دولة واحدة أو دولتان وتعقيدات الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي - عزت عبد الهادي
الإشكال الذي يطرحه هذا المقال يتمثل فيما لو كان حلّ الدولتين: "دولة فلسطين مستقلة وذات سيادة تعيش جنباً الى جنب دولة إسرائيل في حدود الرابع من حزيران للعام 1967" لا يزال ممكناً؟
وفي حال أصبح هذا الحلّ غير ممكن، هل يشكل حلّ الدولة الواحدة، حلاً ممكناً وواقعياً للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي؟ أم على الفلسطينيين تبني مقاربات جديدة لحل هذا الصراع؟
الإطار العام لحلّ الدولتين، وبالتالي الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي، اتفق عليه منذ فترة طويلة وخلال مفاوضات شاقة بين الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني ولمدة تزيد على الثلاثين عاماً.
فقد شكل مؤتمر مدريد للسلام الذي عقد في العام 1992 الإجماع الدولي حول حلّ الدولتين والأسس القانونية لهذا الحل وخاصة القرار 242 الذي "يؤكد أن تنفيذ الميثاق الذي يتطلب إقامة سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط" يجب أن يشمل تطبيق مبدئين:
1. انسحاب القوات الإسرائيلية المسلحة من الأراضي التي احتلت خلال النزاع الأخير.
2. إنهاء كل حالات الحرب والمطالب المتعلقة بها واحترام السيادة ووحدة الأراضي والاستقلال السياسي لكل دولة في المنطقة والاعتراف بها، بالإضافة الى حقها بالعيش بسلام ضمن حدود آمنة ومعترف بها دون تهديدات أو استخدام القوة.
كما يؤكد القرار على إيجاد حلّ عادل لمشكلة اللاجئين.
إضافة الى هذه المرجعية القانونية، شكلت قرارات مجلس الأمن المتعاقبة والجمعية العامة للأمم المتحدة وخاصة قراري مجلس الأمن 476، 478 حول عدم قانونية ضم إسرائيل للقدس الشرقية والقرار 2334، الذي اعتبر المستوطنات انتهاكا فاضحا للقانون الدولي وفق اتفاقية جنيف الرابعة وغيرها من مبادئ القانون الدولي، مرجعيات أخرى. كما تبنت مبادرة السلام العربية حلّ الدولتين، وأكد على هذه المرجعيات البرنامج الوطني الفلسطيني في العام 1988 والذي تضمن حق تقرير المصير للفلسطينيين في دولة مستقلة وذات سيادة على أساس حدود العام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، مع حق العودة للاجئين.
في هذا السياق، يصبح حلّ الدولتين ذو مضمون فارغ إذا لم يترافق مع إيجاد حلول واقعية للعديد من المسائل الجوهرية المتعلقة بهذا الحل، وخاصة قضايا القدس واللاجئين والمستوطنات والحدود والمياه والامن، وهي ما اصطلح على تسميتها بقضايا الحل النهائي حسب اتفاق أوسلو في العام 1993، وكلها قضايا شائكة فشل الفلسطينيون والإسرائيليون بإيجاد حلول لها خلال ثلاثين عاماً من المفاوضات.
فعلى الرغم من التنازلات المؤلمة التي ابداها الفلسطينيون خلال فترة المفاوضات حول كافة هذه القضايا، وخاصة قبول الطرف الفلسطيني بإقامة دولته الفلسطينية المستقلة على 22% فقط من فلسطين التاريخية، وقبوله بمبدأ تبادل الأراضي المتساوية بالمساحة والجودة مع الإسرائيليين بما يستجيب للاحتياجات الأمنية الإسرائيلية، وموقفه المرن من القدس بقبوله عاصمتين لدولتين أو عاصمة موحدة لدولتين وغيرها من الحلول المقترحة الأخرى، وقبوله بالمبادرة العربية فيما يتعلق باللاجئين الفلسطينيين، وخاصة قبوله المادة الثانية من المبادرة التي تنص على "إيجاد حل عادل ومقبول لمسألة اللاجئين الفلسطينيين على أساس قرار الأمم المتحدة 194".
كما وافق الجانب الفلسطيني على ترتيبات امنية متوافق عليها بين الجانبين وخاصة القبول بقوة سلام دولية على طول الحدود مع المملكة الأردنية الهاشمية.
