Jun 05, 2024
المجتمع المدني في مصر والحرب على غزة

المجتمع المدني في مصر والحرب على غزة

مقدمة:

في ظل انشغال مؤسسات المجتمع المدني في مصر بموضوع انتخابات الرئاسة جاء العدوان  الذي تلى عمليات 7 أكتوبر على غزة ليضيف لأجندتها موضوعا رئيسيا وبعدا إقليميا لنشاطاتها، وإشكالية إضافية مع منظمات كانت شريكة في الغرب. وعلى جانب الحكومة يبدو ان أموراً كثيرة كانت مؤجلة لما بعد الانتخابات- مثل تخفيض جديد في العملة وحملات تضييق جديدة- قد وجدت في احداث غزة فرصة مواتية لتمريرها مبكرا، في ظل انشغال الرأي العام بعمليات الإبادة الجارية هناك.


تحديات ناشئة وعوامل محفزة:

تم القبض على عدد من متظاهري مساندة الشعب الفلسطيني في العديد من المحافظات؛ فمع الحرب على غزة خرج عدد من المصريين في مسيرات لدعم الشعب الفلسطيني ورصدت عدد من منظمات المجتمع المدني حالات اختفاء واحتجاز لعدد منهم.i كما رفضت السلطات المصرية "مصلحة الجوازات والهجرة" تمديد أو إصدار تصاريح عبور وإقامة مؤقتة لسكان غزة العالقين/ات في مصر.ii


في ظل الحرب على غزة اتسع حيز الرقابة الحكومية على مواقع التواصل الاجتماعي والفضاء الرقمي؛ حيث زادت قضايا أمن الدولة التي يسجن على أثرها عدد من مستخدمين مواقع التواصل الاجتماعي وخصوصا التيك توك حيث شهدت هذه الفترة زيادة أعداد المواطنين المحبوسين على أثر مشاركتهم فيديوهات على مواقع التواصل الاجتماعي.iii


كما أن الازمة الاقتصادية والاجتماعية، أثرت على العلاقة بين الدولة والمجتمع وخصوصا مع استخدام الدولة للحلول الأمنية في التعامل مع تعبير المواطنين عن آرائهم واستخدام تداعيات الأحداث هناك كفزاعة للمصريين.iv ومن المتوقع مع استمرار الحرب على غزة زيادة وتيرة وتداعيات الازمة الاقتصادية في مصر،v مما يزيد من وتيرة العنف من جانب الدولة في التعامل مع المجتمع.


تأثيرات الحرب على المجمع المدني المصري:

تراجع عمل المجتمع المدني في المجال العام، لصالح التعامل مع أحداث فلسطين وتراوحت مساندة منظمات المجتمع المدني إلى شقين:

الأول، مساندة الوضع في فلسطين على المستوى الإنساني من خلال تقديم الدعم الإنساني والإغاثي؛ وهو ما اهتمت به غالبية المنظمات المصرية العاملة في المجال الإنساني، حيث استمر التفاعل مع الحرب على غزة. وحتى مع اقتراب شهر رمضان ظلت عمليات الإغاثة والتركيز في التبرعات لغزة يأخذ المساحة الأوسع في العمل الخيري. في جانب مواز، وعلى المستوى التنموي ما زالت النظرة الحكومية ترى أهمية جعل المراكز والمؤسسات تعمل ضمن خطة الدولة، وهو ما يفقد هذه المؤسسات الاستقلالية اللازمة للمجتمع المدني، بينما يتم التضييق على المؤسسات الحقوقية.


أما الشق الثاني فيتمثل في المساندة الحقوقية، التي اهتمت بها بعض المراكز. على سبيل المثال أقدم عدد من منظمات المجتمع المدني المصرية من خلال بيان مشترك على مطالبة الحكومة المصرية بالاستجابة الفورية لمناشدة وزارة الصحة الفلسطينية والمكتب الإعلامي لحكومة غزة، السلطات المصرية بفتح معبر رفح للسماح بدخول المساعدات الإنسانية والطبية.vi  إضافة الى جانب توثيق الانتهاكات والتنديد الدولي بما يحدث على فلسطين من إبادة جامعية، حيث أدانت بعض المنظمات الحقوقية رفض السلطات المصرية -تحديدا مصلحة الجوازات والهجرة- تمديد أو إصدار تصاريح عبور وإقامة مؤقتة لسكان غزة العالقين/ات في مصر. وطالبت السلطات المصرية بإصدار قرار عاجل بتمديد جميع تصاريح العبور والإقامة على الأقل لثلاثة أشهر قابلة للتجديد لحين توقف الحرب.vii


