من المحو إلى المقاومة: جسد المرأة بين الخطاب والسياسة - جيهان أبوزيد
من المحو إلى المقاومة: جسد المرأة بين الخطاب
والسياسة - جيهان أبوزيد
(قراءة نقدية في تقرير المقررة الخاصة حول العنف
ضد النساء وتداعياته عربياً)
في اللحظة التي تتعرض فيها المرأة للضرب، أو تُجبر على الزواج، أو تُقتل
بدعوى "الشرف"، يحدث شيء غريب: تبدأ في الاختفاء. تختفي المرأة ككائن حي
له جسد يشعر بالألم، لتتحول إلى فكرة مجردة، إلى رمز. هذه الآلية التي يحذر منها
التقرير الأممي هي نفسها التي تعيد إنتاج معاناة المرأة في مجتمعاتنا.
هذا "الاختفاء" لا يحدث فقط في الجريمة، بل في اللغة، في
القانون، وفي السياسات. حين تُستبدل كلمة "امرأة" بـ"شخص
حامل"، أو تُدمج النساء في فئة "الضحايا" دون تمييز بيولوجي أو
اجتماعي، يُمحى الجسد الأنثوي من الخطاب، وتُمحى معه الحماية، والمساءلة، والحق في
العدالة.
في السياق العربي، نرى آلة محو
موازية: فتحت ستار "الخصوصية الثقافية" و"الشرف"، حيث يتحول النقاش عن امرأة تضرب إلى حديث عن "سمعة العائلة"،
وتُختزل جريمة قتل أنثى في عبارة "جريمة شرف". في الحالتين، النتيجة
واحدة: إخفاء الحقيقة المادية للجسد الأنثوي البيولوجي وألمه.
في وثيقة استثنائية من داخل منظومة الأمم المتحدة، أصدرت المقررة الخاصة
المعنية بالعنف ضد النساء والفتيات، ريم السالم، تقريرًا يثير جدلاً واسعًا حول
مفاهيم النوع الاجتماعي، الحماية القانونية، والعدالة الجندرية. يتجاوز التقرير
الطابع الوصفي المعتاد في الوثائق الأممية، ليقدم نقدًا جذريًا للخطابات السائدة،
ويقترح مقاربة تحررية بديلة تعيد الاعتبار للنساء كفئة بيولوجية متميزة، وتربط
قضاياهن بالسياقات السياسية والاقتصادية والاستعمارية.
تضمن التقرير أربعة محاور مفصلية
أولا: نقد المفاهيم السائدة: حين يُفرغ التمكين من
مضمونه
انطلق التقرير من مساءلة المفاهيم التي أصبحت شائعة في الخطاب الدولي، مثل
"التمكين"، "العدالة الجندرية"، و"الإدماج". يوضح
كيف أن هذه المفاهيم، رغم طابعها التقدمي الظاهري، قد تُستخدم لتبرير سياسات تُقصي
النساء البيولوجيات أو تُضعف حمايتهن. فمثلاً، يُنتقد استخدام مصطلحات مثل
"الأشخاص الحوامل" بدلاً من "النساء الحوامل"، لما له من أثر
في طمس الفروقات البيولوجية التي تُبنى عليها احتياجات الحماية والرعاية.
التقرير يقلب الطاولة على الخطاب السائد الذي يتهم المدافعات عن حقوق
المرأة البيولوجية بـ"التمييز"، ويُظهر أن محو فئة الجنس البيولوجي نفسه
هو شكل من أشكال التمييز ضد النساء. كما يحذر من أن اللغة "التقدمية" قد
تتحول إلى أداة قمع، تُخفي احتياجات النساء وتُضعف حمايتهن القانونية.
ثانيا: نقد الخطاب التنموي والمؤسسي: حين تتحول النساء إلى مؤشرات
ينتقد التقرير الخطاب التنموي الذي تتبناه مؤسسات دولية كبرى، والذي يختزل
النساء في أرقام ومؤشرات، متجاهلاً السياقات السياسية والاقتصادية التي تنتج العنف
ضدهن. يشير إلى أن التمويل الدولي قد يُستخدم لفرض أجندات تُعيد إنتاج التبعية،
مثل الدفع نحو سياسات "الهوية الجنسانية" على حساب الاعتراف بالجنس
البيولوجي.
