Sep 22, 2025
من نيوليبرالية الثمانينات، الى إدارة التوحش العالمي - أديب نعمه
اديب نعمه
خبير ومستشار في التنمية والسياسات الاجتماعية ومكافحة الفقر

الرجاء الضغط هنا لنبذة والمنشورات
اديب نعمه

 من نيوليبرالية الثمانينات، الى إدارة التوحش العالمي - أديب نعمه

نظرتان

لم يعد احد ينكر ان عالمنا الحالي مأزوم على نحو غير مسبوق. فقد تلا انهيار نظام الثنائية القطبية؛ سلسلة الازمات في مراكز النظام العالمي أبرزها ازمة عام 2007/2008 وما تلاها من ازمات وحروب؛ إلى ان بتنا امام اليوم ازمة مركبة شاملة تختصرها الأدوات المفهومية للتيار الرئيسي في مصطلح Polycrisis المستخدم حاليا. وترجمة معنى هذا المصطلح بلغة مفهومة هو اننا بصدد "أزمة في أزمات" و "أزمات في ازمة" في آن. الا ان تفسيرنا هذا يتجاوز المعنى الذي قصده التيار الرئيسي الذي يختزله في "تعدد الازمات" مع وجود روابط متبادلة وآليات انتقال الأثر من ازمة الى أخرى. وفي اعتقادنا ان الاخير تصور تبسيطي مقصود، يراد من خلاله تجنب الاعتراف بأن مصدر هذه الازمات واحد في الجوهر، وهو نظام العولمة النيوليبرالية السائد منذ الثمانيات وتحولاته ومحاولات التيار الرئيسي لتجاوزه مع الحفاظ على مصالحهم.


لقد بلغ نموذج نظام العولمة النيوليبرالية الذي كان سائدا منذ مطلع الثمانينات حده التاريخي، وباتت المهمة التاريخية الراهنة تكمن في تجاوز هذا النظام نفسه، كما تكمن في تحديد طبيعة النموذج البديل. وقد ناضلت الشعوب والحركات التغييرية ومنظمات المجتمع المدني وخاضت مواجهات صعبة وقاسية ضد نموذج العولمة النيوليبرالية الذي ساد على امتداد العقود الأربعة المنقضية، ساهمت في اضعافه وتعميق أزمته. الا ان أطرافا أخرى ساهمت في تفكيكه من الداخل على يد صانعيه والمستفيدين منه. والصراع اليوم انتقل ليكون صراعا على النموذج البديل، الذي سيكون على الأرجح أكثر عنفا كما تنبئ بذلك وقائع مرحلة تكوينه الحالية.
 

تحرير التوحش العالمي

يسعى اقطاب العولمة راهنا، وبعد ان تولوا تفكيك نموذج الثمانينات النيوليبرالي، الى استبداله بنظام أكثر توحشا على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والسياسية والثقافية، في سعي نحو الانفكاك الكامل عن كل نوع من انواع القيود والضوابط على حرية الحركة والتصرف والاستغلال. وباستخدام مصطلحات وأدوات حقبة "توافق واشنطن" و"التكيف الهيكلي"، يمثل ما يجري حاليا دفعا لعملية تفكيك القواعد الناظمة والضوابط [1]deregulation الى حدها الاقصى، بما في ذلك تعطيل ثم تفكيك مجمل نظام الحوكمة العالمية وضمنها منظومة الامم المتحدة تحديدا، ومنظومة حقوق الانسان، باعتبار ان التوازن الدولي الذي ادى الى تشكلها بعد الحرب العالمية الثانية، قد انتهى.


