Sep 09, 2024
الحوار من أجل الحوار: مأساة الحوارات الاجتماعية في المنطقة العربية - اديب نعمه
اديب نعمه
خبير ومستشار في التنمية والسياسات الاجتماعية ومكافحة الفقر

الرجاء الضغط هنا لنبذة والمنشورات
اديب نعمه

الحوار من أجل الحوار: مأساة الحوارات الاجتماعية في المنطقة العربية - اديب نعمه


يوم الحادي عشر من شهر تموز/يوليو 2024، اختُتِمَت في بروكسيل المرحلة الثانية من مشروع "سوليد" – المُمَوَّل من الاتحاد الأوروبي – الهادف إلى تشجيع الحوار الاجتماعي الثلاثي الأطراف بين القطاع الخاص، والنقابات، والمجتمع المدني (وضمنًا الحكومات)؛ في ست بلدان عربية (جنوب المتوسط) هي الجزائر وتونس والمغرب ولبنان وفلسطين والأردن. وبعد "حوار" بين هذه الأطراف استمر ثلاث سنوات (وقبلها ثلاث سنوات للمرحلة الأولى) تم اعتماد 100 توصية غطَّت معظم مجالات الفعل الاجتماعي. وتركِّز هذه المقالة على عملية الحوار نفسها، ومتطلبات نجاحها، أكثر مما تركز على المخرجات التي تُمثِّلُها التوصيات المشار إليها.


الأسئلة الابتدائية هنا هي التالية:
1- ما هي طبيعة الحوار الاجتماعي، وأهدافه؟
2-  ما هي معايير النجاح؟
3- ما هي المتطلبات العملية لنجاحه؟

ونشير مسبقًا أن هذه المسائل الثلاث مترابطة بشكل وثيق في الممارسة العملية.


بالنسبة إلى طبيعة الحوار الاجتماعي في بلداننا، يتوقف الأمر على البيئة العامة التي يجري فيها هذا الحوار، والجهات التي توجِّهُهُ سواء كانت الجهات المُموِّلة أو الحكومات، إضافة إلى الأطراف التي تشارك إجرائيًا فيه، وهي كما سبقت الإشارة إلى ذلك ممثلي الاتحادات النقابية العُمَّالية، وممثلي اتحادات رجال الأعمال، وممثلي منظمات المجتمع المدني (غير النقابية). والبيئة العامة التي يتم فيها هذا الحوار تتميز بثلاث خصائص رئيسية لها تأثير حاسم عليه:

- الخاصية الأولى هي غياب الديمقراطية والتضييق المتصاعد على الفضاء المدني بكل مكوِّناته وعلى الحريات العامة؛
- والخاصية الثانية هي تعرُّض بلدان المنطقة إلى أزمات اقتصادية ومالية متفاقمة (ديون، تضخُّم، انهيارات مالية، أزمات معيشية...إلخ)؛
- والخاصية الثالثة هي انفجار الحروب على نطاق خطير وواسع بدءًا من فلسطين وغزة، مرورًا بالسودان، وصولًا إلى دول أخرى تمتد من ليبيا إلى لبنان وسوريا والعراق واليمن...إلخ.


باختصار، وُضِعَت أجندة هذا الحوار وآلياته ورُسِمَت سقوفه في ظل وضع غير ملائم على الإطلاق، إذ كيف يمكن أن يكون هناك حوار اجتماعي "ديمقراطي ونِدِّي" في مناخ متوتر وأنظمة غير ديمقراطية! يدفعنا ذلك إلى افتراض أن أهداف الأطراف المؤثرة (وغير المشاركة إجرائيًا في الحوار – أي المُمَوِّلون والحكومات) متفاوتة: من جهة الاتحاد الأوروبي هو التزام بالقواعد المكتوبة التي تُنظِّم آليات الدعم المُقدَّم لدول جنوب المتوسط والتي تشترط المشاركة والحوار؛ وهي أيضًا بالنسبة إليهم طريقة لضبط مواقف المشاركين، وآلية للحوار غير المباشر مع الحكومات التي تشاركها الرغبة في ضبط هذا الحوار ضمن سقوف منخفضة. ومن جهة الحكومات نفسها – التي تتحكم بقسم أساسي من التمثيل الثلاثي المشاركة إجرائيًا في الحوار الاجتماعي، وإضافةً إلى ضبط السقوف والمواقف، فهي تسعى أيضًا للحفاظ شكليًا على صورة مقبولة أمام المانحين والرأي العام العالمي، وهو أيضًا من المتطلبات الشكلية لاستمرار الدعم السياسي والمادي الذي تحتاج إليه.


