Nov 06, 2024
مأزق النسوية بين التضامن والتشارك - د. عزة الحاج سليمان
عزة الحاج سليمان
استاذة جامعية

الرجاء الضغط هنا لنبذة والمنشورات
عزة الحاج سليمان

مأزق النسوية بين التضامن والتشارك - د. عزة الحاج سليمان


فرضت حرب الابادة التي شنت على غزة، نفسها على الخطاب النضالي في الدول العربية والعالم، وألقت بثقلها على مساءلة الحراك النسوي في مواجهة الظلم على اشكاله المختلفة، وبشكل خاص الظلم الواقع على المرأة الفلسطينية بسبب الاستعمار والاحتلال، ناهيك عن الحروب.



أدت هذه المواجهة الى لحظة وعي لدى النسويات اللواتي اعتقدن ان نمط النضال الذي ساد منذ اتفاقية بيكين، والبرامج التي عُمّمت على شعوب دول العالم الثالث عقب إعلان خطة التنمية المستدامة، هو نضال حرّ يسهم في الوصول الى نهضة متشابكة بين الحراك النسوي الغربي والمحلي. 



كشفت هذه الحرب أن القوانين الدولية وأدوات تطبيقها، التي يفترض أنها وضعت لحماية النساء، انقلبت عليهن. واستخدمت مختلف القوانين الدولية ومعايير المساواة كعنصر من عناصر النزاع، وتفعّلت لمصلحة الدول التي وضعتها وشركائها بعيداً عن مصلحة الشعوب.  وما التماس المناضلات العربيات على أثر الإبادة لازدواجية المعايير في تطبيق القانون الدولي إلا دليل على كيفية استخدام القوانين في مواجهة الحقوق المنشودة للشعب الفلسطيني. كما أظهرت هذه المحطة التاريخية المفصلية دوراً أساسياً للمرأة الفلسطينية في مواجهة الاحتلال والإبادة ومحاولات طمس الهوية، وذلك من خلال دورها الإنجابي والرعائي، فكانت المرأة الولادة هي النموذج الذي يعكس الإصرار على استمرار الوجود على هذه الأرض. وما الادوار الرعائية التي قامت بها، سواء داخل الأسرة أو في المراكز الصحية أو المؤسسات التربوية، إلا الآلية التي اعتمدت طوال القرن الماضي للاستمرار والمحافظة على الهوية رغم كل محاولات طمسها في البرامج الدولية والسلطوية المحلية. كما برزت أهمية الثقافة الدينية في قدرتها على الصمود أمام آلة الحرب الصهيونية المستمرة منذ قرن. تتزامن هذه المرحلة مع تحولات دولية وعالمية على مستوى إدارة المجتمعات وتنميتها، وعلى مستوى أدوات الحكم كنموذج "مستحدث" للديمقراطية المعولمة، ومن أهم أدوات هذا الحكم القواعد القانونية. 


من أجل فهم هذه الأزمة يتوجب علينا قراءة مسار العمل النسوي في بعده القانوني والحقوقي، ضمن سياق تحول السياسات الدولية. 


استفادت الحركة النسوية في تلك المرحلة من الحراك الاجتماعي في ثورة 68 لتحقيق إنجازات وحقوق نسوية ذات الطبيعة الفردية تمثلت بحق المرأة على جسدها، ما أدى إلى انقسام النسويات بين من يعتبرها جزءاً من الانجازات الليبرالية الفردية ومن أصر على ربطها بالنضال الاجتماعي الاقتصادي المرتبط بالحركة العمالية. لم يشكل هذا الانقسام عائقاً أمام نجاح النسويات من تحقيق إنجازات مهمة للنساء على مستوى المواطنة، مستفيدة من الضمانات المكفولة حينها ضمن دولة الرعاية. 



سار التوجه العالمي، مع سقوط النظام الشيوعي، في مرحلة العولمة والنيوليبرالية، نحو المزيد من الحريات الفردية التجارية وضعف النضال الجماعي. وتزامن ذلك مع تبني الحراك النسوي، الدور الانتاجي المتميز بخصائص الرعاية النسائية بدلاً من الإنجابي، وارتضت بموجبه إدخال النساء كعنصر من عناصر السوق. 



