Nov 17, 2025
صمود المرأة الفلسطينية في غزة - سحر ياغي
المرأة الفلسطينية في غزة

المرأة الفلسطينية في غزة: صمود في مواجهة حرب الإبادة - سحر ياغي


في خيمة مهترئة على اطراف رفح، تجلس أم لأربعة اطفال امام موقد بدائي. كانت قبل عامين فقط تختار لون ستائر بيتها، وتخطط لعيد ميلاد صغير لابنتها الكبرى التي تتم عامها العاشر. اليوم تحصي بدل ذلك عدد المرات التي نجوا فيها من الموت، وعدد الاسماء التي تحولت في دفتر هاتفها الى جملة قصيرة: "استشهدت مع اهلها".

هذه الام ليست حالة استثنائية في غزة، بل وجه من وجوه آلاف النساء اللواتي انقلبت حياتهن في لحظات. صارت الخيمة عنوانا دائما، والماء رحلة يومية، والخبز معركة، وهدوء الاطفال قبل النوم انجازا اصعب من النجاة من القصف. بين انقاض بيت ضاع، وذكريات صور لم تعد موجودة الا في الذاكرة، تقف المرأة الغزية كل صباح لتعيد اختراع معنى الامومة والحياة تحت حرب ابادة معلنة.

لم تعد المرأة في غزة تختار شكل حياتها منذ السابع من اكتوبر 2023. صارت تستيقظ على صوت القصف لا على صوت ابنائها، تحمل خيمتها بدل بيتها، وتحصي الغائبين اكثر مما تحصي الاحياء. في خيمة مكتظة او على ركام منزل مهدم، تقف نساء كثيرات بين دورين قاسيين في آن واحد: ناجيات من حرب ابادة، وحارسات للحياة في ادق تفاصيلها، من رغيف الخبز حتى الدواء النادر وتهدئة خوف الاطفال ليلا.

هذه المعاناة ليست عرضا جانبيا للحرب، بل هي في قلب همجية العنف الاسرائيلي المستمر على قطاع غزة منذ السابع من اكتوبر 2023. قصف متواصل استهدف المنازل والمستشفيات والمدارس والملاجئ والمؤسسات الحكومية، وحاول دفع السكان الى النزوح المتكرر والتهجير القسري، مستخدما اعتى الاسلحة لتوسيع دائرة القتل والدمار. في قلب كل هذا، كانت المرأة الغزية تدفع ثمنا مضاعفا لكل دقيقة تعيشها تحت القصف والحصار، بوصفها امّا ومعيلة وناجية وشاهدة في الوقت نفسه.


اولا: الخسائر البشرية والاثر المباشر للحرب

وفقا لبيانات وزارة الصحة الفلسطينية في غزة، قتلت اكثر من 28 الف امرأة وفتاة منذ بداية الحرب حتى نهاية عام 2024. هذا الرقم المهول يعكس حجم الاستهداف الممنهج للمدنيين، حيث شكلت النساء والاطفال نحو 70 بالمئة من اجمالي الضحايا حسب تقارير الامم المتحدة.

اضافة الى القتلى، اصبحت اكثر من 16 الف امرأة ارملة بعد فقدان ازواجهن، وتحمّلن مسؤولية اعالة اسرهن في ظروف اقتصادية وانسانية بالغة الصعوبة. كما ان نحو 70 بالمئة من الجرحى، البالغ عددهم اكثر من 96 الف شخص حسب بيانات وزارة الصحة الفلسطينية، هم من النساء والفتيات، كثيرات منهن يعانين من اعاقات دائمة وبتر للاطراف.

هناك ايضا عدد غير معروف من النساء اللواتي اعتقلن عبر الحواجز العسكرية او من داخل منازلهن اثناء الاقتحامات. بعضهن افرج عنهن، لكن مصير الكثيرات ما يزال مجهولا، سواء كن قيد الاعتقال او قتلن ودفنّ في مقابر جماعية وفق تقارير منظمات حقوق الانسان.


ثانيا: الواقع الانساني وظروف الحياة اليومية

حرمت النساء من منازلهن وفرض عليهن النزوح القسري مرات عدة، وصلت في بعض الحالات الى اكثر من عشر مرات، كما وثق مكتب الامم المتحدة لتنسيق الشؤون الانسانية. تحولت الخيمة الى بيت ومطبخ وغرفة نوم في آن واحد، يعيش فيها افراد الاسرة كلهم معا، واحيانا اكثر من عائلة في خيمة واحدة.