في العالم العربي، حيث تعتمد العديد من منظمات المجتمع المدني على التمويل
الدولي، يطرح التقرير تساؤلات حاسمة: هل تُستخدم هذه الأموال لتعزيز حقوق النساء
فعلاً، أم لإعادة تشكيل أولوياتهن وفق أجندات خارجية؟ وهل تُسهم هذه المشاريع في
تمكين النساء كجماعة سياسية، أم تُحولهن إلى مستفيدات في برامج خدماتية؟
ثالثا: نقد الاستراتيجيات القائمة: من التمكين الفردي
إلى التحول الهيكلي
يرفض التقرير المقاربات التي تركز على "التمكين الفردي" بمعزل عن
البنى الاجتماعية والسياسية. ويُظهر كيف أن السياسات "المحايدة جندريًا"
قد تُعيد إنتاج الأبوية، كما في حالات السماح للذكور البيولوجيين بدخول سجون
النساء أو التنافس في رياضات نسائية، مما يُعرض النساء للعنف ويقوض فرصهن في
العدالة والإنصاف.
كما ينتقد التقرير إلغاء التدابير الهيكلية مثل الحصص النسائية، واستبدالها
بسياسات قائمة على الهوية الجنسانية، مما يُضعف فعالية هذه التدابير في تحقيق
مساواة مادية ملموسة.
رابعا: الدعوة إلى خطاب تحرري
بديل: الاستعمار، والطبقة في مرمى
أكثر ما يميز التقرير هو دعوته إلى خطاب تحرري يعيد ربط قضايا النساء
بالسياقات الاستعمارية والطبقية. فهو يربط بين العنف القائم على الجنس وبين
الاحتلال، كما في حالة فلسطين، ويُطالب بالاعتراف بالنساء كضحايا لعنف سياسي منظم،
لا مجرد أفراد في معاناة خاصة.
في السياق العربي، حيث تتقاطع التحديات الجندرية مع الاستبداد السياسي،
الاحتلال، والنيوليبرالية، تكتسب هذه الدعوة أهمية مضاعفة. فمقاومة العنف ضد
النساء لا يمكن أن تنفصل عن مقاومة القمع السياسي، التبعية الاقتصادية، والتمييز
الطبقي. التقرير يُلهمنا لتطوير خطاب نسوي عربي يعترف بهذه التشابكات، ويُطالب
بسياسات نابعة من الواقع المحلي، تُصاغ بمشاركة النساء أنفسهن.
في السياقات العربية والدولية
لا يكتفي التقرير بتوثيق مظاهر العنف الفردي ضد النساء، بل قدم أطروحة قانونية جريئة تعتبر
أن بعض الممارسات المنهجية في سياقات معينة ترقى إلى مستوى "الإبادة الجماعية
للإناث" (Femi-genocide). هذا المفهوم، الذي يصف التدمير المتعمد للنساء والفتيات كمجموعة قائمة
بذاتها على أساس الجنس البيولوجي، يشكل نقطة تحول في فهم العنف الموجه للنساء،
ويمنحنا أدوات جديدة لتحليل ما يحدث في مناطق مثل غزة أفغانستان، ، ميانمار،
والسودان.
العنف الإنجابي كساحة حرب: غزة: استهداف منظومة الحياة نفسها
يظهر التقرير كيف تتحول القدرة الإنجابية للنساء إلى ساحة قتال في النزاعات
المسلحة، حيث تُستخدم أجساد النساء كأدوات لتحقيق أهداف سياسية أو ديموغرافية. في
هذا السياق، تُعرض النساء لأشكال من العنف لا تستهدفهن فقط كأفراد، بل كمصدر
للحياة والاستمرارية الجماعية.
يوثق التقرير كيف أن الهجمات العسكرية في غزة استهدفت بشكل ممنهج
المستشفيات والمرافق الصحية الإنجابية، بما في ذلك العيادة الوحيدة للخصوبة. أثناء
عمليات الإخلاء القسري للمستشفيات، تُرك الأطفال حديثو الولادة دون رعاية. كما
تعاني آلاف النساء الحوامل والمرضعات من سوء التغذية والجفاف، مما أثر على قدرتهن
على إنتاج الحليب، وأدى إلى زيادة هائلة في معدلات الإجهاض وصلت إلى 300% نتيجة
الصدمات والظروف غير الإنسانية.