بالإضافة إلى تقديم نحو 140 منظمة دولية لحقوق الإنسان مذكرة للتدخل في الاستئناف المقدم من منظمات في قضية (الحركة الدولية للدفاع عن الأطفال - فلسطين، وآخرين، ضد بايدن وآخرين) أمام الدائرة التاسعة بمحكمة الاستئناف الأمريكية (قضية رقم 24-704). وجاء الاستئناف ضد قرار المحكمة الجزئية بسبب رفضها البت في الدعوى باعتبارها مسألة تخص السلطات السياسية للولايات المتحدة.viii بينما عمل منظمات أخرى على رصد دور الدول الغربية في عملية الإدانة او في التضييق على المنظمات المصرية بسبب موقفها الداعم للحق الفلسطينيix. وهي استراتيجية تحول من موقف دفاعي لموقف هجومي. على سبيل المثال أعلنت المبادرة المصرية” انضمامها رسميا لدعوى فيدرالية في الولايات المتحدة تتهم بايدن وبلينكن وأوستن بالمشاركة في جريمة إبادة جماعية ضد الفلسطينيين.x


أثر الوضع هذا على الحق في التظاهر. حيث تسامحت الجهات الرسمية في البداية مع المسيرات المساندة للشعب الفلسطيني، ثم سرعان ما تداركت خوفا من التداعيات فقامت بإلقاء القبض على عدد من المتظاهرين في المسيرات في العديد من المحافظ. وصل الأمر الى حد القبض على مجموعة من النساء ممن توجهن إلى هيئة الأمم المتحدة للنساء لتقديم عريضة تطلب الهيئة بسرعة التحرك لحماية النساء في فلسطين والسودان، وتم إطلاق سراحهم بعدها.


وفي ظل المساومات حول الدور المصري مع الغرب أغلقت الدولة قضية المجتمع المدني بعد مرور أكثر من 11 عام على فتح القضية والتي حكم ومنع على أثرها من السفر عدد من العاملين في المجتمع المدني، وذلك بعد ضغوطات من الاتحاد الأوروبي (على أثر مباحثات قروض بقيمة 12 مليار دولار لمصر) كما ربط البعض بين القرار والحرب على غزة خصوصا مع الخوف من تصعيد أكبر وأكثر اتساعا في غزة بما يتطلب دورا مصريا في هذه التطورات.


الحرب على غزة: أولويات مهندسة ومهام معلقة:

العمل الإغاثي والإنساني أحتل المكان الأبرز في التعامل مع الأزمة؛ اهتمت العديد من مؤسسات الدولة بالعمل الإغاثي وفي فبراير/شباط 2024 أعلن مجلس الشباب المصري، عضو التحالف الوطني للعمل الأهلي التنموي، عن إطلاق المؤتمر الدولي الأول تحت شعار «معا نحو تعزيز دور المجتمع المدني في عملية الإغاثة الإنسانية».xi كما أوضح رئيس الوزراء المصري خلال مشاركته في جلسة حوارية بشأن الوضع في قطاع غزة، ضمن فعاليات اليوم الثاني للمنتدى الاقتصادي العالمي الذي تستضيفه مدينة الرياض "إن أكثر من 85% من جميع المساعدات الإنسانية التي وصلت قطاع غزة، تم حشدها من قبل الحكومة المصرية والمجتمع المدني المصري".xii


لكن الأولوية الأولى كانت عدم نقل القضية الفلسطينية إلى دول الجوار؛ منذ بداية الازمة الحالية في فلسطين، وصف مسؤولون مصريون في أكثر من مناسبة، سياسة التهجير القسري التي تتبعها إسرائيل بأنها جريمة حرب في حد ذاتها، وشدد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، مراراً على أن بلاده "لم ولن تسمح بتصفية القضية الفلسطينية على حساب دول الجوار»، مؤكداً أن مصر «لن تتهاون في حماية أمنها القومي".xiii وهو ما استتبعه قمع أي مظهر للتضامن خارج أطر الدولة.xiv ففيما يخص التهديد الأمنية للمسيرات والتظاهرات الداعمة لفلسطين؛ أستمر التضييق على حرية تنظيم التظاهرات حيث تم القبض على عدد من المتظاهرين الداعمين لفلسطين في القاهرة وقررت المحاكم تجديد حبس عدد منهم عدة مرات.xv وهو ما حدث في عدة محافظات أخرى، حيث ووجهت النيابة لهم اتهامات بالانضمام إلي جماعة إرهابية، ونشر أخبار كاذبة، والاشتراك ف تجمهر من شأنه جعل السلم العام في خطر. xvi


شركاء أم متحكمون:

