القضايا الهيكلية التى تعيق التنمية الاقتصادية وواقع النساء فى المنطقة العربية - مي صالح
القضايا الهيكلية التى تعيق التنمية الاقتصادية وواقع النساء فى المنطقة العربية - مي صالح
هل تتيح البدائل الاقتصادية الجديدة فرصا مستدامة للنساء؟
مما لا شك فيه أن ضمان استدامة النمو الاقتصادي سواء على المستوى الفردى او الوطنى لا يمكن أن يتحقق الا بمشاركة جميع فئات المجتمع، واستغلال القوة الانتاجيه للنساء في مجالات العمل المختلفة وهو ما يتطلب معالجة الفجوة بين الجنسين ، والتركيز على المفاهيم المجتمعيه التي توثرعلي وضع المرأة، وكذلك معالجة التحيز الضمني والصريح في تحديد فرص ومهام وأدوار الجنسين فى المجالين العام والخاص وبحث أنظمة الحماية لتعزيز مفهوم العدالة الاجتماعية
وفيما يوجد توافق عالمي تقريبًا على أن العدالة بين الأنواع الاجتماعية لن تتحقق من دون العدالة الاقتصادية، فإن الأنظمة النيوليبرالية والأبوية في جميع أنحاء العالم تتجاهل الحاجة إلى تكييف السياسات الاقتصادية لمنعها من إلحاق الضرر بالنساء والفتيات إذ تنحاز السياسات والخيارات السياسية الهيكلية والنظامية لصالح أغنى وأقوى الفئات - عادة الرجال - ما يؤدّي إلى إلحاق ضرر مباشر بالغالبية العظمى من الناس في جميع أنحاء العالم. وهذه السياسات على المستوى الكلي تغذي اللامساواة ، وتترك النساء والفتيات من دون أدوات كافية للتمكين الاقتصادي
فالتمكين الاقتصادي للمرأة بالمفهوم الواسع ينبغى ان يتيح القدرة على الوصول الى الموارد والمصادر المختلفة والسيطرة عليها وكذلك الوصول إلى الأسواق والخدمات العامة والوصول إلى المواقع الاقتصادية المهمة، والمشاركة في صنع القرارات الاقتصادية، وتعزيز قدرتها على الاستقلالية المالية وتحسين معدل مشاركتها ضمن القوى العاملة .
بدائل تحمل معها فرص وتحديات
يختلف هيكل الاقتصاد في أنحاء المنطقة،ويؤثر ذلك على عمالة الرجال والنساء بينما تتركز عمالة النساء فى الوطن العربى بشكل عام فى قطاعى الزراعة والخدمات [1] على حساب العمل فى قطاع الصناعة الذى يتراجع العمل فيه بشكل عام بسبب انتشار نظم الاقتصاد الريعى ، ومع تداعي الفجوه المتعلقه بمراعاة المساواة بين ًالجنسين في مجال ريادة الأعمال من أجل تعزيز النمو الاقتصادي اصبح من الاهمية بمكان اعادة النظر فى المعطيات الجديدة والبحث فى البدائل الاقتصادية الممكنة التى ربما تفرض نفسها على واقع سوق العمل ومنها على سبيل المثال :
أولا : الاقتصاد الأخضرأو التحول الاخضر ، وفقا لتقرير منظمة العمل الدولية، فمن المتوقع أن تؤدي زيادة الاجهاد الحراري الناتج عن الاحترار العالمي إلى خسائر عالمية في الانتاجية تعادل 82 مليون وظيفة بدوام كامل في عام 2030 ، وفى هذا السياق يعد التحول نحو الاقتصاد الاخضر الذى تعتبر عدالة النوع الاجتماعى احد اهم معاييره وقد يمثل فرصة جيدة امام النساء والفتيات اللاتى اصبحن اكثر اهتماما بالتسجيل والدراسة فى البرامج التعليمية التى تركز على التكنولوجيا والطاقة المتجددة ويشكلن نسبة كبيرة من خريجى كليات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات التى تعتبر جوهر عمليات التحول للاخضر وعلى سبيل المثال لا الحصر يتوقع ان يوفر الاقتصاد الاخضر 500 الف فرصة عمل جدبيدة للنساء فى مصر الا هذه الفرصة تعتمد على مدى جاهزية وارادة القطاعات الصناعية المختلفة فى الانتقال العادل .
ثانيا : الاقتصاد التضامني والتشاركي وخاصة فى المجال الزراعى ، سيؤثر الاجهاد الحراري كذلك على ملايين النساء اللاتي يشكلن غالبية العاملين في قطاع الزراعة حيث يعيش اكثر من 3 بليون نسمة ممن يعانون من الفقر المدقع فى مناطق ريفية ويعتمد 80% منهم على الزراعة فى كسب الرزق ويشتغل ما يقرب من ثلث النساء العاملات فى العالم بمجال الزراعة فى ظروف قاسية للغاية حيث تتضاءل بصورة واضحة معدلات ملكية وحيازة النساء للاراضى الزراعية بينما تقل أجورهن اليومية مقارنة بالرجال بالاضافة الى تعرضهن الى العنف بكافة اشكاله ، وفى الوقت الذى اتجهت فيه معظم الانظمة العربية الى الاقراض متناهى الصغر كمسكن سريع المفعول للقضاء على الفقر الا انه لم يسهم فى تغيير الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية للنساء الريفيات على وجه الخصوص، ومن هنا يكون التفكير في عمل التعاونيات الجماعية بمثابة طوق نجاة للنساء ، فالحركة التعاونية هي حركة شعبية ديموقراطية تقوم علي الترابط والتكامل وتقاسم الخبرات بين مجموعة من الأفراد بشكل اختياري لتحقيق وتلبية احتياجاتهم الاقتصادية والاجتماعية وتوزيع الموارد بشكل عادل وادارة مشروعات متوسطة تعزز مفهوم التضامن على حساب التنافسية.
