Nov 17, 2025
في رمزية تعيين أول رئيسة حكومة عربية في تونس - اعتدال مجبري

في رمزية تعيين أول رئيسة حكومة عربية في تونس


لم يعد ممكنا اليوم في تونس مقاربة المشاركة السياسية للنساء بأدوات التحليل التقليدية التي اعتدناها في التطرّق إلى هذه المواضيع لأسباب عديدة.


كما لم تعد مقارنة فترة 2011-2021 بالفترة التي تليها بعد إجراءات الرئيس التونسي الاستثنائية ممكنا، ذلك أن قيس سعيد يعد حسب ملاحظين كثر، خارج التصنيفات السياسية والايديولوجية وحتى الإجرائية. فهو يجسد مفارقة تستوجب التوقف عندها وتحليلها بعمق لجهة الشعبية التي يحظى بها والتي جسدتها نتائج الانتخابات التي تصدرها ببون شاسع بينه وبين بقية المترشحين والمترشحات من ناحية، واستبشار نسبة كبيرة من الشعب بالإجراءات التي اتخذها يوم 25 يوليو 2021، لتركيز السلطات بيده، طبعا مقابل رفض واسع من معظم الكتل البرلمانية آنذاك من ناحية أخرى.


لم تلتقط الساحة السياسية، حكما ومعارضة كما منظمات المجتمع الفاعلة آنذاك، اللحظة التي وصفها الرئيس نفسه ومناصروه بالتاريخية أو المفصلية، ولا ما تلاها من إجراءات ألغت في مجملها مؤسسات الانتقال الديمقراطي والتشريعات والإجراءات ومن ضمنها، كل ما سعت الحركة الحقوقية والنسائية إرساءه لفائدة دعم وصول المرأة التونسية إلى الهيئات الانتخابية ومواقع صنع القرار...


ولئن حققت التونسيات تقدّما في الهيئات التمثيلية في الفترة الفاصلة بين 2011-2021 إلاّ أن الحكومات المتعاقبة آنذاك، لم تكرّس إرادة سياسية تقطع مع التمثيلية التقليدية للمرأة صلبها إلا نادرا. فما عدا بعض التنوع في الحقائب الوزارية، لم تعبّر أي حكومة خطابا أو إجراء فعليا على موقع متميّز للمرأة التونسية ضمن التوافقات التي طبعت الجدل السياسي والحكم في تلك الفترة...


وأتت إجراءات 2021 "لترمي" بكل ما عملت منظمات المجتمع المدني جاهدة على تحقيقه في حلقة غموض في مرحلة أولى ثم حلقة ضبابية في مرحلة ثانية إلى أن اتخذ رئيس الجمهورية قرار تعيين أول رئيسة حكومة في تونس والعالم العربي "نجلاء بودن".


لم تكن نجلاء بودن وجها سياسيا مألوفا ولا وجها جمعياتيا معروفا، بل إنها جامعية وابنة الإدارة التونسية، التي تعجّ بالكفاءات النسائية التي قليلا ما تبرز في واجهة أحداث الشأن العام وفي ذلك رمزية هامة في التفتيش عن كفاءات "مخفية".


وحيث ندرك أن للانطباعات الأولى حول أي فاعل سياسي هي من الأهمية بمكان، فقد حظيت نجلاء بودن أول تعيينها بمقبولية دونما احترازات تذكر. هي امرأة، ظاهريا رصينة وأنيقة وفي تصرفاتها رقي واضح...


صورة تونس الناطقة

علّقت نسبة كبيرة من المواطنين عليها آمالا ترتبط بالأساس بصورة تونس، في أن تكون رئيسة حكومتها امرأة "تشرف مظهرا وخطابا"، من ذلك احتفاؤهم بها كلما انتقلت خاصة في زيارات خارج البلد فهي التي تذكرهم بأنجيلا ميركل وهيلاري كلينتون وبالتالي، تضع تونس في مصاف الدول المتقدمة. كان مناصرو الرئيس سعيد يعرفون، بل يحتفون به رئيسا جمع بيده كل السلطات ليقطع مع عشرية ملؤها تمظهرا – مظهرا لا فعلا.