شكلت هذه المرحلة تحديا إضافيا للحركة النسوية، تضافرت الجهود العالمية  للبحث عن قضية جامعة للتيارات النسوية المختلفة، وكانت اتفاقية سيداو ركيزة لتحديد توجه موحد، من خلال وضع معايير شاملة لمواجهة الظلم والقمع. يعاب على النسوية العربية أن انخرطت في هذا الخطاب دون نقده أو تفكيكه، إذ ارتبطت الأدبيات المستخدمة بالمعايير المحددة في الوصفة المنبثقة عن النموذج "الحضاري الغربي". وعُمم الخطاب ضمن مقاربة شمولية لا تقارب تحديات الشعوب الخاضعة للاحتلال والساعية للتحرر إلا من منظار رفض القواعد الاجتماعية التقليدية والدينية من منطلق طبيعتها الذكورية.



نبني هذا الخلل على الملاحظات التالية:


يتميز البعد النيوليبرالي في طبيعته المبنية على الحريات القصوى وفي طليعتها الحريات التجارية ومواجهة الضوابط القانونية المحلية ذات الطبيعة الحمائية. فقد القانون قوته الردعية بفعل ثقافة الحريات المتزادية، دخلت الحماية الاجتماعية ضمن ما عرف بالقواعد اللينة لتحقيق التنمية المستدامة. هذه القواعد تجد جذورها بالتوصيات نحو اعتماد قرارات أخلاقية ذاتية، أو نحو قواعد اتفاقية تفترض التوازن بين الأطراف المتوافقة، وهي المنطلق الذي تفتقده الفئات المهمشة. 


توجه النضال نحو مواجهة الظلم الصادر عن سلطات الدولة، وبشكل خاص تلك التي لا تتمتع بوصفة الديمقراطية. واستفادت الحركة النسائية من أطر الحرية الفردية فحققت نجاحات فردية، بينما خسرت النساء باعتبارهن فئة اجتماعية ضعيفة الضمانات التي كانت محققة ضمن ما عرف بالنظام العام الاجتماعي. نشأ شرخ بين فئات النساء المستفيدات من الحريات الفردية، وتلك اللواتي يعشن في واقع مهمش، ووجدن في القواعد الدينية حاميا، باعتبارها أحد مصادر القواعد الأخلاقية. 

وازدادت الانقسامات والصراعات بين حقوق فئات مختلفة من النساء من جهة، وبين حقوق 

النساء والقوانين المحلية من جهة ثانية. 


نادى النضال النسوي بمأسسة العمل النسوي وإدخال نون النسوة في النصوص القانونية، دون أن تشكل هذه النصوص حماية حقيقية مع التغيرات في الواقع الاقتصادي والاجتماعي. ومع توسيع قضايا الجندر أصبحت الفئات الاجتماعية أكثر تقسيماً. كل ذلك، في وقت تخضع نظرية القانون الوضعي بطبيعته المكتوبة للنقد على مستوى العالم، باعتبارها قواعد شكلية-رسمية ضعفت فاعليتها الحقيقية المرجوّة منها. 

تبنّت النسويات مبادئ الحوكمة، النموذج المعاصر للديمقراطية المنبثق بدوره عن نظام إدارة المشاريع الاقتصادية الكبرى. ومع اعتماد الحوكمة التشاركية أصبحت النساء طرفاً معنياً في المشاركة وهو شكل من الأدوار السياسية الحديثة. وتحولت المطالبات من المساواة في الحقوق والواجبات إلى كوتا عددية ضمن المؤشرات الرقمية المرتبطة بالحوكمة. وأصبحت إنجازات الحركة النسوية مرتبطة بتقاسم المراكز عددياً على أسس لا تخدم بالضرورة غايات النضال النسوي المحلي. ارتبطت هذه المقاربة وهذا الواقع بما عرف بالجدوى الاقتصادية دون الجدوى الاجتماعية، وتحول القانون من راعٍ اجتماعي إلى عنصر في الانتاج ضمن نظرية اقتصاد القانون. 