شهد المجتمع المدني ضغوطات جديدة بسبب الحرب على فلسطين من جانب الحكومة المصرية؛ حيث قامت الحكومة المصرية بحملات تشهير واسعة بحق عدد من منظمات المجتمع المدني. على سبيل المثال وبعد أن نشرت مؤسسة سيناء لحقوق الإنسان في منتصف شهر فبراير/شباط تقريراً، بدأت حملة تشهير واسعة بحق المؤسسة ومديرها على قنوات التلفزيون، وفي الصحف، وعبر منصات التواصل الاجتماعي، سيما بعد ظهوره في برنامج على اليوتيوب وحديثه عن الوضع في سيناء وعلاقته بالحرب في الدائرة في غزة، وكذلك قامت الحكومة المصرية بالرد على التقرير.xvii وكذلك شهدت الفترة الماضية حملات على المدير التنفيذي للمبادرة المصرية للقائه ضمن وفد حقوقي مصغر، مع رئيس الوزراء البلجيكي ألكسندر دي كروو، أثناء زيارته لمصر، لبحث القضية الفلسطينية والحرب في غزة، وإرسال رسالةً لقادة أوروبا حول علاقة ما يحدث في هذه الحرب بمنظومة حقوق الانسان الدوليةxviii.


في ظل هذا الوضع لم يكن حظ المجتمع المدني أفضل في تعامله مع الجهات الشريكة والمناحة الغربية، حيث زادت الضغوط من منظمات مانحة على المجتمع المدني فيما يخص موقفه من الحرب في غزة، وكان أبرزها سحب تمويل الحكومة الألمانية لتمويلها مشروع لمركز قضايا المرأةxix لتوقيعه على بيان يدين إسرائيل ويتضامن مع أهالي غزة رغم ان المشروع حول الاتجار بالبشر. كما شهدت عدة مشاريع لمنظمات خاصة العاملة مع الجهات الألمانية مماطلة وتخفيض في الميزانيات.  بالمقابل، أعلنت بعض المنظمات توقفها عن التعامل مع شركاء في الخارج بسبب موقفهم السلبي من الوضع في غزة حيث رأت المنظمات المصرية ان التعاون مع هذه الجهات يفقدها المصداقية. وطال ذلك الصحافة كذلك فصدر قرار هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) بإيقاف مراسلتها في القاهرة سالي نبيل عن العمل وإحالتها للتحقيق التأديبي، بدعوى مخالفة سياسة الهيئة بشأن استعمال وسائل التواصل الاجتماعي والانحياز ضد إسرائيل. بسبب موقفها من عملية الإبادة الجارية في غزة.xx لكن الجدير بالذكر ان التضييق من جانب الشركاء الخارجيين شهد ذروته في بدايات الزمة وتراجع بشكل كبير مع ازدياد عمليات الإبادة التي تقوم بها إسرائيل.


خاتمة:

هذه التطورات زادت من فاعلية المنظمات والتحالفات التابعة للدولة، ولا سيما تلك المهتمة بالعمل الإنساني والإغاثي، والتي تدعي كونها مؤسسات أو تحالفات مجتمع مدني وهو ما يمثل خطر على المؤسسات الفاعلة المستقلة، خاصة مع رغبة الممولين وتحديدا بعد حرب غزة "العمل في مساحات امنه". كما أن هناك تخوف من استخدام الحكومة للأوضاع في غزة كحجة لزيادة الضغوطات الأمنية داخليا واحكام سيطرتها على الفضاء المدني، خصوصا مع اتخاذ الحكومة بعض الخطوات الشكلية لإظهار بعض الانفراج في المجال العام، وذلك لاسترضاء المانحين والمؤسسات المالية وفي الواقع تزداد ضغط الحكومة على مؤسسات المجتمع المدني والعاملين به.


ومع زيادة التحديات يمكننا رصد توافق استراتيجيات التفاعل مع الحرب في غزة مع استراتيجيات مواجهة القمع الداخلي لمنظمات المجتمع المدني. فمن يتبنون منهج العمل على المساحات المتاحة نراهم يركزون على التوثيق والمشاركة في العمل الإغاثي وقد نجحوا إلى حد كبير، بينما من يتبنون الضغط الخارجي، فقد وجهوا عملهم لمنظمات الأمم المتحدة والهيئات والمحاكم الدولية والجهات المانحة وشكلوا لوبي للضغط عليهم لعدم فرض قيود على المنظمات المحلية، بل ولتعديل مواقفهم من الحرب في غزة. بالمقابل، حاول أصحاب رؤية التكتيل في الداخل تعبئة الرأي العام ورفع قضايا وحشد المناصرين للقضية ولكنهم لم يتمكنوا من تحقيق أهدافهم في ظل القمع الراهن وهو ما يوحي بانها الاستراتيجية الأضعف في ظل السياق العام المهيمن سواء في التعامل مع القضية الفلسطينية أو القضايا الداخلية.