للأسف الشديد، رفض الجانب الإسرائيلي معظم هذه الحلول وأصّر على مواقفه السياسية من قضايا الحل النهائي التي أشرنا إليها سابقاً والتي لا تتوافق مع مبادئ القانون الدولي والشرعية الدولية وخاصة اعتباره القدس العاصمة الأبدية والوحيدة لدولة إسرائيل وإصراره على الاحتفاظ بقواته الأمنية على طول غور الأردن ورفضه اعتبار العام 1967 أساساً لحل الدولتين، وغيرها كثير.
هل فشل حلّ الدولتين وأصبح غير قابل للتنفيذ؟
للأسف الشديد، فإن هناك عقبات وتحديات كثيرة وشديدة التعقيد تواجه حلّ الدولتين، بحيث فقد هذا "الحل" شعبيته ومصداقيته في أوساط الرأي العام الفلسطيني والإسرائيلي.
فحسب استطلاعات الرأي الأخيرة، فإن أقل من 30% من الفلسطينيين يؤيدون حلّ الدولتين بعد أن كانت هذه النسبة تتجاوز ال 70%. كما انخفضت هذه النسبة أيضاً داخل المجتمع الإسرائيلي لتصل الى أقل من 40%. إلا أننا لسنا متأكدين إذا ما كان موقف الرأي العام في كل من فلسطين وإسرائيل مرناً بحيث يزداد التأييد لهذا الحل فيما إذا شعر الفلسطينيون والإسرائيليون أن هناك تغييرات إيجابية تحصل على الأرض وخاصة في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
يشكل المشروع الاستيطاني الكولونيالي، غير القانوني، في الأراضي الفلسطينية المحتلة العقبة الأساسية أمام حلّ الدولتين. إذ يوجد حالياً في فلسطين المحتلة أكثر من 850 ألف مستوطن يسيطرون وقوات الاحتلال الإسرائيلي على أكثر من 60% من الأراضي الفلسطينية المحتلة. كما يستمر المشروع الاستيطاني بالتوسع وخاصة في ظل الحكومة الإسرائيلية الحالية ذات التوجهات اليمينية المتطرفة. لذا، يعتقد الفلسطينيون أن قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وذات السيادة أصبح أمراً مستحيلاً، إذ لم يبق هناك أرض تقام عليها هذه الدولة. كما يعتقد الكثير من الفلسطينيين ان إسرائيل تؤسس لنظام فصل عنصري (ابرتهايد) في الأراضي الفلسطينية المحتلة بسيطرة قومية على أخرى وخاصة مع تطبيقها لقانونين مختلفين في هذه الأراضي، قانون مدني يطبق على المستوطنين الإسرائيليين وقانون عسكري يطبق على الفلسطينيين. كما تعززت هذه القناعة مع إصدار قانون "القومية" الذي أقره الكنيست في العام 2018 والذي يمنح حق تقرير المصير لليهود فقط.
كما يجب ألا نغفل أن الانقسام الفلسطيني قد ساهم بدوره في تعزيز قناعة الجمهور الفلسطيني بصعوبة حلّ الدولتين في ظل الانقسام، وبالتالي استخدام إسرائيل لهذا الانقسام كذريعة للتهرب من تطبيق هذا الحلّ. كما أن عدم إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية لفترة طويلة من الزمن بسبب العقبات التي تضعها إسرائيل أمام التجول الديمقراطي في فلسطين، وخاصة إصرارها على عدم إجراء الانتخابات بالقدس المحتلة قد ساهم بضعف الثقة بإمكانية تنفيذ حلّ الدولتين.
للأسف الشديد، لم تسفر 30 عاماً من المفاوضات الإسرائيلية – الفلسطينية في الوصول الى حلّ عادل ودائم للصراع في الشرق الأوسط، مما عزز من القناعة بأن حلّ الدولتين أصبح غير قابل للتطبيق.
حلّ الدولة الواحدة
في ظل وصول العملية السلمية الى طريق مسدود وتلاشي إمكانية حلّ الدولتين، بدأ بعض الفلسطينيين ومراكز الأبحاث بالتفكير في حلول أخرى، كحل الدولة الواحدة أو الفيدرالية أو الكونفدرالية مع إسرائيل أو كونفدرالية أو فدرالية مع الأردن وغيرها من الحلول الأخرى.