بالنسبة إلى معايير نجاح الحوار الاجتماعي، فهي من الناحية الموضوعية تتوزع على مستويين:
- المستوى الأول هو أن يكون لهذا الحوار أثر على السياسات الوطنية المتبعة، بما في ذلك على العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، وعلى مواقف الاتحاد الأوروبي نفسه. فلا يتعلق الأمر بالحوار الشكلي من أجل الحوار فقط، دون نتائج تؤدي إلى سياسات بديلة أو تعديل السياسات المُوَلِّدَة لهذا الكَّم من الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وإلى المزيد من التوترات الثقافية والانغلاق الهوياتي.
- المستوى الثاني هو أن يكون لهذا الحوار تأثير على الأطراف المشاركة إجرائيًا فيه. فلا يُعقَل أن يخرج ممثلو قطاع الأعمال مثلًا منه وهم متمسكون بالسياسات والممارسات نفسها في كل ما يتصل بطريقة إدارة المؤسسات وشروط العمل والنظام المالي والاقتصادي: مثلًا عدم إبداء أي إيجابية بشأن العدالة الضريبية، أو احترام شروط العمل اللائق...إلخ. وكذلك الأمر بالنسبة إلى النقابات العُمَّالية مثلًا تجاه حقوق العُمَّال المهاجرين والعاملين بشكل غير نظامي التي لا تزال تشكل ثغرة كبيرة في العمل النقابي الرسمي. وكذلك الأمر بالنسبة إلى منظمات المجتمع المدني لجهة توازن أفضل بين برامج عملها الوطنية وعلاقاتها مع المُمَوِّلين الخارجيين...إلخ.


فإذا لم يكن هناك نجاح على هذين المستويين، يكون الحوار الاجتماعي ذا جدوى محدودة جدًا، أو شكليًا. وفي التجربة المُحقَّقَة، لا توجد مؤشرات على مثل هذا الأثر على مستوى السياسات، ولا على أثر إيجابي محسوس على الأطراف الثلاثة المشاركة إجرائيًا في الحوار.


أما بالنسبة إلى الحوار نفسه ومتطلبات نجاحه من الناحية الإجرائية، وفي ضوء التجارب المتعددة للحوارات الاجتماعية سواء على المستوى الوطني أو الإقليمي، تجدر الإشارة إلى ضرورة توفر الشروط التالية:

أ- لا بد من وجود إطار مرجعي مشترك للأطراف المشاركة في الحوار تحتكم إليه. ومثل هذا الإطار المرجعي لا سيما بالنسبة إلى الحوارات الإقليمية والدولية، لا يمكن أن يكون إلا منظومة حقوق الإنسان ومعاييرها. ولا بد طبعًا من الإقرار باحتمال وجود تفسيرات متمايزة لهذه المنظومة ومعاييرها، إلا أنها تتضمن الحدود المتاحة لمثل هذه التمايزات بما لا يُناقِض جوهرها. إن أي حوار اجتماعي لا ينطلق من تفاهم مشترك على الإطار المرجعي، يفقد البوصلة الموجِّهة ومعيار التفاعل بين المصالح والمواقف المختلفة، ويقع في أحد خطرين: إما تصادم المواقف دون إمكانية التسوية بينها؛ أو الاكتفاء بتراصف التوصيات والمواقف دون تفاعل حقيقي فيما بينها.