وفي رأيهم، لا بد ان يكون العالم اليوم عالما احادي القطب، يقوده القطب الاقوى في اليمين المتطرف والشعبوي العالمي الذي تمثله الولايات المتحدة في ولاية الرئيس ترامب الحالية، والمستندة بشكل مباشر الى القوة العسكرية المستخدمة فعليا في فرض السيطرة على مسار التطور السياسي – الاقتصادي العالمي، واستطرادا الداخلي أيضا. اما الدول الأخرى، بما فيها دول الشمال قبل الجنوب، فيتحول معظمها الى دول مساندة للنزعة القومية والاستعمارية/الكولونيالية المتجددة في حربها الجديدة للسيطرة على العالم ومقدراته وشعوبه، وإلغاء نتائج توازنات ما بعد الحرب العالمية الثانية، وفي الحرب التجارية والاقتصادية المستعرة على ما اعتبر في ادبيات العولمة في السنوات الأخيرة اقطابا اقتصادية عالمية تبشر باحتمال عالم متعدد الأقطاب.


 لقد بدأ الهجوم المضاد الذي يشنه هذا اليمين اعتبارا من مطلع الثمانينات، لا بل قبل ذلك منذ الغاء القاعدة الذهبية في تسعير العملات والدولار القابل للتحويل الى ذهب على يد الرئيس نيكسون عام 1971، وهو ما شكل في حينه عملية قرصنة غير مسبوقة، وتقويضا لاحد اهم متركزات نظام بريتون وودز. الا ان عملية القرصنة الراهنة التي تتزعمها الولايات المتحدة الأميركية بقيادة الرئيس ترامب، هي عملية قرصنة شاملة لا تقتصر على الجانب الاقتصادي وحسب، بل تشمل كل شيء تقريبا من الاقتصاد والمال والتجارة، الى البيئة، الى الاجتماع والسياسة والحرب والسلم، الى منظومة حقوق الانسان ومنظومة القيم بكاملها، بما فيها إحلال التفاهة بدل الثقافة، والمنفعة الصرف محل الحقوق والعدالة.

 
في حال نجحت عملية القرصنة هذه، فإن هذا التقويض الكامل للقانون الدولي، وإلغاء الحد الأدنى من هامش الاستقلالية النسبية المتبادلة للمستويات الاجتماعية والسياسية والثقافية والسياسية في علاقة كل منها بالمستويات الأخرى، سوف تكرس عملية اخضاع قسري لكل دوائر الحياة والكوكب وما عليه من بشر وموارد بالقوة للسياسة المعبر عنها في ممارسات وايديولوجية نفعية متطرفة، تقودها نزعة قومية في قطبها المركزي الأميركي، يشاركه عمالقة المال والتكنولوجيا والصناعات العسكرية والطاقة والصناعات الاستخراجية الأكثر توحشا التي تنهش الأرض والناس، سعيا الى التقاسم الاحتكاري التنافسي للمعادن المنجمية النادرة والموارد الثمينة الملوثة بدماء الناس والشعوب، لاسيما في الدول النامية، او الدول التي يجري استضعافها ونهبها، من افريقيا الى آسيا... وصولا الى أوكرانيا وغرينلاند.

الصراع على البديل

ان المواجهة الراهنة ليست بين منظور تنموي – حقوقي وبين نموذج العولمة النيوليبرالية نفسها التي عرفناها منذ مطلع الثمانينات. هذا النموذج من العولمة تخلى عنه اصحابه وقضوا عليه بأنفسهم. بهذا المعنى، فإن المواجهة الحالية هي مواجهة بين أصحاب الحق في التنمية وتقرير المصير، والساعين الى إنفاذ حقوق الانسان والشعوب، وتحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية في اوطانهم وعلى المستوى العالمي من جهة؛ وبين نموذج راهن ومستقبلي لنظام عالمي متوحش قيد التكوين، يُخضِع الاقتصادي للسياسي وللأيديولوجيا الاستعمارية التقليدية المتجددة بشكل متطرف وقسري، كما كان يحصل في حقبات تاريخية سابقة.


