أبعد من عقبات تفعيل دور النساء اللبنانيات في البرلمان - جنى الدهيبي
يقف لبنان عند أعتاب الانتخابات البرلمانية المقررة في 15 أيار/مايو 2022، ويستعيد معها سجالًا موسميًا حول ضمور نسبة ترشح النساء اللبنانيات التي لم تتجاوز 15% من مجمل الترشيحات.
ورغم أن لبنان لا يفرض قيودًا قانونية على مشاركة النساء في الحياة السياسية، لكنه لم يشرّع قوانين "إيجابية" تحثّ على تمكين النساء سياسيًا وتمثيليًا، خلافًا لعددٍ من دول المنطقة العربية. وهنا مكمن العلّة التي تدفع للسؤال: ما أسباب تأخر لبنان عن تحقيق تمثيل متوازنٍ للنساء في البرلمان؟ وهل العقبات قانونية فقط أم متجذرة بطبيعة لبنان وتركيبة نظامه؟
حقائق رقمية
في منتصف آذار/مارس 2022، أغلقت وزارة الداخلية والبلديات اللبنانية، باب الترشح على 1043، بينهم 115 امرأة، أي بلغت نسبة ترشح النساء 15%، مسجلةً ارتفاع 4%، مقارنة مع نسبة ترشح النساء في آخر انتخابات (2018) البالغة 11%. وحينها، فازت 6 نساء من أصل 84 مرشحة، وحصلن على 4.6 % من نسبة المقاعد البرلمانية البالغة 128 مقعدًا.
وفي لمحة سريعة، ينجلي تاريخ الاجحاف بحق النساء. وإذا أخذنا مجالس البرلمان ما بعد الحرب الأهلية، تظهر استطلاعات رقمية لشركة الدولية للمعلومات الآتي: في العام 1992، دخلت 3 نساء البرلمان من أصل 6 مرشحات فقط. وفي العام 1996، فازت 3 نساء من أصل 10 مرشحات، وكذلك في العام 2000 من أصل 15 مرشحة. أي بقي عدد الفائزات نفسه في هذه الدورات المتعاقبة، بينما ارتفع عدد المرشحات
لاحقًا في انتخابات العام 2005، فازت 6 نساء من 16 مرشحة، وفي 2009 تراجع العدد إلى 4 فائزات من أصل 13 مرشحة.
ومع ذلك، فإن معظم النائبات اللبنانيات لم يدخلن البرلمان بصورة أصيلة مستقلة عن الرجل، بل لكونهن زوجات أو أخوات أو أرامل أو بنات لسياسيين وشهداء. وصرن تلقائيًا مسؤولات أمام الرأي العام عن حماية ما ورثوه من أولئك الرجال الذين عبّدوا طريق البرلمان لهن، والدفاع عن مكاسب أحزابهن، ولو على حساب أصوات النساء وحقوقهن.
قانون انتخابي تمييزي
وهنا، لا بد من تسليط الضوء على القانون الانتخابي اللبناني، إذ يعد العدو الأول للنساء. فهذا البلد الصغير الذي يضم نحو 18 طائفة، وُزعت مقاعده البرلمانية (128 مقعدًا) منذ ما بعد الحرب الأهلية (1975 – 1990) بالمناصفة بين المسلمين والمسيحيين. والقانون الانتخابي الحالي، أقره البرلمان في حزيران/يونيو 2017، وفقًا للنظام النسبي، الذي قسم لبنان 15 دائرة تضم 27 قضاء، فكانت الأخيرة أشبه بدوائر صغيرة مفروزة طائفيًا بصورة صارخة.
ومن شوائب القانون أنه لا يسمح بالترشح الفردي، ويفرض على كل مرشح أن يكون ضمن قائمة انتخابية، ويسمح للمقترعين بانتخاب لائحة واحدة بالقضاء المسجلين فيه على الهوية، مع صلاحية اعطاء الصوت التفضيلي لأحد أفراد اللائحة حصرًا.
لذا، رأى كثيرون أن القانون الانتخابي يصب بمصلحة النخبة السياسية التي ترعى بدورها النظام الأبوي والبطريركي وتحتمي به، ويكرّس شرعية المنظومة الزبائية، ويحفظ مكاسب أهل السلطة.
وعليه، أضحت معركة المستقلين والمعارضين أكثر تعقيدًا، وتحديدًا على النساء المرشحات اللواتي لا يتحدرن من بيوت وعائلات سياسية. كما لا تمتلك معظمهن أدوات خوض المعركة على الطريقة اللبنانية، وما يعتريها من شدٍّ للعصبيات الطائفية والمناطقية والعائلية، وقفزٍ فوق القوانين واغداق للمال السياسي وتكاليف تشغيل الماكينات الانتخابية.