الأخطر من ذلك هو الخطاب الذي يصور النساء الحوامل والأطفال على أنهم
"العدو"، مما يُشير إلى نية واضحة لـ"فرض تدابير تهدف إلى منع
المواليد داخل المجموعة" – وهي إحدى الجرائم المحددة في اتفاقية الإبادة
الجماعية.
أفغانستان: الإبادة عبر
التجريد من الإنسانية
ييوضح التقرير أن نظام طالبان لا يمارس اضطهادًا عشوائيًا ضد النساء، بل
ينفذ سياسة ممنهجة تهدف إلى محو وجودهن القانوني والاجتماعي. أكثر من سبعين
مرسومًا صدرت منذ عودة طالبان إلى الحكم، تُجرد النساء من حقوقهن الأساسية،
وتعيدهن إلى حالة من العزلة القسرية تشبه "الاعتقال المنزلي". تشمل هذه
السياسات: حرمان الفتيات من التعليم
بعد المرحلة الابتدائية، ومن الدراسة الجامعية.منع النساء من العمل في معظم الوظائف العامة والخاصة.تقييد حريتهن في التنقل عبر اشتراط وجود "محرم".وحظر دخولهن إلى العديد من الأماكن العامة، بما في ذلك الحدائق والمراكز
الصحية.
هذه الإجراءات لا تهدف فقط إلى السيطرة، بل إلى "تدمير الأساس
البيولوجي والاجتماعي للمجموعة الأنثوية في أفغانستان"، كما يصف التقرير.
فحرمان النساء من دراسة الطب والتمريض، على سبيل المثال، لا يُقصيهن من التعليم
فحسب، بل يحرمهن من الرعاية الصحية الأساسية، بما في ذلك رعاية الحمل والولادة.
هذا يؤدي إلى أزمة صحية ونفسية هائلة، تتجلى في ارتفاع معدلات الاكتئاب والانتحار
بين النساء، ويجعل وجودهن الجسدي والنفسي عرضة للتدمير.
من الناحية القانونية، يستند التقرير إلى اتفاقية منع جريمة الإبادة
الجماعية، ويقترح اعتبار النساء الأفغانيات "مجموعة قومية" بموجب المادة
الثانية من الاتفاقية. فهن يشكلن نصف السكان، ويتم استهدافهن بشكل ممنهج بسبب
هويتهن البيولوجية التي لا يمكن التخلي عنها. وتشير الفقرات (ب) و(د) من المادة 2
إلى أن "إلحاق أذى جسدي أو نفسي جسيم بأعضاء الجماعة" و"فرض تدابير
تهدف إلى منع المواليد داخل الجماعة" يُعدان من أشكال الإبادة، وهي توصيفات
تنطبق بدقة على ما يحدث في أفغانستان.
ميانمار: سياسات منع الإنجاب القسري
في ميانمار، استخدمت السلطات العسكرية القوانين كسلاح ضد أقلية الروهينغا،
حيث فرضت حدًا أقصى لعدد الأطفال (طفلان)، واشترطت فترات مباعدة بين الولادات (36
شهرًا)، وألزمت الحصول على تصريح رسمي قبل الزواج. هذه السياسات لا تُقيد الخصوبة
فحسب، بل تُصورها كتهديد وجودي للأغلبية البورمية، مما خلق أرضًا خصبة للمذابح
اللاحقة. النساء الروهينغيات يُعاملن كأدوات ديموغرافية يجب ضبطها، لا ككائنات
بشرية لها حقوق.
السودان: الاغتصاب كأداة للتطهير العرقي
منذ اندلاع الحرب في السودان في أبريل 2023، استخدمت قوات الدعم السريع
العنف الجنسي كأداة ممنهجة للإبادة الجماعية ضد المجموعات العرقية غير العربية.
يوثق التقرير حالات اغتصاب جماعي، عبودية جنسية، وتشويه متعمد للأعضاء التناسلية.
الهدف مزدوج: إلحاق ضرر جسدي ونفسي جسيم بالنساء، وتغيير التركيبة الديموغرافية من
خلال الحمل الناتج عن الاغتصاب، والإجهاض القسري، و"تغيير الخطوط العرقية".
تُشكل هذه الأفعال جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وقد تم توثيق آلاف
الحالات منها، وتُظهر نية واضحة للإبادة الجماعية، ليس فقط عبر القتل، بل عبر
السيطرة على القدرة الإنجابية للنساء وتوظيفها كأداة سياسية.
