Jul 03, 2023
مقدمة تقرير الراصد العربي ٢٠٢٣ عن الحق في الصحة بقلم روبرتو بيسيو
روبيرتو بيسيو
منسق الأمانة العامة - الراصد الاجتماعي

الرجاء الضغط هنا لنبذة والمنشورات
روبيرتو بيسيو

مقدمة تقرير الراصد العربي ٢٠٢٣ عن الحق في الصحة بقلم روبرتو بيسيو
الرجاء الضغط هنا لتحميل الملف


المساءلة من أجل مجتمعٍ سليم


عرّف عالم الفيزياء والرياضيات والفيلسوف ابن سينا منذ ألف عام الصحّة بأنّها حالة توازن، اعتبر أنّ المرض هو نتيجة اختلال هذا التوازن. وحدّد ابن سينا في موسوعته الطبية الضخمة "القانون في الطب" الأسس التي يستند إليها الطب الحديث اليوم وسبعة مبادئ للحفاظ على الصحّة، وهي "الاعتدال في المزاج، واختيار المأكل والمشرب، والتخلص من البول والبراز، وحماية الجسد، ونقاء الهواء المُتنفَّس، واللباس الملائم، وتوازن الحركتَيْن الجسدية والنفسية، والنوم واليقظة".


وفي القرن الرابع عشر، استعرض ابن خلدون في مقدّمته أفكارًا سبّاقة بشأن الرابط بين الاكتظاظ السكاني، وتغيُّر الأحوال الجوية والتدهور البيئي، والأمن الغذائي، والصحّة العامّة، لا تزال تنطبق على عصرنا الحالي. واعتبر ابن خلدون أنّ السبب الأساسي للأمراض هو فساد جودة الهواء، نتيجة الاكتظاظ السكاني، والتعفُّن والرطوبة المضرّة التي يمكن للهواء أن يحملها (في المدن ذات الكثافة السكانية العالية).


شكّلت هذه الآراء الأسس التي بُني عليها الطب الحديث، واستُخدِم قانون ابن سينا في كليّات الطب الأوروبية لسنين طويلة وصولاً إلى القرن السابع عشر. وما زالت مبادئ الوقاية لتفادي الأمراض، وضرورة الحفاظ على التوازن بين الحياة الحضرية (الحضارة) والبيئة السليمة (نقاء الغذاء والمياه والهواء)، صائبة ومهمّة في يومنا هذا.


تتماشى هذه المسلّمات التي تقدّم بها كلّ من ابن سينا وابن خلدون مع الحق في الصحّة (الذي أُرسيّ كحقّ أساسي في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العام 1948)، ومع العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية (1966)، وكذلك مع اعتراف الجمعية العامة للأمم المتحدة مؤخّرًا، في تموز/يوليو 2022، بأنّ البيئة النظيفة والسليمة والمستدامة هي حق من حقوق الإنسان. وفي العام 2015، ألزمت خطة التنمية المستدامة لعام 2030 كافّة الحكومات بتحقيق مجموعة من الأهداف، منها هدف التنمية المستدامة رقم 3، الذي ينصّ على "ضمان تمتّع الجميع بأنماط عيش صحية وبالرفاهية في جميع الأعمار".


ولكنْ، بالرغم من هذه القوانين الدولية والالتزامات السياساتية، ما زال واقع الصحّة في العالم بعيدًا عن تلك المعايير. ففي حين تشهد البلدان الستّ والأربعين الأقلّ نموًّا بحسب الأمم المتحدة وفاة أكثر من أربعة أطفال من أصل مئة قبل عيد ميلادهم الأوّل، تصل هذه النسبة في الدول المتقدّمة إلى خمسة من بين كلّ ألف طفل، أي ثماني مرّات أقل! فحتى شهر آذار/مارس 2023، لُقِّح أكثر من 80٪ من شعوب بلدان منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي ضد جائحة كوفيد-19، بينما تبلغ هذه النسبة 58٪ في الشرق الأوسط، وبالكاد تصل إلى 37٪ في أفريقيا.i


غير أنّ أداء الدول في مجال الصحّة لا يرتبط حصرًا بمستوى دخلها. ففي العام 2021، تخطّى متوسّط العمر المتوقَّع في شيلي وكوستاريكا وحتّى في سريلانكا التي باتت المفلسة اليوم ذلك الذي سُجِّل في الولايات المتّحدة.ii  وقد حقّقت شيلي وكوستاريكا هذه النتائج عبر إنفاق كلٍّ منهما ما يقارب ألف دولار سنويًا على الفرد الواحد في مجال الصحّة، في حين أنفقت سريلانكا 151 دولارًا أميركيًا على الفرد الواحد في العام 2020. أمّا الولايات المتّحدة فقد سجّلت نتائج متردّية في هذا الإطار بالرغم من إنفاقها 11,702 دولار أميركي على الصحّة للفرد الواحد في العام 2020.


من يتذكّر مبادئ ابن سينا السبعة يدرك جيدًا سبب هذا التناقض. فلا يمكن أن نتوقّع تحقيق نتائج أفضل في مجال الصحّة عبر إنفاق المزيد من المال على الأدوية والمستشفيات، في حين أنّنا نتنشّق هواءً ملوّثًا ونشرب ماءً فاسدًا ونأكل طعامًا قليل التغذية وسيّء الجودة، وفي حين تفقد حياتنا اليومية التوازن بينها وبين الطبيعة. وما يزيد الطين بلّة هو أنّنا استبدلنا الوقاية والرعاية الصحيّة الأوّليّة في ميزانيات قطاع الصحّة خلال العقود الماضية بالعلاجات المُكلفة لأمراض كان في مقدورنا تجنُّبها عبر الغذاء الصحيّ وأسلوب الحياة السليم.