هذا الواقع يمثل انتهاكا صارخا للخصوصية والكرامة، خاصة للنساء اللواتي فقدن ازواجهن ويعشن وحدهن مع الاطفال. اصبحت مسؤولياتهن مضاعفة: توفير المياه من اماكن بعيدة، ان توفرت، وتأمين الطعام في ظل عملية تجويع ممنهجة وحصار مشدد. منعت سلطات الاحتلال دخول المواد الغذائية لفترات طويلة، ومنعت غاز الطهي، ما اضطر النساء لاستخدام بدائل خطرة على الصحة.

منذ ما يقارب عاما كاملا، تطهو كثير من النساء في غزة الطعام على الحطب او باستخدام مواد بديلة مثل السيرج ومشتقات السولار، وهي ممارسات تسببت في امراض تنفسية وحساسية جلدية لهن ولأطفالهن، كما تشير تقارير منظمة الصحة العالمية.


ثالثا: انهيار المنظومة الصحية وتأثيره على النساء

استهدفت قوات الاحتلال 722 منشأة صحية شملت مستشفيات ومراكز صحية اولية وعيادات وصيدليات، وفق بيانات وزارة الصحة الفلسطينية؛ اي ان 94 بالمئة تقريبا من المنظومة الصحية دمرت كليا او تضررت بشكل كبير. من اصل 36 مستشفى في قطاع غزة، لا يعمل حاليا سوى 19 مستشفى بطاقة محدودة جدا، تفتقر الى الكوادر المتخصصة والاجهزة والادوية والاسرة.

هذا التدمير الواسع ادى الى تعطيل اقسام كاملة حساسة للنساء، مثل اقسام الولادة والعناية المركزة لحديثي الولادة. فقدت آلاف النساء الحوامل، ويقدر عددهن بأكثر من 50 الف امرأة بحسب تقديرات صندوق الامم المتحدة للسكان، امكانية المتابعة الطبية المنتظمة والفحوصات الضرورية، ما ضاعف المخاطر على صحتهن، ورفع معدلات الاجهاض ووفيات الامهات والمواليد بشكل حاد مقارنة بما قبل الحرب.

في حالات موثقة، اضطر اطباء لإجراء عمليات قيصرية دون تخدير كامل بسبب نقص الادوية والمستلزمات الطبية. كما هدد نقص الادوية وعدم القدرة على الوصول الى العلاج حياة كثيرات من مريضات السرطان والسكري والضغط، والنساء اللواتي يحتجن الى غسيل كلى او علاجات مزمنة اخرى.


رابعا: الاثر النفسي والاجتماعي والعنف القائم على النوع الاجتماعي

العيش تحت القصف المستمر، والنزوح المتكرر، وفقدان المنزل والاهل، كلها عوامل راكمت ضغوطا نفسية غير مسبوقة على النساء. كثيرات فقدن البيت والمأوى والزوج والابناء والاقارب في فترة زمنية قصيرة. تم اقتلاعهن من بيئتهن الاجتماعية وامنهن اليومي، ووجدن انفسهن في اماكن غريبة مكتظة، بلا خصوصية ولا بنية دعم مجتمعي مستقرة.

غابت رعاية الاهل والاقارب بسبب التشتت الجغرافي، واشتدت وطأة الجوع والحاجة. فقدت النساء خصوصيتهن ومساحاتهن الامنة، وابتعدن عن مراكز الخدمات الاساسية، ما ضاعف من الجهد المطلوب للحصول على العلاج او التعليم او المساعدة، وترك اثرا عميقا على صحتهن النفسية والاجتماعية.

في هذا السياق، برزت ظاهرة تزويج القاصرات بوصفها احد اشكال العنف المبني على النوع الاجتماعي. اليأس والفقر والخوف دفع بعض العائلات الى تزويج بناتهن في سن مبكرة، وهو ما رصدته منظمات حقوقية محلية ودولية. وقبل الحرب الحالية، كانت دراسات لصندوق الامم المتحدة للسكان تشير الى ان ثلاثا من كل عشر نساء في غزة، ممن تتراوح اعمارهن بين 20 و49 عاما، قد تزوجن قبل سن الثامنة عشرة، وهي نسبة اعلى من متوسط الضفة الغربية.