ثالثا : الاقتصاد الرقمى هو احد صور العمل عن بعد التى بدأت فى الظهور منذ عدة سنوات ولكنها اخذت فى الانتشار مع أزمة كوفيد وما بعدها ، ويعد تسليع المعلومات ركيزة الاقتصاد الرقمى اى تحويل اى محتوى نصى او مرئى او صوتى الى منتجات وبالتالى تحويل الرسائل والخدمات الى اموال ، وللحصول علي دخل افضل فى ظل رقمنة الاعمال وانتشار خدمات التسويق الالكترونى يظل سد الفجوة الرقمية أمراً ضرورياً لضمان المساواة بين الجنسين من حيث تطوير البنية التحتية الرقمية - علما بان فى افريقيا 12% فقط من النساء لديهن امكانية الوصول الى الانترنت[2] - وتحسين وزيادة فرص النساء والفتيات لاستخدام التكنولوجيا بالاضافة الى ضرورة العمل تبنى مقترحا بتفعيل ضمانة عمل شاملة للعاملات والعاملين فى المنصات الرقمية وحماية خصوصية البيانات والحماية من مخاطر العنف السيبرانى .
سياق اقتصادى عاصف
اللحظة الراهنة اذن هى لحظة فارقة ومختلفة على الصعيد الاقتصادى والاجتماعى فى المنطقة العربية تحتاج منا الى اعادة النظر فى كيفية الاشتباك والتعاطى مع أوضاع النساء فى ظل التحديات العالمية الجديدة وتغير انماط العمل بعد أزمة كوفيد، وحيث تشير تقارير التنمية البشرية دائما لارتفاع معدلات تأنيث الفقر، وزيادة الفجوة بين الجنسين في الوصول للمصادر، حتى ان ثلثى الفقراء فوق سن ال16 من النساء ،ومع ظهور مؤشر الفقر متعدد الابعاد، أصبح الفقر لا يقاس فقط بفجوة الدخل أو الاجر، وإنما يمتد لقياس عدالة الفرص في الوصول لخدمات الصحة والسكن والتعليم وغيرها ، وفى الوقت الذى تلقى فيه الازمة الاقتصادية العالمية بظلالها على المجتمعات بشكل عام وعلى النساء بشكل خاص وفى ظل ارتفاع معدلات التضخم بصورة شبه يومية ، يصبح من المتوقع تراجع خدمات الصحة الجنسية والانجابية وزيادة كلفتها على النساء و تراجع خدمات الطوارئ للناجيات من العنف المبنى على النوع الاجتماعى وارتفاع تكلفة التقاضى فى قضايا العنف والاحوال الشخصية ،بالاضافة الى ان اكثر من 54% من الدول التى تخطط لخفض ميزانيات الحماية الاجتماعية فى 2023- كجزء من تدابير التقشف الجديدة - تقدم اصلا الحد الادنى من دعم الامومة والطفولة أو لا تقدم اى دعم لهما [3] وكلها صورا مختلفة من صور العنف الاقتصادى ضد النساء .
وفى هذا السياق العبثى يظل الحديث عن التنمية والتمكين حبرا على ورق .مالم نمتلك رسالة تفيد تأصيل فهم قيمة المساواة بين الجنسين، والضغط من اجل بناء انظمة حماية اجتماعية قوية تشمل الرعاية الصحية الشاملة والحماية من العنف والوصول العادل والمنصف الى الخدمات والاستثمارات فى البنية التحتية للرعاية وتقليل المعوقات التي تحول دون وصول النساء للعدالة الجندرية فى سياق حقوقى ومستدام وفى ظل نموذج اقتصادى تنموى ديمقراطى .
ضمان العمل اللائق والحماية الاجتماعية للنساء
وفى جميع الاحوال يمثل العمل اللائق مطلبًا نسويًا حاسمًا وضروريًا لمواجهة العنف الاقتصادي القائم على النوع الاجتماعي الذى برز بشدة فى ظل سياسات التقشف العالمية وإعادة تقييم عمل المرأة والقضاء على النظام الأبوي للأجور والتصدى للقوالب النمطية التمييزية والاعراف الاجتماعية والحواجز الهيكلية السائدة التى قد تثنى النساء والفتيات عن الالتحاق بمجالات دراسية ومسارات وظيفية يهيمن عليها الذكور بصفة تقليدية[4] ولا يرتكز العمل اللائق على خلق فرص العمل فحسب، بل أيضًا على حماية وتعزيز حقوق العمال ، وتطوير البنية التشريعية وانظمة الحماية الاجتماعية الشاملة، وحرية تكوين النقابات والقدرة على التنظيم.
مي صالح
مديرة برنامج النساء والعمل والحقوق الاقتصادية
مؤسسة المرأة الجديدة – مصر
مراجع
[1]التقرير العربى لفجوة النوع الاجتماعى 2020، الاسكوا
[2]النساء والاقتصاد الرقمى ، البنك الدولى ، 2021
[3] دانا عابد – فاطمة كيهلير ، بطش التقشف : خيارات السياسات الاقتصادية السائدة هى شكل من اشكال العنف القائم على النوع الاجتماعى ، منظمة اوكسفام ، 2022
[4] الملاحظات الختامية بشأن التقرير الجامع للتقارير الدورية من الثامن الى العاشر لمصر ، للجنة المعنية بالقضاء على التمييز ضد المرأة ،2021