ونطقت بودن بالإنجليزية لدعم ملف ترشح بلال الجموسي لمنصب مدير مكتب التقييس والاتصالات بالاتحاد الدولي للاتصالات وخلال مؤتمر دافوس، ونطقت أيضا عربيا في افتتاح المنتدى الاقليمي حول الزراعة بين القطاع العام والقطاع الخاص في منطقة شمال افريقيا لتحقيق تنمية مستدامة وشاملة"، وكذلك منتدى الإدارة العربية، على هامش القمة العالمية للمعلومات بدبي"، فأقنعت وأبلت البلاء الحسن حسب الملاحظين.


واحتفى التونسيون بخطابها في باريس باللغة الفرنسية خلال انعقاد مؤتمر ريادة الأعمال خاصة عندما أكدت احتضان تونس للقمة الفرنكوفونية في رد على التشكيك الذي طال تونس في تلك الفترة ونشر إشاعات على سحب استضافة تونس لها. كان خطابها استراتيجيا، رصينا وفي صلب موضوع المؤتمر مدعاة لفخر التونسيين والتونسيات خاصة أنها ختمت بعبارة "إلى اللقاء في جربة نوفمبر القادم بمناسبة القمة الفرنكوفونية"، وفي ذلك إشارة رأى فيها الملاحظون ذكاء ورقي في رد على موجة تشكيك وإشاعات سحب التنظيم من تونس بعد أن تأجل عقدها، وهو في أبجديات تحليل الخطاب كذلك.


فخر التونسيون بها تجسد أيضا عندما تحدثت باليابانية خلال لقائها مع السفير الياباني بتونس وكلمتها خلال استقبال رسمي لوفود ندوة طوكيو للتنمية في أفريقيا.


وتحركت رئيسة الحكومة ميدانيا بصفة مختلف عمن سبقها في ذات المنصب. فهي التي أفطرت شهر رمضان في مؤسسة رعاية كبار السن وشاركت أطفال "س و س" فرحة العيد وشاهدناها في صفوف قوات الأمن ليلة رأس السنة ومع الاتحاد العام التونسي للشغل بمناسبة العيد العالمي للعمال وفي اجتماع مع رئيسات البعثات الديبلوماسية وممثلات المنظمات الدولية المعتمدة بتونس والمديرات العامات ورئيسات الهياكل الإدارية التابعة لرئاسة الحكومة...


وطبيعي جدا أن يصل الاحتفاء بها حد تأجيل الحكم لها أو عليها ذلك فترة تعيينها كانت تعبر بالنسبة إلى نسبة لا يستهان بها من الشعب التونسي قطعا مع ما سماها رئيس الدولة ومناصروه بالعشرية السوداء.


رئيسة حكومة التونسيين الصامتة

بقيت نجلاء بودن رئيسة للحكومة أو "مكلفة بإدارتها" قرابة السنتين تضم 24 وزيرا من ضمنهم 10 وزيرات قامت باقتراحهم على رئيس الجمهورية الذي عينهم. وعرفت تشكيلة الحكومة التي ترأستها نجلاء بودن إقالات عديدة رآها المتابعون للشأن العام التونسي قرارات مباشرة من رئيس الدولة.


وصحيح أن رئيسة الحكومة عينت في فترة واجهت خلالها تحديات كبيرة تمثلت في الأزمات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي عاشتها تونس خلال فترة حكمها وأخرى تتعلق بإبرام اتفاق نهائي مع صندوق النقد الدولي، وتراجع في التصنيف الائتماني لتونس، غير أن ذلك لم يشفع لها وواجهت نقدا وانتقادا من ملاحظين ومعارضي الرئيس.


ومهما يكن من أمر الإحصاءات والمعطيات على أهميتها، ورغم كسر تونس بتعيينها على رأس الحكومة، حاجزاً تاريخياً بكونها أول امرأة تتولى رئاسة الحكومة في تونس، وصفت نجلاء بودن "بالصامتة" إذ أنها لم تتوجه يوما بخطاب إلى الشعب التونسي كما أنها لم تشكل استثناء في اجتماعاتها برئيس الدولة في أن تقدم "منصتة" لتوجيهاته دائما وأبدا. فقد جرت العادة أن يبرز الرئيس متحدثا مقابل وزراء منصتين لا يتفوهون بكلمة.