العنف الرقمي: ساحة الحرب
الجديدة ضد النساء
يحذر التقرير من أن الفضاء الرقمي قد أصبح ساحة جديدة ومروعة للعنف القائم
على الجنس، حيث يتم استهداف النساء والفتيات بشكل غير متناسب، وبأساليب تتسم
بالابتكار التقني والقسوة النفسية.
تشير الدراسات التي يستشهد بها التقرير إلى أن 85% من النساء حول العالم
تعرضن لعنف عبر الإنترنت، وأن 99% من محتوى "التزييف العميق"
(Deepfakes) الجنسي يستهدف النساء والفتيات. هذه ليست جرائم
فردية أو عشوائية، بل هي "عنف جنساني منظم"، تُستخدم فيه التكنولوجيا
لتكثيف الإيذاء، الإذلال، والتحكم.
من بين الآليات الجديدة التي يرصدها التقرير:
- التزييف العميق:
إنتاج صور ومقاطع فيديو إباحية مزيفة
باستخدام الذكاء الاصطناعي، بهدف الابتزاز أو التشهير، مما يُلحق ضررًا
نفسيًا بالغًا بالضحايا.
- الابتزاز الجنسي:
حالات موثقة في المملكة المتحدة تُظهر كيف
يُجبر الفتيات المراهقات على إرسال محتوى خاص أو القيام بأفعال مؤذية ذاتيًا،
مما أدى إلى حالات انتحار.
- استغلال الأطفال:
97% من صور الاعتداء الجنسي على الأطفال تستهدف
الفتيات، وتُسهل التقنيات الحديثة الوصول إلى الضحايا وإخفاء هوية الجناة،
الذين غالبًا ما يتواجدون في ولايات قضائية مختلفة.
ويعرب التقرير عن قلقه من أن بعض أحكام "الاتفاقية الدولية لمكافحة
الجرائم الإلكترونية" الجديدة قد تسمح للدول باستثناء المواد المنتجة بالذكاء
الاصطناعي أو تلك التي لا تصور طفلاً حقيقياً من التصنيف كجرائم، مما يُساهم في
تطبيع واستمرار استغلال النساء والفتيات.
يُظهر التقرير بوضوح أن العنف القائم على الجنس البيولوجي لم يعد ظاهرة
تقليدية أو فردية، بل أصبح يأخذ أشكالًا حديثة وممنهجة، تتراوح بين سياسات حكومية
تهدف إلى محو النساء من المجال العام، إلى حروب تستهدف قدرتهن على الحياة
والإنجاب، وصولًا إلى فضاء رقمي يحولهن إلى أهداف دائمة للإذلال والتشويه.
هذه الأدلة تُؤكد الحاجة الملحة، التي يطالب بها التقرير، إلى اعتماد
مقاربة قانونية وسياسية تركز على الجنس البيولوجي لفهم هذه الجرائم ومكافحتها
بفعالية. إنها دعوة لإعادة الاعتراف بالنساء كجماعة مادية، لها حقوق، ولها جسد،
ولها مستقبل يجب أن يُحمى لا أن يُمحى.
من اللغة إلى الجسد، ومن
الحماية إلى التحرر
تقرير ريم السالم ليس مجرد وثيقة أممية، بل هو صرخة نسوية تعيد الاعتبار
للواقع المادي للنساء، وتُحذر من خطابات "الشمول" التي قد تُخفي التمييز
بدلًا من معالجته. في العالم العربي، حيث تتقاطع التحديات الجندرية مع الاستعمار
والنيوليبرالية، يُمثل التقرير فرصة لإعادة التفكير في أولوياتنا، مفاهيمنا،
واستراتيجياتنا.
إنه دعوة مفتوحة لتطوير خطاب نسوي عربي نقدي، لا يكتفي بترديد شعارات
العدالة الجندرية، بل يُعيد تعريفها من منطلق تحرري، مادي، وسياسي—خطاب لا يُخفي
الجسد، ولا يُفرغ اللغة، بل يُطالب بالحماية، بالعدالة، وبالكرامة.
احدث المنشورات
الشبكة في مؤتمر القمة العالمي الثاني للتنمية الاجتماعية: تقدم مُحرَز، والتزامات غائبة – زهرة بزّي