في مرحلة العولمة والنيوليبرالية، لم يعد ينحصر الحاكم بسلطات الدولة المحلية إنما بمنظومة حكم دولية تتشابك فيها مصالح القرار السياسي العالمي بالمصالح الاقتصادية العالمية وتنعكس بالضرورة على المصالح المحلية السياسية والشخصية. لا يغيب عن بالنا أن تمويل منظمات المجتمع المدني المحلي يأتي من جهتين: الجهات نفسها التي تعمم برامج دولية تحت شعار التنمية، أو المصالح الاقتصادية العالمية تحت شعار مسؤوليتها الاجتماعية. وفي كلا الحالتين تتواءم هذه المرجعيات في السيطرة على أداء الحراك النسوي، في برامجها وشروط التمويل الموجهة لنشاط المجتمع المدني العربي. 

تبنت المنظمات النسوية البرامج المطروحة وفقاً لأجندة المموّلين الداعمين للحراك "الديمقراطي" وعممت هذه المفاهيم في خطابها العام كنموذج للحرية والديمقراطية، دون أن تدرك أن المرجعيات السلطوية المالية والدولية المعولمة هي ايضاً شرسة بذكوريتها. وعندما رفعت النسويات العربيات الصوت ضد الجرائم التي ترتكب بحق المدنيين والمدنيات في قطاع غزة، كجزء من نضالهن لمناهظة الظلم، هددت هذه المصادر بحجب التمويل عن الناشطات وكان ذلك استمراراً لنمط الشروط المفروضة في برامجها. لم تكن ترى النسويات في هذه المرجعيات سلطة ذكورية، إلى أن فوجدن أنفسهن مشلولات في أدائهن وحريتهن أمام أزمة متعددة الأبعاد والأطراف.  

بين لعبة الأرقام والقوانين، وتصارع الحقوق المتنافسة، وضوابط المصالح وحرياتها، والحاجة للحماية ورفض أدواتها، غرقت النسويات في فخ النيوليبرالية التسويقية بعيداً عن النضال الاجتماعي. 

عكست هذه الإبادة تحت مرأى العالم أن المنظمات الأممية، الرسمية والاقتصادية، تعلن ما لا تضمر. وكشفت الحرب أن الأدوات القانونية والمؤسسية الحديثة - كركائز للديمقراطية- ما هي إلا أدوات لتثبيت النيوليبرالية وفرض معايير الحرية بعيداً عن التحرر. إذ روّجت برامج التوعية مبادئ الحريات الفردية وفقاً للنموذج الليبرالي الغربي، بحجة الحقوق المشروعة في مواجهة القوانين الظالمة، وارتضت المناضلات بشكلية التمثيل بدل فاعليته. وقعت النسويات أمام معضلة الأدبيات نفسها عندما تبنت المنظمات الأممية "الحق المشروع" للاسرائيلي بالدفاع عن النفس رغم وجود القانون، واعتمدت هذه المنظمات على شكلية المشاركة التمثيلية للمصالح العربية النسوية في القرار الدولي. وهو النموذج الذي تبنته النسويات في خياراتهن ونضالاتهن . اختلطت الأوراق بين الانقسامات التقليدية في التيارات النسوية التي وجدت نفسها أمام معيار فاصلاً للنضال يفرض أحد الخيارين: الاستعماري أوالتحرري. 

قدم صمود المرأة الفلسطينية ودورها المستدام لما يقارب القرن في مواجهة الاضطهاد العسكري والثقافي والسياسي والتجاهل القانوني، نموذجاً من العمل النسوي التحرري. واصبح لزاما على النسويات تحديد بوصلة نضالاتهن ومعايير شراكاتهن، هل هو تضامني نحو التحرر أو تشاركي نحو المزيد من الاستهلاك. 



احدث المنشورات
Nov 11, 2024
منطقة مشتعلة - العدد ٤٦
Nov 10, 2024
منطقة مشتعلة - العدد ٤٥