ووصفت أيضا "بالطيبة" في مقال، تعرض كاتبه لمساءلة قانونية بعد أن عدد إخفاقات حكومتها اقتصاديا واجتماعيا، كما وردت في شأنها أوصاف مثل "المديرة التنفيذية للحكومة" و"رئيسة حكومة الرئيس"...فهل ظلم الرئيس قيس سعيد نجلاء بودن حين عينها؟


الإجابة الفورية : قطعا لا فقيس سعيد ولئن أكّد أن عهد تكليف امرأة لأول مرة بهذا المنصب في تونس هو شرف للمرأة التونسية أن ورود هذه الخطوة "يصنع التاريخ" إلا أنه شدد على ضرورة الانضباط والالتزام بخيارات الدولة، فلا يمكن حسب قوله « لأي وزير أن يتصرف خارج السياسة التي يضبطها رئيس الدولة، وأن الانسجام مطلوب بين أعضاء الحكومة». ولئن صرح أيضا عند تشكيل الحكومة، «المرأة التونسية ليست أداة تجميل»، فإن العلاقة الأفقية بينه وبين رئيسة الحكومة والتي كانت تبرز اتصاليا في صفحة الرئاسة، لا تحيل إلى امرأة فاعلة تستنبط الحلول من خارج توجيهات الرئيس وقراراته بما في ذلك تقييم الوزراء وعزلهم وإجراء تحويرات وزارية.


الشعب يريد أو أنه لا يريد

وفي ذلك انسجام مع مواقفه السابقة. فالرئيس قيس سعيد لم يحمل معه وعودا بالنهوض بأوضاع المرأة سياسيا، بل إنه أكد خلال المناظرات السياسية التي جمعت بينه وبين مختلف المترشحين للانتخابات الرئاسية في دورتيها الأولى والثانية أن "الدساتير والمعاهدات الدولية وجدت لكنها لم تؤدي إلى شيء" رافضا "البناء المركزي كأنها منة من الحاكم" وأنه يحمل "أمانة شعب"...ذلك "الشعب الذي يعرف ما يريد شرط تمكينه من الآليات والأدوات التي ترتقي بمطالبه إلى مستوى القرارات"...


فهل يعني ما سبق أن الشعب التونسي لا يتطلع إلى مشاركة أفضل للنساء في المجال السياسي أو أن المسألة لا تعد أولوية بالنسبة إليه؟ إن نعم ماذا يمسي دور الفاعل الأساسي في الشأن التونسي في هذا الخصوص؟


عدل قيس سعيد نظام الاقتراع الانتخابي فألغي بذلك مبدأ المناصفة الأفقية في رئاسة القائمات لتتراجع نسبة تمثيلية النساء من 31 بالمائة في مجلس نواب الشعب لسنة 2014 إلى 16.2 بالمائة في البرلمان الحالي رغم أن نسبة الناخِبات اللواتي صوّتن له تُقدّر بـ 90.4 ٪ من النساء اللواتي صوّتْن، مقارنة بـ 88.3 ٪ من الرجال...


وجمع رئيس الجمهورية جل السلطات وبات من غير الممكن أن نرى رئيس أو رئيسة حكومة مختلفة عن بقية الوزراء مساهمة في تصور خيارات الدولة ومقدمة لحلول لمختلف الوضعيات ومتفردة بمقام محدد ما جعل التونسيات بالخصوص وبعد تجارب متعددة، يتفكرن في المسألة بشكل مختلف وفق معطيين اثنين. هل ستبقى فاعلية المرأة السياسة-وليس تعيينها في أعلى المناصب، فذلك حصل في تونس- هل تبقى مرتهنة بنظام الحكم السياسي القائم وليس كما عهدنه بإرادة سياسية تدفع بالمرأة في واجهة حكم تسلطيا؟. ويتمثل المعطى الثاني في مدى فعالية مشاركة المرأة السياسية في قلب التحولات السياسية التي ما فتئت تونس تشهدها منذ سنة 2011 بحزام الحركة الحقوقية والنسائية تضغط لإحداث آليات تضمن آليا وصولها إلى صنع القرار الفاعل.


التجربة التونسية أثبتت أن لا هذا المعطى ولا ذاك كرس نجاعة المشاركة السياسية الفعالة ما يستوجب تحاليل أعمق ودراسة أنجع في تجربة تونسية استنبطت مختلف الحلول لتبقى المشاركة الفعلية للنساء دون المستوى المأمول عددا ومناصب.


احدث المنشورات
Nov 17, 2025
التضامن النسوي: دعوة إلى النقاش - منار زعيتر
Nov 12, 2025
العدالة والإنصاف وجبر الضرر في قضايا العنف الجنسي: مقاربة حقوقية نسوية - مي صالح