أما على مستوى الدولة فقد استمرت كذلك استراتيجيتها في استخدام الجمعيات والتحالفات التي تحت سيطرتها سواء في الأعمال الإغاثية او الدعائية للدور المصري في الحرب، وضيَّقت على المنظمات والنشطاء المستقلين. وهذا يؤكد ان استراتيجيات العمل في الملف الداخلي هي ذاتها لدى مختلف الأطراف المستخدمة في القضايا الإقليمية. ولعلنا نستطيع القول أننا أصبحنا امام أيدولوجيات وليس استراتيجيات.




المراجع
i  القبض على عشرات المتظاهرين في القاهرة والإسكندرية والمحافظات من “مظاهرات دعم فلسطين”.. وعرض 14 شخصا فقط على النيابة، المفوضية المصرية للحقوق والحريات، https://cutt.ly/Fewu9Maj  
ii مطالبة بتحرك حكومي عاجل بخصوص تصاريح إقامة أهالي قطاع غزة في مصر، منصة اللاجئين في مصر، 17 ديسمبر 2023، https://cutt.ly/gewiyw7g
iii    بعض النصائح للإفلات من رقابة الانترنت، الصفحة الرسمية لمؤسسة حرية الفكر والتعبير، 8 فبراير 2024، https://cutt.ly/Xw1mdflR
iv الجبهة المصرية لحقوق الإنسان تدين الحملة الأمنية...، الجبهة المصرية لحقوق الإنسان، 26 مارس 2024، https://shorturl.at/ewCI7
v التداعيات الاجتماعية والاقتصادية المحتملة لحرب غزة على البلدان العربية المجاورة، UNESCO، https://cutt.ly/JewiomLz
vi  مطالبة باستجابة عاجلة للأزمة الصحية في قطاع غزة … 6 آلاف جريح مهدده حياتهم بسبب عجز الإمكانيات الطبية، الجبهة المصرية لحقوق الإنسان، 18 يناير 2024، https://cutt.ly/LwX1AXuo
vii مطالبة بتحرك حكومي عاجل بخصوص تصاريح إقامة أهالي قطاع غزة في مصر، الجبهة المصرية لحقوق الإنسان، 17 ديسمبر 2023، https://cutt.ly/BwGBznaD
viii نحو 140 منظمة حقوقية تحث المحاكم الفيدرالية على محاسبة الولايات المتحدة...، المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، 16 مارس 2024، https://rb.gy/v6bg6u
ix هيومن رايتس واتش، https://cutt.ly/7ewirkC5  
x موقع درب: https://rb.gy/6bxfro
xi  يسرا البسيوني، «الشباب المصري» يطلق المؤتمر الدولي لتعزيز دور المجتمع المدني في الإغاثة الإنسانية، جريدة الوطن، 1 فبراير 2024، https://bit.ly/3wJL0zn
xii كريم حسن، مدبولي: أكثر من 85% من جميع المساعدات لغزة حشدتها الحكومة والمجتمع المدني المصري، جريدة الأهرام، 29 إبريل 2024، https://cutt.ly/rewiriEY
xiii  أسامة السعيد، شمال افريقيا ما مخاطر توسيع الحرب جنوب غزة على مصر؟، الشرق الأوسط، 20 نوفمبر 2023، https://cutt.ly/FewuXAff
xiv  كريم حسن، مدبولي: أكثر من 85% من جميع المساعدات لغزة حشدتها الحكومة والمجتمع المدني المصري، مرجع سابق.
xv  جنايات القاهرة تجدد حبس...، مؤسسة حرية الفكر والتعبير، 19 مارس 2024، https://cutt.ly/Iw7nYpNV
xvi الجنايات تجدد حبس...، لمدة ٤٥ يومًا، مؤسسة حرية الفكر والتعبير، 9 مارس 2023، https://cutt.ly/lw7nIIJ3
xvii مصر: تشهير وتهديدات لمنظمة حقوقية ومديرها … هجمة انتقامية بعد تقارير حول الأحداث على الحدود مع غزة، مؤسسة حرية الفكر والتعبير، 26 فبراير 2024، https://cutt.ly/9w1b7cvc
xviii https://manassa.news/news/16746
xix https://rb.gy/s1qqzz
xx بي بي سي تواصل استهداف مراسلتها في مصر سالي نبيل بتهمة الانحياز لفلسطين والمبادرة المصرية تتولى الدفاع القانوني، المبادرة المصرية للحقوق الشخصية، 14 فبراير 2024، https://bit.ly/3VdeTT2


احدث المنشورات
Dec 07, 2024
النشرة الشهرية لشهر تشرين الثاني/نوفمبر 2024
Dec 03, 2024
الديون السيادية في المنطقة العربية: بين استدامتها وعدالة السياسات الضريبية - أحمد محمد عوض