ب- لا بُدَّ من اعتراف كل طرف مشارك في الحوار بالأطراف الأخرى، بحقها في الوجود، وبأن يكون لكل طرف مصالحه المتمايزة التي يدافع عنها، وحقه بالمشاركة في القرار انطلاقًا من هذه المصالح. ينطبق هذا بشكل خاص على الأطراف القوية التي توجه الحوار من خلف الستارة (حكومات ومانحين)، كما ينطبق على الطرف المشارك في الحوار الذي يملك أفضليات نسبية أو مطلقة لجهة القوة والموارد مقارنة بالأطراف الأخرى. لا يقتصر الأمر إذن على الاعتراف الشكلي الذي يُعبَّر عنه بقبول مشاركة أي طرف في الحوار، بل يتعلق الأمر بالاعتراف بوجود مصالح متمايزة لها مشروعيتها، وأن هدف الحوار هو التفاعل بين هذه المصالح والوصول إلى تسويات فيما بينها.


ت- أن يكون للأطراف المشاركة إجرائيًا صفة تمثيلية حقيقية وأن تكون مستقلة (لا سيما إزاء الحكومات، والمانحين). والأطراف المشاركة عن المجتمع المدني فئتان: الفئة الأولى تقوم على العضوية وتمثيليتها تقوم بالدرجة الأولى على العضوية وعلى العملية الانتخابية الداخلية التي تُنتِج هيئاتها الإدارية (ويخص بشكل خاص النقابات)؛ والفئة الثانية هي منظمات المجتمع المدني التي لا تقوم على العضوية والتي تكتسب مشروعيتها من طبيعة القضايا التي تدافع عنها، ومن نشاطيتها ومصداقيتها واستقلاليتها من خلال ممارستها السابقة والحالية. ويرتبط شرط التمثيل بشكل عضوي بالاستقلالية لا سيما عن الحكومات في حالتنا، حيث معروف أن الحكومات غالبًا ما تسيطر على النقابات والهيئات على اختلافها، مما يفقد هذه الأخيرة صفتها التمثيلية. وغالبًا ما نسمع في المؤتمرات من ممثلين عن هيئات نقابية أو مدنية دفاعًا مستميتًا عن الحكومات بدل المدافعة عن حقوق الفئات التي يُفترَض أن تُمثِّلَها هذه الهيئات. إن مشاركة أطراف أو أفراد ليس لديهم استقلالية إزاء السلطات السياسية أو المالية المحلية أو الخارجية، يُفرِّغ الحوار من معناه.


ث- نجاح الحوار يتطلب أيضًا إدارة ناجحة للحوار، مُلتزمة بالإطار المرجعي (حقوق الإنسان)، وبالاعتراف بالتمايز في المصالح بين الأطراف، ومستقلة إزاء الحكومات والمُمَوِّلين (من هم خلف الستارة)، وإزاء الأطراف المشاركين أيضًا. كما عليها أن تمتلك المهارات الضرورية لإدارة حوار تفاعلي متكافئ، يُنتِج في نهاية المسار نتاجًا مختلفًا عن نقطة البداية. إن إدارة الحوار يجب أن يكون التزامها الكامل هو لمصلحة الحوار ومضمونه، وأن تتحرر من الموجبات الشكلية التي يمكن لمن يدير المشروع من خلف الستارة، أو من ضمن الأطراف المشاركة عليه. كما عليها أن تتحرر من أجندتها الخاصة في الحوار، وأن يكون التزامها لأهداف الحوار والمصالح المشتركة، لا لمصالحها الخاصة، وعدم التفرد في التأثير على المخرجات النهائية بوسائل إدارية.


الحوار الاجتماعي هو وسيلة ديمقراطية من أجل التوصل إلى تفاهمات بين الأطراف ذات المصالح المتمايزة ضمن إطار مرجعي هو حقوق الإنسان. ويجب ألّا يتحول إلى آلية شكلية يُراد منها الإبقاء على ما هو قائم، وتبييض صفحة هذا الطرف أو ذاك. وهذه مهمة نبيلة وصعبة في آنٍ واحد.



اديب نعمه








احدث المنشورات
Nov 23, 2024
منطقة مشتعلة - العدد ٥٨
Nov 22, 2024
منطقة مشتعلة - العدد ٥٧