كشفت جائحة كوفيد-19 أوجه القصور في السياسات التي قوّضت خدمات الصحّة العامّة واستبدلتها بمرافق صحّية خاصّة تحت ذريعة زيادة الكفاءة. وبدلاً من دعم الخدمات العامّة، كونها الوسيلة المُعترف بها لضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، زعم البنك الدولي أن النّظم الصحيّة الشاملة للجميع تدعم الأثرياء بشكلٍ غير منصف. ونتيجة الشروط المفروضة من جانب البنك الدولي، باتت خدمات الصحّة والتعليم تبغي تحقيق الربح، بدلاً من أن تكون سلعة عامة مشتركة تُقدَّم لمَن يستطيع تحمُّل كلفتها ومن خلال الدعم "المُركَّز" للفقراء. ومن دون المستوى المناسب من المساءلة، تصبح خدمات الفقراء هذه خدمات متردّية الجودة.


خلال الجائحة، أُثقَلَت النّظم الصحيّة الضعيفة أساسًا بأعباء تفوق طاقتها الاستيعابية، وباتت الكلفة الحقيقية تقع بشكلٍ أساسي على عاتق النساء، اللواتي يشكّلن الأغلبية الساحقة من مقدّمي الرعاية المدفوعة وغير المدفوعة الأجر حول العالم. وأظهرت دراسة حديثة صادرة عن لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي أنّ "الاستثمار في الرعاية الصحيّة ليس ضرورة فحسب، بل إنّه مُجدٍ اقتصاديًا ومستدام". كذلك، يحقّق هذا الاستثمار تأثيرًا مضاعفًا على الاقتصاد، يتخطّى بأشواط ذلك المتأتي عن إنشاء البنى التحتية المادية، فيولّد بالتالي المزيد من العائدات الضريبية والوظائف، وخصوصًا للنساء.iii


لكنّ الشركات لا تنظر إلى الاستثمار في الرعاية والوقاية الصحيّتَيْن كنشاط تجاري مُربِح، حتى عندما يكون مُجديًا من الناحية الاقتصادية، وبالتالي ينبغي تحقيق هذا النوع من الاستثمارات من خلال سياسات عامّة فعّالة. وقد كشفت الجائحة عن فشل الأسواق العالمية بشكلٍ فادح، إذ اتّسعت هوّة عدم المساواة بين الدول، كما يتّضح من التوزيع غير العادل للّقاحات، وضمن الدول نفسها، كما يتبيّن من سقوط غالبية السكان في براثن الفقر تزامنًا مع ارتفاع عدد أصحاب المليارات في كلّ مكان.


يساهم هذا التقرير الصادر ضمن منشورات "الراصد العربي" في النقاش العالمي المستمرّ بشأن السياسات المرتبطة بالصحّة والرعاية، ويكشف عن أوجه القصور المتعدّدة فيها على المستويين الوطني والإقليمي نتيجة التوتّرات المحلية والاتجاهات العالمية. ويشكّل هذا القرير السادس للحقوق الاقتصادية والاجتماعية مصدرًا قيّمًا للمعلومات والتحاليل من إعداد عاملين في قطاع الصحّة وأكاديميين ومنظّمات من المجتمع المدني.


غير أنّ القيمة الأساسية لهذا التقرير تتخطّى محتواه، وتكمن في عملية إعداده. فقد انبثق تقرير الراصد العربي عن سلسلة من الاستشارات وعمليات التشبيك وبناء التحالفات التي أُجريت خلف الكواليس وساهمت في إعداده. وبالتالي، فإنّ النشر العلني للتقرير ليس نقطة النهاية، بل نقطة الانطلاق للاستفادة منه كأداة مناصرة. فمن خلال تعزيز دور المجتمع المدني في مساءلة من هُم في مواقع السلطة والقرار، يساهم هذا التقرير في وضع سياسات أفضل في مجال الصحّة وفي تحويل الحوكمة نحو مسار أكثر ديمقراطية واستقامة.


روبرتو بيسيو
منسّق شبكة Social Watch


يمكنكم الضغط هنا للعودة الى تقرير الراصد العربي ٢٠٢٣ عن الحق في الصحة



مراجع

i  منصّة تتبُّع معدلات التلقيح التابعة لصحيفة "نيويورك تايمز" https://www.nytimes.com/interactive/2021/world/covid-vaccinations-tracker.html.
ii  البنك الدولي، بنك البيانات. https://databank.worldbank.org/source/health-nutrition-and-population-statistics/Type/TABLE/preview/on.
iii  ل. سكورو، س. أليماني، ر. كويلو كريماديس (منسّقون)، "تمويل نظم الرعاية الصحيّة والسياسات في أميركا اللاتينية والبحر الكاريبي: مساهمات من أجل تعافٍ مستدام مع ترسيخ المساواة بين الجنسين" (Financing care systems and policies in Latin America and the Caribbean: contributions for a sustainable recovery with gender equality (LC/TS.2022/134)، سانتياغو، لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية لأميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي (ECLAC) وهيئة الأمم المتحدة للمرأة (UN-Women)، 2022.
https://repositorio.cepal.org/handle/11362/48382.




احدث المنشورات
Dec 07, 2024
النشرة الشهرية لشهر تشرين الثاني/نوفمبر 2024
Dec 03, 2024
الديون السيادية في المنطقة العربية: بين استدامتها وعدالة السياسات الضريبية - أحمد محمد عوض
منشورات ذات صلة
Jan 04, 2023
لمحة عامة عن النظام الصحي في السودان - راوية كمال الدين
Jan 04, 2023
النشرة الشهرية لشهر كانون الاول / ديسمبر 2022