Nov 12, 2025
العدالة والإنصاف وجبر الضرر في قضايا العنف الجنسي: مقاربة حقوقية نسوية - مي صالح
مي صالح
استشارى النوع الاجتماعي والدعم المؤسسى.

الرجاء الضغط هنا لنبذة والمنشورات
مي صالح

العدالة والإنصاف وجبر الضرر في قضايا العنف الجنسي: مقاربة حقوقية نسوية - مي صالح

مقدمة


يُعد العنف الجنسي من أكثر أشكال العنف القائم على النوع الاجتماعي انتهاكًا لحقوق الإنسان وتقويضا لكرامة النساء والفتيات، إذ لا يقتصر أثره على الضرر الجسدي والنفسي، بل يمتد إلى إقصاء الضحايا من الحياة العامة وتكريس التفاوت وعدم المساواة.

ومع التطور التكنولوجي وانتشار استخدام الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، برز شكل جديد من العنف الجنسي يُعرف بالعنف الرقمي، الذى يوسّع دائرة الانتهاك لتتجاوز الجسد إلى الفضاء الافتراضي، وتضاعف من آثار هذا العنف على الضحية حيث يستهدف جسدها الرمزي، وصورتها الاجتماعية، ومساحتها الخاصة وبسبب الوصم الاجتماعي، قد لا تتلقى الضحايا الدعم العائلي اللازم، بل قد تتحول الأسرة نفسها إلى مصدر للضغط أو العقاب خوفًا من "العار والملاحقة" .


ورغم الاعتراف الدولي بالعنف الجنسي كجريمة خطيرة في النزاعات والسلم على السواء، فإن منظومات العدالة الوطنية ما تزال تعاني من قصور في ضمان الإنصاف وجبر الضرر للناجيات،  ويكشف الواقع العملي عن فجوة كبيرة بين النصوص والتطبيق. ويمكن تلخيص أبرز التحديات في تحقيق العدالة بسبب محدودية الأدلة، والوصم الاجتماعي، والعوائق الثقافية، قصور التشريعات الوطنية في تعريف العنف الجنسي أو تحديد إجراءات الإثبات. كما تعاني كثير من الأنظمة القضائية من نقص الكوادر المؤهلة للتعامل مع الضحايا، ما يؤدي إلى اعتلال ثقة الناجيات في المنظومة القانونية.


هذه التحديات تجعل العدالة في قضايا العنف الجنسي غير مكتملة، ما يجعل تحقيق العدالة في هذه القضايا مسألة معقدة تتداخل فيها أبعاد قانونية وثقافية ومؤسسية فالعدالة في قضايا العنف الجنسي ليست مجرد محاكمة الجناة، بل هي منظومة شاملة تعترف بالضرر، وتضمن مساءلة المعتدي، وتوفّر للناجيات سبيلاً للتعافي والكرام. مما يبرز الحاجة إلى نهج تحويلي يعيد التفكير في بنية العدالة ذاتها وتبني مقاربة نسوية شاملة للعدالة تضع احتياجات الناجيات في مركز العملية القضائية.


أولاً: الإطار المفاهيمي للعدالة في قضايا العنف الجنسي

تشير العدالة (Justice) إلى منظومة متكاملة من القواعد والإجراءات التي تضمن التعامل المنصف مع الضحية والمتهم على حد سواء. وتبدأ العدالة منذ لحظة الإبلاغ عن الجريمة، مروراً بالتحقيق والمحاكمة، ووصولاً إلى إصدار الحكم وتنفيذه. إلا أن الواقع يكشف عن فجوات كبيرة في تحقيق العدالة، حيث تواجه الضحايا في كثير من الأحيان ثقافة لوم الضحية، والوصم الاجتماعي، والتحديات القانونية المتعلقة بالإثبات.


ويقصد بالعدالة الحساسة للنوع الاجتماعي تلك التي تراعي الاختلالات البنيوية بين الرجال والنساء في الوصول إلى العدالة، وتُصمم آلياتها بطريقة تستجيب لاحتياجات الناجيات من العنف.  فهي عدالة لا تقتصر على معاقبة الجناة، بل تسعى إلى إصلاح الأنظمة القانونية والاجتماعية التي تُعيد إنتاج العنف والتمييز، والعدالة في هذا السياق تتجاوز فكرة “العقاب” لتشمل كل الإجراءات التي تضمن:

  • الاعتراف بحقوق الضحايا واحترام كرامتهن خلال التحقيق والمحاكمة.
  • ضمان المحاسبة على الأفعال الإجرامية دون تمييز أو تبرير ثقافي أو اجتماعي.
  • توفير حماية فعالة من التهديد أو الانتقام أثناء سير العدالة وبعدها.


