خطوات الابادة السبع بمواجهة حجر الراهبة - جيهان أبوزيد
يكن صراخا كالذي نعرفه ،كان غضبا و زئيرا ذلك الذى سمعه سكان الخيمة والخيم المجاورة بقلب غزة ، لم تئن الشابة التي تضع طفلها الثالث ، احتقن وجهها وهى تدفع بوليدها تناجيه ثباتا لكى ينتقم ، غابت دموعها وسال منها فيض من الوعيد والسباب، تحولت لحظة مخاضها الى دفقات هادرة ضاع فيها صوتها بين اصوات النساء المتحلقات ، كن يبكين ويصرخن ويناجين من فقدن ويتوعدن العدو. كن جميعا مثلها على شفا الحياة والموت معا.
على مسافة ألف وستمائة كيلومتر ، وفى مشهد مشابه ، كانت الطفلة ذات الأربعة عشرة عاما تصرخ هلعا اثر زيارة عاصفة لجنود من بلدها ، تتأمل أمها ملابس طفلتها الممزقة وذهولها وتشرد في مصابها الذى يكاد يتطابق مع مصاب السودان .
وفى لبنان جلست الطبيبة الراهبة امام باب دارها -هكذا لقبها سكان الحى- تتطلع للمنازل المدمرة والاسر التي تطارد الزمن هربا من قذائف الموت، كانت تنصت لتظاهرة النسوة في خيمة المخاض ولهمسات الام السودانية ولصراخ الأطفال الفزعة لمرئى شيطان الحرب..ولم يكف صوتها عن مناداتهم...
كانت تتحدث بصوت عالى
الى 30 سيدة يرأسن دولا او يرأسن حكومات، جمعتهم امامها وسألت هل انتم بشر مثلنا؟ألكم
حظ من حكمة النساء ورحمتها؟ هل سمعتم عن ألم المخاض وسط الرصاص والموت ؟عن
الجراحات بلا مخدر؟ عن النزف بلا حفاظة ؟اسمعتم عن كرامة الأجساد التي تستبيحها
اسلحتكم..؟ تململن جميعا من اسئلتها الفظة ونظرتها المتحدية ، لمحت غضبا في اعين بعضهن وجمودا لدى الاخريات
بينما اقترب البكاء من اعين احداهن ثم توقف...وبينما استدرن ظلت تلاحقهم : وما
جدوى نساء في المناصب تفعل فعل الرجال، لماذا فرطتم في انسانيتكم ..لماذا سمحتكم
باستعبادكم ؟ اصدقتكم الخدعة ... هل تملكن حق الاعتراض،ايمكن لاحداكن ان ... ابتعدن
غاضبات .
حينما ابتعدت أصوات
الصواريخ واستقر الركام المتناثر في الهواء على الأرض عادت الى مكانها امام باب
دارها وفى تلك المرة كانت تجلس امام مئة من مشغلى كبار الشركات المصدرة للأسلحة في العالم، 70% منهم ينتمون للولايات المتحدة الاميكية اجسامهم
منتفخة وعلى وجوههم نظارات سوداء مظلمة ، ، لم يتحدثوا معا لكن خطواتهم لم تتقاطع ،
، ظلوا على مسافة آمنة من بعضهم البعض ، ستراتهم الفولاذية تشبه ابطال هوليود ، كتبت
على جدران منزلها انتم تقتلوننا : بحركة جماعية واحدة استجابوا بالموافقة ثم كتب
احدهم نحن نجنى 600 مليار دولار سيدتى، ، الموت اثر جانبي للأسلحة.
القرية تكاد تفرغ من البشر ، لكنها لن ترحل، عادت للجلوس على الحجر الكبير الصامد امام دارها ووجدتهم جميعا امامها : الاتفاقيات الدولية واحدة تلو الأخرى صف بالخلف يتقدمه آخر ، كانوا اشبه بتلاميذ المدارس المعاقبين، تجمدوا في وجوم و صمت ، وتصدرت اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية المشهد ووقفت تستعرض بنودها امام إتفاقية حقوق الانسان واتفاقية جنيف الرابعة وبروتوكولها ، لم يعلق ايهم ولم يسع احد منهم لمجاراتها او تحديها ، كان الوهن و اليأس قد اخذ منهم مأخذا ، وحدها اتفاقية الإبادة من إمتلكت طاقة للتباهى ، ولم تفهم الطبيبة بأى وجه تتباهى وهى العاجزة عن لجم الصواريخ واطفاء النيران ودرء الفوضى والدمار، في اى مرآة تنظر ؟ وهى التي عجزت عن كبح جماح الوحش الهائج ومن يطعمه ..ألم تر نساء غزة وهن يقتلن جماعة وفرادى؟، يقتلن في الطرقات وعلى اسرة المستشفيات واثناء الرضاعة وهن يُمرضن الأطفال والكبار، وهن يطهين الطعام وهن يبكين المنزل الذى انهار والاسرة التي كانت ، يقتلن لانهن نساء ..، عار عليك ان تعودى، كان يجب الا نصدق وجودك وانت من ولدت من رحم الاستيطان وسرقة الاراضى الفلسطينية، ما كان يجب ان نصدق..
هنا فقط كفت اتفاقية
الإبادة الجماعية عن اللهو المستفز ونظرت
للمرة الأولى في اعين الطبيبة : انا مجرد كلمات يا سيدتى ، انا فقرات قد تشحن
بطاقة فعل او تبقى جوفاء، ، ولدت من احرف فقط ولم يمدنى ايهم بكرة ساحرة لامنع
الحروب والدمار والمآسى، ، انا يا سيدتى مصنوعة من ورق يقرأ على الطاولة ولم أتمكن
منذ ولدت من وقف اية إبادة ، لم يسمعوا لى في رواندا ولم يتذكرنى ايهم في البوسنة
والنساء تغتصب وتقتل وتهجر من ارضها، شاهدت بعينى مايزيد عن مليون ونصف كمبودى
يقتل ، شاهدت في دارفور اقتلاع للبشر والحجر، والان أرى السلاح يوزع على الجنود كالحلوى .بنودى
على طاولة كل سياسى ..لكن البنود لا توقف إبادة ، انا كلمات فقط وقبل خروجى للحياة كانت بذرة
الإبادة قد زرعت..
رأف غريغرو ستاندن[1] رئيس منظمة مراقبة الإبادة الجماعية بالطبيبة الحائرة الباحثة عن إجابات واقترب منها موضحا : يا امى عرفت مع عقود عملى ان بذرة الإبادة تصنع مع تقسيم "هم ونحن" ، ثم مع اختراع رمز ليشير اليهم وإلينا ، رمز يعلق او يقبع على الرأس او تحمله الرقبه ، لكنه رمز يميز هذا عن ذاك ثم تختمر البيئة لممارسة الخطوة الثالثة في الطريق نحو الإبادة وهى التمييز ، يوظف الأقوى موارده القانونية والثقافية والاقتصادية لتجذير التمييز ضد الأضعف
نأتى الان الى الخطوة الأهم وهى تجريد البشر من صفاتهم الإنسانية لتجاوز الشعور الطبيعي بالنفور من القتل، هنا تنشط ماكينة زرع الكراهية الدعائية التي تعزز كره هذا الكائن الاخر الذى لا يرقى للإنسان ، يقول شتانين دائمًا ما تكون الإبادة الجماعية منظّمة من قبل الدولة وفيها توضع الخطط لارتكاب عمليات القتل الجماعى والاغتصاب و يتم تلقين الدوافع لاستهداف مجموعة ما وتدريب خاص لميليشيات القتل ووحدات خاصة من الجيش .
تتحرك خطوات الإبادة قدما الان ومباشرة نحو الاضطهاد ، حيث يفصل المضطهدون وفق دينهم او انتمائهم الاثنى ، وفى اغلب الأحيان يفصلون في مناطق سكنية خاصة وتسلب ملكياتهم وتحاصر مواردهم وتسرق عيانا ويعتقل أطفالهم او يسرقوا ، يراقب مرتكبوا الابادات الجماعية ردود فعل المجتمع الدولى ، ومنه تترجم لهم الرسالة فان كان الاستنكار والتنديد فهذا يعنى ان شارة المرور خضراء تسمح بالمزيد من الحصار والتجويع والتدمير وبمزيد من عمليات الابادة ويتم استهداف النساء عملا بضرورة تقليص السكان.
ثم تتجه رحلة الإبادة الى مرحلتها الفضلى و تجرى وقائع الإبادة التى تتضمن كافة الممارسات المتوحشة وتنحدر ممارسات العنف لتمحى الإنسانية من نفوس مرتكبيها ويسكن فيهم الوحش وتعمل يده في تمزيق الجثث وسرقة أعضائها وينشط الاغتصاب وقتل النساء واعتقال الأطفال ، ، تعمل ماكينة الإبادة بلا كابح طالما تتلقى الأسلحة اللازمة ..
صرخت الطبيبة وأين
مجلس الامن وأين منظمات الأمم المتحدة ..
ربت الرجل على كتفها
قائلا.انت خبيرة بالحياة وتعلمين ان للمنظمات رأس وجسد ومصالح وتحديات وحسابات ، الجميع
يحارب للبقاء ، البشر والدول والمنظمات وفى رحلة البقاء تقع الخسائر والحروب
والابادات ..
ومن اذن سيوقف المجازر و التدمير؟
نحن سيدتى، انا وانت
واهل لبنان وغزة والسودان واليمن وسوريا ،
الشعوب وتنظيماتها المحلية هي الفاعلة وهى القادرة وهى التي صنعت الحضارات وخلقت
التاريخ ..نحن سيدتى من سنكتب وثائقنا وتاريخنا ومن سنغير واقعنا ..نحن فقط .