العسكرة وطغيان السياسي/الايديولوجي

إن النموذج الذي نحن بصدده في الزمن الراهن، يدمج بشكل عضوي السياسة والايديولوجيا بالاقتصاد، ويعتمد القسر والعنف والحرب بشكل علني وسيلة لتحقيق أهدافه. في هذا النموذج تتراجع أولوية المصالح العامة للرأسمالية العالمية بكل مكوناتها، لصالح مصالح الرأسمالية في قطبها المركزي المتمثل في دول الشمال خلال العقود السابقة، ثم في اخضاع الكل الى مصالح القطب الحكومي/القومي الواحد المحاط بدعم الشركات الكوسمبولوتيه العملاقة واليمين المتطرف العالمي. يجري هذا التحول على حساب شعوب هذه البلدان نفسها، وعلى حساب البلدان الاخرى لاسيما دول الجنوب، ولكن ايضا على حساب دول الشمال، وتلك التي اعتبرت اقتصادات ناشئة في ادبيات العقدين الاخيرين.


نحن نواجه اليوم محاولة لفرض مسار للتصفية الكاملة لمختلف مكونات النظام الدولي الذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية، وصولا الى تصفية منظومة الأمم المتحدة، وتفكيك منظومة حقوق الانسان والقانون الدولي، وقواعد العلاقات الديبلوماسية، والنظام الاقتصادي العالمي، ومنظومة القيم التي ارتبطت به والتي عبر عنها ميثاق الأمم المتحدة من ضمن وثائق واتفاقيات اخرى...الخ. وهو محاولة للعودة الى ما يشبه الوضع السائد قبيل الحرب العالمية الأولى، بما في ذلك الحلم/الكابوس بأن ينشأ وضع يتيح للقطب الأقوى في النظام العالمي (الولايات المتحدة الأميركية) ان يصبح امبراطورية لا تغيب عنها الشمس تحكم العالم، كما كانت الإمبراطورية البريطانية العظمى في العصر الكولونيالي الكلاسيكي.


مقاومة هذا المسار لا تزال دون المستوى المطلوب، ويتحكم في استجابة الأطراف المعنية بذلك – جنوبا وشمالا – مواقف تتراوح بين تأييد صريح او ضمني، أو تردد، أو اغراء، أو خوف؛ وكل منها يمكن يعطل فعل المواجهة، ويدفع نحو موقف قدري او انتظاري مع بعض صحوات الضمير الاعتراضية التي لا تترجم الى فعل اعتراض ومقاومة فعالين.


 
وللأسف الشديد، لا يوجد أي شك ان منطقتنا وبلداننا ومجتمعاتنا، هي أكثر مناطق العالم التي يتجلى فيها هذا الصراع المدمر المعبر عن مخاض التوليد العنيف لهذا النموذج الجديد. وهي المنطقة التي تختبر فيها الوسائل الأكثر تطرفا لبلورة النموذج الجديد للعولمة القائمة على الهيمنة المتوحشة احادية القطب، وقد تكون مكان ولادته المفضل، والمدخل الى جرّ الحلفاء والشركاء الى الانتساب الى هذا النموذج.


إذا كان هذا ما علينا ان نواجهه؛ فهل نستطيع ذلك بالأدوات النظرية والاستراتيجيات النضالية نفسها؟
 
 
[1] - تضمنت توصيات توافق واشنطن وسياسات التكيف الهيكلي التي وضعت مطلع الثمانينات إثر ازمة الديون التي انفجرت عام 1982، ثلاثة مبادئ او قواعد لتنظيم (او تحرير) الاقتصادات الوطنية هي: التحرير الاقتصادي والتجاري Liberalization، والخصخصة او الخوصصة Privatization، وتفكيك القواعد الناظمة والضوابط التي تنظم الاقتصاد وسوق العمل Deregulation.

احدث المنشورات
Sep 22, 2025
أزمة الدين العام: وجه آخر لانتهاك حقوق الإنسان – زياد عبد الصمد
Sep 22, 2025
تونس على مفترق الطرق: لحظة كينزية من أجل عدالة ضريبية – أمين بوزيان