ومع الحرب، تؤكد تقارير اممية حديثة ان تفاقم الفقر والنزوح وانهيار منظومات الحماية المجتمعية زاد من مخاطر زواج القاصرات والعنف الاسري ضد الفتيات.

هذا الواقع يهدد حياة الفتيات مستقبلا، ويعرضهن للأمراض ومضاعفات الحمل والانجاب المبكر، ويقوض فرصهن في التعليم والعمل، ويكرس دائرة عنف وفقر ممتدة.

في الوقت نفسه، ادت الحرب الى اضعاف شديد للخدمات المؤسسية. تعطل عمل كثير من المؤسسات الحكومية ووكالة الاونروا، فتقلصت قدرة النساء على الوصول الى الخدمات الصحية والاجتماعية. حاولت مؤسسات محلية ونسوية سد جزء من الفجوة عبر تقديم الدعم النفسي والاجتماعي، وخدمات الصحة الانجابية، وحقائب الكرامة، والمساعدات النقدية، وبرامج تمكين اقتصادي محدودة. لكن هذه التدخلات تبقى اقل بكثير من حجم الاحتياج المتزايد.


خامسا: المرأة في القانون الدولي الانساني

حرب الابادة التي شنها الاحتلال عرّضت حياة النساء لخطر مباشر ومتواصل، في تناقض صارخ مع القوانين والاعراف الدولية. يمثّل الاعتداء على النساء في النزاعات المسلحة جريمة حرب مكتملة الاركان وانتهاكا واضحا للقانون الدولي الانساني.

تنص اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949 والبروتوكولان الاضافيان لعام 1977 واتفاقية لاهاي لعام 1954 على حماية خاصة للنساء في اوقات الحرب. كما يمنح قرار مجلس الامن رقم 1325 المتعلق بالمرأة والسلام والامن، النساء حماية اضافية ويؤكد دورهن في عمليات السلام وبناء ما بعد النزاع.

تشير المادة 27 من اتفاقية جنيف الرابعة الى ان للأشخاص المحميين في جميع الاحوال حق الاحترام لأشخاصهم وشرفهم وحقوقهم العائلية وعقائدهم الدينية وعاداتهم وتقاليدهم، ووجوب حمايتهم من كل اشكال العنف او التهديد. كما تنص المادة 14 على ضرورة انشاء مناطق ومواقع استشفاء وامان لحماية الجرحى والمرضى والعجزة والمسنين والاطفال دون الخامسة عشرة والحوامل وامهات الاطفال دون السابعة.


سادسا: صمود النساء ومعنى الشهادة على الجريمة

رغم كل هذا القدر من المعاناة، تحولت المرأة الغزية من ضحية صامتة الى رمز حي للصمود والارادة. تشبثت بما تبقى من بيت واسرة وابناء، ووقفت في الصفوف الاولى لتأمين الحد الادنى من مقومات الحياة. تعمل بلا توقف لتوفير الماء والغذاء والدواء، وتضبط ايقاع الحياة في الخيمة او بين الانقاض، وتحاول حماية السلم الاهلي داخل مجتمع ينهكه الحصار والحرب.

المرأة الفلسطينية في غزة ليست رقما في سجلات الضحايا، بل شاهدة على قوة الارادة الانسانية امام حرب ابادة معلنة. في كل خيمة، وفي كل طابور للماء، وفي كل محاولة لإعادة ترتيب الحياة من تحت الركام، تعيد النساء تعريف معنى البقاء. صمودهن شهادة للأجيال على ان الانسانية لا تُهزم مهما اشتدت المحن، وان الحياة اقوى من الموت، وان الامل، برغم كل شيء، يظل امسكا خيطا رفيعا في يد امرأة تصر على حماية بيتها واطفالها وقصتها.



احدث المنشورات
Nov 17, 2025
التضامن النسوي: دعوة إلى النقاش - منار زعيتر
Nov 17, 2025
في رمزية تعيين أول رئيسة حكومة عربية في تونس - اعتدال مجبري