إلا ان "حلّ الدولة الواحدة" بدأ يستهوي عدد متزايد من الشباب الفلسطيني الذي يرى فيه حلاً مثالياً لإزالة الطابع الاستعماري لإسرائيل (De Colonization) وضمان حق العودة للاجئين الفلسطينيين وعودة الحقوق التاريخية والسياسية للشعب الفلسطيني وخاصة مع مطالبته بالمساواة في دولة واحدة.
من المؤكد أن التنازلات والتنسيق والتعاون السياسي بين الإسرائيليين والفلسطينيين لإنجاز الدولة الواحدة غير ناضج ولا يبدو ذلك مقبولاً من الطرفين أو حتى من الرأي العام في إسرائيل وفلسطين. كما أن هذا الحل لا يحظى أبداً بدعم المجتمع الدولي أو الأطراف الفاعلة في المنطقة، وخاصة الحكومات العربية والإسلامية. كما أن اعتراف أكثر من 139 دولة في العالم بالدولة الفلسطينية في حدود العام 1967، ورفع مكانة منظمة التحرير الفلسطينية في الأمم المتحدة الى مراقب غير عضو، قد حفز القيادة الفلسطينية على الاستمرار بدعم حلّ الدولتين.
تدفع الاتجاهات اليمينية المتطرفة في إسرائيل باتجاه حلّ الدولة الواحدة، وفي رؤيتها طرد الفلسطينيين من البلاد وضم الضفة الغربية بالكامل لإسرائيل، وخاصة مع عدم اعتبار غزة جزءاً من الأراضي الفلسطينية المحتلة، وبالتالي إخراج مليوني فلسطيني من معادلة الديموغرافيا.
إن استمرار إسرائيل بمشروعها الاستيطاني وسيطرة الفكر اليميني المتطرف على قرارات الحكومة الإسرائيلية يدفع بحلّ الدولة الواحدة الى الأمام، وهذا يعني إما نشوء دولة "أبرتهايد" تميز ضد الأكثرية الفلسطينية، وهذا ما لا يقبله الفلسطينيون وسيقاومونه بكل قوتهم أو تحقيق دولة واحدة ديمقراطية وهذا ما لا يقبله الرأي العام الإسرائيلي بالمطلق، إذ يعني التخلي عن يهودية الدولة.
في هذا السياق، فإن استمرار الوضع الراهن سيؤدي الى إثارة سؤال في غاية الأهمية عن "هوية إسرائيل كدولة يهودية وكيان" وهي الرؤية التي قامت على أساسها إسرائيل.
إن حلّ الدولة الواحدة، يفتقر الى الشرعية الشعبية والرسمية والإقليمية والدولية، ويعزز من شرعية المستوطنات ويعقد مسألة إزالة الاحتلال وإنجاز حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، كحق ضمنه القانون الدولي.
في ظل هذه التحديات حول حلّ الدولتين أو حلّ الدولة الواحدة، فإن الطريق الأسلم، حالياً، هو التأكيد على المقاربة القانونية لحل الصراع المستندة الى الحقوق (Right Based approach) والتركيز على استخدام أدوات القانون الدولي والشرعية الدولية لتفكيك نظام الأبرتهايد الإسرائيلي وبالتالي إنجاز حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني سواء عبر دولة واحدة أو دولتين بدون ربط ذلك بالمفاوضات السلمية أو موافقة إسرائيل على هذا الحق.
إن تفكيك نظام الأبرتهايد، الذي تقيمه إسرائيل حالياً في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ليس مشروطاً باتخاذ موقف نهائي من حلّ الدولة الواحدة او حلّ الدولتين، وبالتالي، فإن تحديد موقف ورؤية حول حلّ الدولة الواحدة أو الدولتين قبل تفكيك نظام الفصل العنصري الإسرائيلي لا يعدو كونه تمريناً عقلياً ليس إلاّ.
عزت عبد الهادي
سفير دولة فلسطين، رئيس البعثة العامة لفلسطين في استراليا ونيوزيلندا والباسفيك، وعضو مؤسس في شبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية