Nov 15, 2024
المناخ السياسي العام في تونس

المناخ السياسي العام في تونس


دخلت تونس في مسار انتقالي بعد الربيع العربي في ظل صراع سياسي حول الأولويات والتي تتلخص بشكل الدولة وطبيعة النظام والرؤية الاقتصادية وسبل الاستجابة الى احتياجات الناس. انقسمت الآراء بين مؤيد للنظام البرلماني وآخر للنظام  الرئاسي وطال الانقسام أيضا قانون الانتخابات. وقد شكل الاقتصاد ودور الدولة والعلاقة مع القطاع الخاص محور الحوار بين الأطراف المعنية في بلد مارس فيه القطاع الخاص فسادا سياسيا مستفيدا من علاقاته بالنظام والتسهيلات التي استفادة منها لعقد الصفقات والتهرب الضريبي، وقد تمكن "المحاسيب" من تهريب الأموال بعد الثورة الى الخارج ما أوقع البلد في ازمة اقتصادية خانقة. ومن بين التباينات الحادة كان تحديد العلاقة بالشريعة الإسلامية ودورها بالتشريع الى ان حسم الدستور الأول هذه النقطة معتبرا انها أحد مصادر التشريع وليست المصدر الوحيد. نتج هذا السجال عن الانقسام حول دور "حركة النهضة" كحزب سياسي إسلامي وباقي الأحزاب السياسية الليبرالية واليسارية.


على المستوى السياسي


دخلت البلاد في ازمة سياسية نتيجة أزمة الحكم مع انتخاب قيس سعيد رئيسا للجمهورية. انتخب السعيد بعد أزمة حكم أدت الى تعطيل المؤسسات الدستورية ما ادخل البلاد في أزمة سياسية واقتصادية خانقة. اختلف التونسيون على تحديد الجهة المسؤولية، فمنهم من اعتبر ان المرحلة الانتقالية التي تلت الربيع العربي لم تؤدّ الى بناء المؤسسات الفاعلة والقادرة على تحقيق النقلة المطلوبة نحو الدولة الديمقراطية والعصرية المنشودة ومنهم من حمّل المسؤولية لمحاولات حركة النهضة الاستيلاء على السلطة من خلال الادوات الديمقراطية وتحويل تونس الى جمهورية اسلامية تحكمها الشريعة. عمل الرئيس المنتخب على تعطيل الدستور عملا بأحكام المادة الدستورية 54 التي تعطيه صلاحيات مقيدة ومؤقتة الا انه توسع باستخدام صلاحياته والتي امتددت لسنوات متحججا بالانسداد السياسي الذي عانت منه تونس ليكسب تأييدا شعبيا لاسيما بين فئة الشباب..

 

وفي 22 سبتمبر 2021، أصدر الرئيس سعيد أمرا رئاسيا يقضي بتوليه إصدار النصوص ذات الصبغة التشريعية في شكل مراسيم يتولى ختمها بنفسه ويأذن بنشرها بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية مما يعني حصر السلطات بعد توليه مهام السلطة التشريعية الى جانب التنفيذية. كل هذه القرارات جاءت في إطار «الإجراءات الاستثنائية» في ظل تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي والصحي في أعقاب جائحة كوورونا. وعلى إثر التفرد بالقرارات، اندلعت أزمة سياسية عاصفة بالبلاد ما زالت تداعياتها الى يومنا هذا بسبب انتهاك المبدأ فصل السلطات.


وفي المسار الذي اعتمد يمكن تأطير الخطوات والإجراءات التي اعتمدت وفق الشكل التالي:

·       في 13 ديسمبر 2021، أعلن الرئيس قيس سعيد في خطاب توجه به إلى الشعب التونسي عن تعليق اختصاصات البرلمان نهائيا حتى إجراء انتخابات تشريعية جديدة والتي أعلن رسميا تنظيمها يوم 17 ديسمبر 2022.

·       وفي 30 مارس 2022، وقّع حلّ برلمان 2019 رسمياً بأمر رئاسي صادر عن الرئيس قيس سعيد بعد محاولة المجلس «المجمّد» إلغاء الإجراءات الاستثنائية.

·       وبتاريخ 25 يوليو 2022، نظم استفتاء على الدستور التونسي الجديد الذي وصف بانه محاولة لتغيير النظام السياسي للبلاد من نظام برلماني إلى نظام رئاسي. أصدر الرئيس قيس سعيد في 30 يونيو 2022 النسخة الأولى من مشروع الدستور الجديد للجمهورية التونسية والمعروف إعلاميا بـ«دستور الجمهورية الجديدة». كما دُعي الناخبون التونسيون للتصويت بـ«نعم» لمشروع الدستور.

·       في 26 يوليو 2022، أعلنت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات النتائج الأولية للاستفتاء والتي تقضي بإقرار الدستور الجديد بأغلبية %94.6 من أصوات المشاركين الذين بلغت نسبتهم %30.5 من إجمالي الناخبين المسجلين. وفي أغسطس من نفس العام، وبعد انتهاء فترة الطعون القانونية، ختم الرئيس سعيد الدستور الجديد وأمر بدخوله حيز التنفيذ.

·       وشكلت الانتخابات التشريعية التي جرت في 17 ديسمبر 2022 والتي لم تتعد نسبة المشاركة فيها 9% - حسب أرقام الهيئة المستقلة للانتخابات - حلقة جديدة في سلسلة إجراءات استثنائية بدأ رئيس البلاد قيس سعيد فرضها، منها حل مجلس القضاء والبرلمان وإصدار تشريعات بمراسيم رئاسية وإقرار دستور جديد عبر استفتاء في 25 يوليو 2022. ولا بد من الإشارة الى ان حملة مقاطعة الانتخابات كانت لافتة، وجاءت نتيجة حملات سياسية ممنهجة لقوى المعارضة وايضاً جزء كبير من الناس قاطعوا من تلقاء نفسهم، بالمحصلة النهائية اعتبرت نسبة المشاركة المتدنية جداً طعنا بشرعية النتائج والحكم وبالتالي بشرعية الرئيس سعيد.

·       في أغسطس 2023 ودون سابق إنذار خرج الرئيس التونسي قيس سعّيد ليعلن أنه قرر إنهاء مهام رئيسة الحكومة نجلاء بودن وتعيين أحمد الحشاني خلفا لها. وبودن هي أول رئيسة حكومة منذ تحول النظام السياسي في تونس من برلماني الى رئاسي، وإقالتها غير المبررة تعبر عن استئثار الرئيس قيس سعّيد بكل الصلاحيات السياسية في البلاد. إذ انه لم يكشف عن الدوافع خلف القرار ولم يتحدث عن أي قصور في أداء رئيسة الحكومة المقالة أو مكامن خلل في إدارتها لمسؤولياتها.


كل هذه الاجراءات كانت عرضة لانتقادات شعبية حادة واعتبرته القوى التونسية بمختلف اطيافها انقلابا على الثورة والدستور و"تكريسا لحكم فردي مطلق".


بالتوازي مع سياسة الانفراد بالقرارات، عمد الرئيس سعيّد إلى توظيف أجهزة الدولة الإدارية والأمنية والقضائية لملاحقة معارضيه والتضييق عليهم؛ إذ جرى اعتقال شخصيات سياسية عديدة وإحالتها إلى المحاكم العسكرية بتهم تتعلق بنشاطاتها السياسية، وتعرّض الإعلاميون والمدونون أيضًا للتضييق والزج بأعداد منهم في السجون بتهمة "المس بهيبة الرئيس". وصدر مرسوم رئاسي ينصّ على فرض عقوبات قاسية على نشاطات تتعلق بحرية التعبير وتداول المعلومات، ومنعت وسائل الإعلام العمومية من استضافة ممثلي الأحزاب وتغطية نشاطات المعارضة، مما دفع بالكثير من المعارضين لمغادرة البلاد واللجوء الى فرنسا او دول اخرى أكثر امانا وهروبا من نير الاستبداد الذي يمارسه قيس السعيد في تونس.


على المستوى الاقتصادي والمعيشي


 بدا واضحاً أن الوعود التي أطلقها سعيّد لم تكن تستند إلى أي معطيات موضوعية. فقد تفاقمت حدة الأزمة الاقتصادية، وتراجعت قيمة الدينار التونسي، وشهدت الأسواق شحًا في العديد من المواد الاستهلاكية والوقود وارتفاعًا غير مسبوق في أسعارها، كما شهدت فقدانًا لأصناف كثيرة من الأدوية الضرورية والحيوية، ورفعًا تدريجيًّا للدعم عن السلع التموينية والماء والكهرباء. ودفعت هذه الإخفاقات والممارسات إلى انحسار الحاضنة السياسية والشعبية التي انساقت مع خطاب الرئيس الشعبوية في البداية، وتوسع جبهة المعارضة لسياساته.


وبحسب دراسة اعدها مركز مالكوم كير- كارنيغي للشرق الأوسط في فبراير 2024:

فإنه ونظرًا إلى وصول عملية التحوّل الديمقراطي في تونس إلى حالة من الانسداد، خسرت البلاد "الريع الديمقراطي"، أي الدعم المالي السخي الذي حصلت عليه من الشركاء الغربيين والمؤسسات المالية الدولية. وعلى الرغم من الجهود التي بذلتها، لم تتمكّن تونس خلال العامَين المنصرمَين من جذب ما يكفي من التدفقات المالية الضخمة من مصادر جديدة لإحداث فرقٍ في اقتصاد الدولة. فمنذ العام 2022، لم تحصل تونس سوى على مساعدة مالية من السعودية بقيمة 500 مليون دولار، وعلى قرض بقيمة 200 مليون دولار من الجزائر (أُودِع منها مبلغ 100 مليون دولار في البنك المركزي التونسي)، وعلى مساعدة مالية كلّية من الاتحاد الأوروبي بمقدار330 مليون دولار.


في تشرين الأول/أكتوبر 2022، توصّلت السلطات التونسية وصندوق النقد الدولي إلى اتفاق على منح قرض للبلاد بقيمة 1.9 مليار دولار، لكن سعيّد رفض شروط الصندوق ووصفها بأنها "إملاءات خارجية" لن تؤدّي سوى إلى زيادة نسبة الفقر. وقد أوقف البنك الدولي بصورة مؤقتة برنامجه الرامي إلى دعم الميزانية التونسية في العام 2022، وعلّق مناقشات التعاون المستقبلي مع تونس بعد التصريحات التي أدلى بها سعيّد بشأن المهاجرين من دول أفريقيا جنوب الصحراء، والتي أثارت موجةً من المضايقات بدوافع عنصرية وحتى حوادث عنف في آذار/مارس 2023. في غضون ذلك، بات التمويل الذي تحصل عليه تونس من الاتحاد الأوروبي شحيحًا، إذ يُعدّ الدعم المالي الإضافي مشروطًا إلى حدٍّ بعيد بقبولها تطبيق برنامج صندوق النقد الدولي.


حاول الاتحاد الأوروبي من جانبه ربط استعداده لتقديم مساعدات مالية لتونس بسعيه إلى تعزيز الشراكة معها للحدّ من تدفّق المهاجرين عبر حدودها. فمن مصلحة الاتحاد الأوروبي الحفاظ على استقرار تونس لكبح جماح هجرة المواطنين الأفارقة نحو سواحل أوروبا. وعلى ضوء مساعي أعداد متزايدة من المهاجرين إلى دخول الأراضي الأوروبية عبر تونس، خفّف الاتحاد الأوروبي من حدّة موقفه تجاه قضايا الحوكمة وانتهاكات حقوق الإنسان في البلاد. وفي تموز/يوليو 2023، وقّع الاتحاد الأوروبي مذكّرة تفاهم مع تونس، يقدّم بمقتضاها مساعدات مالية للاقتصاد الكلّي التونسي بقيمة 900 مليون يورو (980 مليون دولار) على شكل قرض، شرط أن تتوصّل البلاد إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي. وتضمّن ذلك مساعدة مالية بقيمة 150 مليون يورو (160 مليون دولار) يتم ضخّها في ميزانية العام 2023، بهدف توطيد العلاقات الاقتصادية والتبادل التجاري، ودعم الطاقة النظيفة والمتجدّدة، وتعزيز التعاون بين الشعوب من خلال مشاريع عدة، إضافةً إلى حزمة مالية بقيمة 105 ملايين يورو (115 مليون دولار) لمكافحة الهجرة غير النظامية. أدّى التأخير في تطبيق الاتفاق إلى زيادة حادّة في وتيرة الهجرة غير الشرعية من السواحل التونسية، وبدت هذه خطوة مقصودة لممارسة المزيد من الضغط على الاتحاد الأوروبي لإبداء مرونة أكبر وتسهيل الشروط التي يجب على تونس استيفاؤها للمضيّ قدمًا في الاتفاق.


دفعت الخلافات بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بمجلس أوروبا إلى تأخير تحويل مذكرة التفاهم إلى اتفاق ملموس وسريع بهدف المساعدة في إنعاش الاقتصاد التونسي، الأمر الذي أثار حالةً من التوتّر مع السلطات التونسية. وأعلن سعيّد في تشرين الأول/أكتوبر 2023 عن رفضه المساعدة المالية التي قرّر الاتحاد الأوروبي منحها لبلاده. وبات فصل اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي عن الصفقة مع صندوق النقد الدولي ركيزةً أساسية من الاستراتيجية التونسية. هذا المسعى قوبل بالرفض في أوساط دول الاتحاد الأوروبي التي تعتبر أن زيادة التمويل يجب أن تكون مرتبطة بتطبيق الإصلاحات. فالفصل بين المسألتَين من شأنه تحويل التمويل إلى نوعٍ من ريع جيوسياسي قد يشجّع تونس وربما دولًا أخرى جنوبي اوروبا على استخدام تدفّقات المهاجرين كورقة ضغط.


بالمحصلة شهدت تونس، ومنذ الانقلاب الذي نفذه الرئيس قيس سعيّد على الدستور، اتساعًا في جبهة المعارضة وتقلصًا في الحاضنة الاجتماعية والسياسية للرئيس؛ جراء استفحال الأزمة الاقتصادية والمعيشية، إضافة إلى عودة سياسة القمع الأمني وتوظيف أجهزة الدولة في التعامل مع المخالفين، فضلًا عن انفراد الرئيس بالحكم ورفضه أي شراكة حتى مع الأطراف التي ساندته في انقلابه. ويُعَدّ تنامي التحركات الاحتجاجية، السياسية والمطلبية، وقدرة المعارضة على الحشد (مثل المظاهرات في سبتمبر 2024)، والمقاطعة الواسعة التي شهدها الاستحقاقات الانتخابية مثل الاستفتاء على الدستور والانتخابات البرلمانية والمحلية، مؤشرًا دالًا على ذلك. في خضم هذه التجاذبات نشأت شبكة العمل الوطني من اجل الدفاع عن الديمقراطية التي دعت لمسيرات سبتمبر في العاصمة تونس لاستكمال الضغط وتصعيده تدريجبا وصولا الى فرض ارادة الشعب على الرئيس حرصا على الديمقراطية، وتشكلت الشبكة من عدد من الاحزاب السياسية المعارضة ومنظمة غير حكومية. ومع ذلك استمر الرئيس في اتباع النهج الذي سلكه منذ يوليو 2021، مستغنيًا عن الدعم الشعبي، ومكتفيًا كما يبدو باستمرار دعم جهاز الأمن والجيش له.

 

 

 

احدث المنشورات
Dec 07, 2024
النشرة الشهرية لشهر تشرين الثاني/نوفمبر 2024
Dec 03, 2024
الديون السيادية في المنطقة العربية: بين استدامتها وعدالة السياسات الضريبية - أحمد محمد عوض