ثانيا الإنصاف باعتباره بعداً أخلاقياً وقانونياً

الإنصاف (Equity) مفهوم مكمل للعدالة، يقتضي إزالة العوائق البنيوية والتمييزية التي تحول دون تمتع النساء بحقوقهن على قدم المساواة ويعني مراعاة الفروق والظروف الخاصة بكل حالة على حدة. ففي قضايا العنف الجنسي، لا يمكن تطبيق المقاييس التقليدية فقط في تقييم الأذى، ويؤكد الفقه القانوني المعاصر أن الإنصاف يتطلب الاعتراف بعدم تكافؤ مراكز القوى بين الجاني والضحية، خاصة في حالات العلاقات السلطوية   بين الجانى والضحية مثل علاقات العمل وكذلك عوامل مثل السياق الاجتماعي، ومستوى الوعي أو القدرة على المقاومة. فالإنصاف يتطلب تجاوز الصرامة الإجرائية إلى فهم الأثر النفسي والاجتماعي للجريمة ويعني أن تُمنح الناجية فرصة حقيقية لاستعادة مكانتها وكرامتها، من خلال:

  • إتاحة الوصول إلى القضاء دون تمييز أو خوف من الوصم أو الانتقام.
  • ضمان إجراءات عادلة وسريعة لا تُعيد إيذاء الناجية عبر الأسئلة أو الفحوص المهينة.
  • تقديم دعم نفسي واجتماعي يساعدها على التعافي والمشاركة في الحياة العامة من جديد.

 

ثالثا جبر الضرر كجزء من العدالة التحويلية

يُعد جبر الضرر (Reparation) أحد ركائز العدالة الانتقالية والتحويلية، ويُعرّف بأنه مجموعة التدابير التي تُتخذ لمعالجة الأضرار الناتجة عن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان.
وقد حدّد المقرر الخاص للأمم المتحدة المعني بجبر الضرر خمسة أشكال أساسية للجبر:

  • الاعتراف والاعتذار الرسمي.
  • التعويض المادي والمعنوي. بما يتناسب مع حجم الأذى الجسدي والنفسي والاجتماعي.
  • إعادة التأهيل والدعم النفسي والاجتماعي.
  • رد الحقوق وإعادة الإدماج.
  • ضمانات عدم التكرار من خلال إصلاح المؤسسات والتشريعات.

ومن ثم يُنظر إلى جبر الضرر كركيزة للعدالة التحويلية التي لا تكتفي بإزالة الأذى الفردي، بل تسعى إلى تغيير البُنى الاجتماعية والثقافية التي تسمح بوقوع العنف الجنسي واستمراره.

 

نحو عدالة تحويلية شاملة

العدالة التحويلية (Transformative Justice) تتجاوز المحاسبة الفردية إلى إعادة بناء الثقة المجتمعية وتغيير العلاقات السلطوية التي تسمح باستمرار العنف. معالجة الجذور الثقافية للعنف وتفكيك علاقات القوة الذكورية وتقوم على مبادئ أساسية هي: مشاركة الناجيات في تصميم وتنفيذ برامج الجبر والإصلاح، دمج الدعم النفسي والاجتماعي في منظومة العدالة، تعزيز دور مؤسسات الحماية ووحدات تكافؤ الفرص والمساعدة القانونية، إصلاح التشريعات والمؤسسات الأمنية والقضائية لضمان الحماية والمساءلة، تبني سياسات عامة قائمة على المساواة والتمكين الاقتصادي والاجتماعي للنساء. وقد أرست المنظومة الدولية لحقوق الإنسان مجموعة من المرجعيات التي تُلزم الدول بحماية النساء من العنف وضمان الإنصاف، من أبرزها:

  • اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو)، التي تُلزم الدول الأطراف باتخاذ التدابير التشريعية والإدارية لحماية النساء من العنف القائم على النوع الاجتماعي.
  • إعلان الأمم المتحدة بشأن القضاء على العنف ضد المرأة (1993)، الذي يقر بأن العنف ضد المرأة يشكّل انتهاكًا لحقوق الإنسان.
  • مبادئ الأمم المتحدة الأساسية بشأن الحق في الانتصاف وجبر الضرر (2005)، التي تحدد التزامات الدول في تقديم تعويضات وإنصاف فعلي للضحايا.
  • قرارات مجلس الأمن، لا سيما القرار 1325 (2000) وقراراته اللاحقة بشأن المرأة والسلام والأمن، التي تؤكد على ضرورة مكافحة العنف الجنسي في النزاعات وتضمين النساء في عمليات العدالة الانتقالية.
  • اتفاقية 190 بشأن العنف والتحرش فى عالم العمل والتوصية 206 الملحقة بها والتى صدرت عن منظمة العمل الدولية عام 2019


وفي قلب هذا المشهد لعبت الحركات النسوية، منذ بدايات القرن العشرين وحتى الآن، دوراً محورياً في الدفع نحو بناء منظومة عدالة تستجيب لخصوصية هذه الانتهاكات وتضمن إنصاف الضحايا/الناجيات. وقد تجاوز هذا الدور نطاق الاحتجاج والمطالبة إلى تطوير أدوات معرفية وتشريعية ومؤسسية تُشكِّل اليوم أساساً لأي إصلاح عادل وكان من اهمها: إعادة تعريف العنف الجنسي كقضية عامة وليست شخصية - بناء منظومات دعم نفسي واجتماعي للناجيات - تطوير أدوات الدفاع والمناصرة والتوثيق الرقمي - الضغط لتطوير تشريعات أكثر حساسية للنوع الاجتماعي لتشمل اشكالا اخرى من العنف الجنسى مثل الاغتصاب الزوجى.

 

خاتمة

إن تحقيق العدالة والإنصاف وجبر الضرر في قضايا العنف الجنسي يتطلب رؤية متكاملة تتجاوز المقاربة القانونية الضيقة، لتشمل إصلاح البنى الثقافية والاجتماعية والمؤسسية التي تنتج العنف وتعيد إنتاجه.


فالعدالة الحقيقية هي تلك التي تُعيد الاعتبار للناجيات، وتمنحهن فرصة التعافي والمشاركة في الحياة العامة دون خوف أو وصم، وتُحوّل المجتمع من موقع الصمت والإنكار إلى الاعتراف والمسؤولية.


كما يتطلب الأمر تغييراً جذرياً في الخطاب الاجتماعي الذي غالباً ما يلقي اللوم على النساء. وعليه، فإن تحقيق العدالة المنشودة يمثل ركيزة لبناء مجتمع يحترم حقوق الإنسان، ويضمن الكرامة، ويواجه العنف البنيوي ضد النساء. وبذلك يصبح جبر الضرر ليس نهاية عملية العدالة، بل بدايتها نحو مجتمع أكثر مساواة وإنصافًا وإنسانية.


المراجع

1.    الأمم المتحدة (1993). إعلان القضاء على العنف ضد المرأة.

2.    الأمم المتحدة (2005). المبادئ الأساسية والمبادئ التوجيهية بشأن الحق في الانتصاف وجبر الضرر.

3.    لجنة القضاء على التمييز ضد المرأة (CEDAW) (1992). التوصية العامة رقم 19 بشأن العنف ضد المرأة.

 

1.    Rubio-Marín, R. (2009). The Gender of Reparations: Unsettling  Sexual Hierarchies while Redressing Human Rights Violations. Cambridge University Press.

2.    Duggan, C. & Abusharaf, R. (2012). Transitional Justice and Gender: A Feminist Perspective. Routledge.

3.    Clark, J. (2016). Legal responses to sexual violence. Oxford  University Press.

4.    Daly, K. (2006). Restorative justice and sexual assault. British Journal of Criminology, 46(2), 334–356.

5.    Kelly, L. (2010). The social context of sexual violence. International Journal of Sociology, 28(3), 73–90.

6.    Rome Statute of the International Criminal Court (1998).

7.    UN OHCHR (2008). Rule-of-law tools for post-conflict states: Reparations programs.

8.    UN Women (2015). Framework for prevention of violence against women.

9.    World Health Organization (2012). Responding to intimate partner violence and sexual violence.

احدث المنشورات
Nov 12, 2025
من الفاشر إلى العالم: المرأة السودانية في قلب النزاع، بين عنف الدولة والمقاومة - نعمات كوكومحمد
Nov 12, 2025
حين تقتل كرامة المرأة بصمت..اثنا النزاع المسلح - كريمة مرشد