكمة.
علي مستوي مخاطر القدرة علي إعادة تمويل هذا الدين، فإن هناك زيادة واضحة في نصيب الديون قصيرة الأجل من إجمالي الدين الخارجي ، ارتفعت تلك الديون إلي 16% عام 2022، بعد أن كانت 6% فقط عام 2014. هذا الاتجاه يضاعف مخاطر إعادة التمويل ويجعل المالية العامة أكثر هشاشة أمام أي صدمة في أسعار الفائدة أو تدفقات رأس المال. وبدلاً من معالجة هذه المخاطر، واصلت الحكومة إصدار سندات دولية وصكوك بعوائد مرتفعة وصلت إلى 11% عام 2023، ما يعمّق أزمة الديون وبالتبعية الأزمة الاقتصادية في مصر.
الأزمة المالية وتقشف الإنفاق الاجتماعي.
يركز صندوق النقد والحكومة المصرية في خطاباتهم حول إدارة ملف الدين علي الفائض الأولي، كإنجاز يتم الترويج له دائما، لكن العجز في الموازنة العامة مستمر في الزيادة، بفعل زيادة مدفوعات الفوائد، تقدر مدفوعات الفوائد خلال الموازنة الأخيرة 2024-2025 إلي 1.83 تريليون جنيه، أي ما يقرب من 11٪ من الناتج المحلي. كانت النتيجة المباشرة لتلك المدفوعات الكبيرة لخدمة الدين هي التراجع المستمر في مخصصات الأجور والدعم والحماية الاجتماعية. مثلت الأجور 26% من المصروفات عام 2014، انخفضت في 2023 إلى 15% فقط. كذلك تراجعت مخصصات الدعم من 30% إلى 17% خلال نفس الفترة الزمنية، ما يعني عملياً أن برنامج "الإصلاح الاقتصادي" خفّض الإنفاق الاجتماعي بأكثر من النصف خلال عشر سنوات.ترافق هذا مع انهيار قيمة العملة، حيث فقد الجنيه 81% من قيمته منذ 2016، ما أدى إلى موجات تضخم متتالية، خصوصاً في أسعار الغذاء والطاقة، وهو ما انعكس مباشرة على تآكل مستويات المعيشة للأسر المصرية.
التوصيات والحلول للخروج من الأزمة
يتطلب الخروج من أزمة الديون الحالية، بمعني الخروج من دائرة إعادة إنتاج دائرة الديون وتخفيضات سعر الصرف في مصر الكثير من الإجراءات الهيكلية والتي يجب أن تشكل نواه برنامج إصلاح اقتصادي محلي، بعيدا عن الضغوط التي تمارسها المؤسسات الدولية مثل صندوق النقد ، يري التقرير الوطني للديون في مصر أن تلك الإجراءات يجب أن تستند علي الخطوات الأساسية التالية :
1. إقرار تشريع من البرلمان يضع سقف مخدد للإقتراض وخدمة الدين، ويلزم الجهات الحكومية المصرية علي تنوعها بتخصيص التمويل الأجنبي للمشروعات الإنتاجية ذات العائد التكنولوجي والتصديري، بدلاً من الإنفاق العقاري والبنية التحتية غير المنتجة. هذا الانضباط المالي يشكّل شرطاً أساسياً لوقف إعادة إنتاج الأزمة.
2. من أجل تقليل أعباء مدفوعات الديون علي المدي القصير والمتوسط فإن علي الحكومة المصرية السعي مبكرا لإعادة هيكلة الدين الخارجي، وتحويل جزء من الدين إلي إستثمارات طويلة المدي وهي استراتيجية تحاول الحكومة بالفعل تنفيذها، وسبق أن كانت تلك الاستراتيجية جزءآ من صفقة رأس الحكمة مع الإمارات.
3. تحتاج مصر إلي إصلاح ضريبي شامل وعادل يكون هدفه هو توسيع القاعدة الضريبية عبر فرض ضرائب علي الثروة العقارية المعطلة، وضريبة علي الأرباح الرأسمالية، وهي ضريبة مؤجلة لأكثر من عقد، مع تعديل شرائح ضرائب الدخل لتصبح معبرة عن الدخل الحقيقي للشرائح العليا للدخل.
4. يمكن للحكومة التفاوض مع البنوك المحلية أو إتباع مبدأ العطاءات الخاصة من المركزي التي يمكنها تقليل الفوائد علي الديون المحلية، غالبا ما ينتقد الصندوق هذه العطاءات الخاصة بسبب اعتماد الحكومة المكثف عليها في توفير السيولة لها، لكن تبدو تلك الإجراءات ضرورية من أجل تقليل فاتورة خدمة الدين علي المدي القصير.
5. ثمة حاجة إلى برنامج هيكلي مختلف لدعم النمو الإنتاجي، يتجاوز الشروط التقليدية لصندوق النقد الدولي. يجب أن يركز على تحفيز الصناعة والزراعة عبر حوافز مالية وقروض ميسرة، مع حوكمة صارمة لضمان وصول التمويل إلى القطاعات المنتجة بالفعل، وليس إلي القطاعات التي تشهد تركزا للإستثمارات الكلية في الاقتصاد كالقطاع العقاري .
6. لا بد من إعادة النظر في أولويات التقشف، بحيث يتركّز على تقليل الإنفاق غير الضروري في المشروعات القومية الضخمة، مقابل تعزيز الإنفاق على الصحة والتعليم والدعم الاجتماعي. استمرار إضعاف هذه القطاعات سيؤدي إلى إفقار رأس المال البشري، ما يعمّق الأزمة الاقتصادية على المدى البعيد.
7. يمثل تعزيز الأمن الغذائي والطاقي مدخلاً ضرورياً لتقليل التبعية. إذ يشكل الغذاء والطاقة أكثر من ثلث الواردات السنوية لمصر. ومن ثم، فإن الاستثمار في الزراعة المحلية والطاقة المتجددة يمكن أن يقلل العجز التجاري المزمن، ويخفف الضغط على احتياطات النقد الأجنبي.
8. يجب تطبيق مبدأ وحدة الموازنة العامة ودمج موازنات الهيئات الاقتصادية والصناديق الخاصة ضمن الموازنة، بما يعزز الشفافية ويرفع كفاءة استخدام الموارد. استمرار تجزئة الموازنة يحرم الدولة من فوائض مؤسسات كبرى مثل هيئة المجتمعات العمرانية، ويزيد العجز الكلي بشكل مصطنع