الكوتا الضائعة
في المقابل، لم يُدخل لبنان "الكوتا النسائية" إلى القانون الانتخابي، وأطاح البرلمان به نهاية 2021 لدى طرحه للنقاش، بفعل معارضته من معظم الأحزاب السياسية داخل المجلس.
ويعود مشروع قانون "الكوتا النسائية" إلى العام 2006، حين طرحته "الهيئة الوطنية الخاصة بقانون الانتخابات النيابية"، وينص على حجز ما لا يقل عن 30% من اللوائح الانتخابية إلزاميًا للنساء، وتمثيلهن بمعدل تقريبي في البرلمان.
إلا أن مشروع القانون بقي رهن التجاذبات والتأجيل طوال السنوات السابقة، رغم اعتماده في عدد من برلمانات الدول العربية مثل تونس وفلسطين والأردن والعراق والسودان ومصر والمغرب. فما سبب تأخر لبنان عنهم؟
شكليًا، تتذرع معظم الأحزاب الممسكة بمفاصل البرلمان، أن "الكوتا" قد تهز التوازن الطائفي داخل البرلمان، ويصعب احتسابها بما يحفظ ويضمن توزيع المقاعد البرلمانية على خريطة النظام الطائفي والمناطقي.
لكن حقيقة الأمر، أن لبنان الذي وزع مقاعده البرلمانية بالمناصفة بين المسلمين والمسيحيين، وتمترست أحزابه خلف مفهوم الحفاظ على "السلم الأهلي"، لا يعتمد المعايير العرفية والقانونية نفسها على المستوى الجندري، لتمكين النساء كشريكات بالمناصفة مع الرجال في البلاد.
والمفارقة الأخطر، أن الأحزاب عينها ترفض مجرد سنّ قانون "الكوتا"، الذي يحفظ ثلث المقاعد البرلمانية للنساء. في حين أن "الكوتا" ليست الحالة المثلى، بل من المفترض تحقيقها كمرحلة انتقالية فحسب، واستكمالها بخطوات أخرى تفتح النوافذ على تفعيل دور النساء في الحكومة والأحزاب والمؤسسات والقطاعات والنقابات وكل مراكز صناعة القرار والسياسات العامة.
لماذا التركيز على دور الأحزاب؟
تتحمل الأحزاب المسؤولية المباشرة حول واقع النساء، كونها الإطار المؤسساتي الأكثر تنظيمًا في الحياة السياسية والباب الواسع لدخولهن إلى البرلمان. وفي نظرة عامة على الأحزاب اللبنانية، سواء التقليدية أو حديثة النشأة، نلحظ عدم اكتراثها لترشيح النساء أو وضعهن في الواجهة الأمامية لعملهم. ولكل حزب موقفه في هذا المضمار، عقائديًا أو ثقافية أو اجتماعيًا أو سياسيًا، أو لعدم ثقتهم الكافية بالمشاركة الندية مع النساء والتنافس معهن وفق معايير الكفاءة فحسب.
لذا، نجد أن أغلب الأحزاب اللبنانية، تكتفي بمنح النساء أدوارًا ثانوية بمكاتبها. كما تكتفي بوجودهن شكليًا وصوريًا، دون منحنهن أدوات الإسهام والتأثير بالعمل الحزبي بالمعنى السياسي العميق، في حين يغيب وجودهن عن الأحزاب العقائدية.
والمفارقة الأغرب، أن الأحزاب نفسها التي يعبّر سلوكها عن اعتقادٍ دفينٍ أن "السياسة للرجال"، تتعمّد تشكيل لجان تعنى بـ"شؤون المرأة". وترفع الشعارات الداعمة للنساء ضمن الأنماط الذكورية والتقليدية، بوصفها الأم والأخت والزوجة والمعيلة وربة المنزل، دون الشروع بتغييرات حقيقية بالواقع المعاش، وتغييب الآليات والبرامج الواضحة لتفعيل مشاركتهن في الأحزاب.
جذور الأزمة
وواقع الحال، لا يمكن التغاضي عن الترابط الحتمي بين تمكين النساء سياسيًا وقوانين الأحوال الشخصية الناظمة للأسر، ويبلغ عددها 15 قانونًا للطوائف الإسلامية والمسيحية في لبنان. وهذه التعددية كرّست مظلومية النساء وبدرجات متفاوتة بين طائفة وأخرى، مقابل غياب قانون عادل وموحد للأحوال الشخصية.
وللإشارة، فإن الدستور اللبناني منح الطوائف سلطة استثنائية لإدارة أحوالها الشخصية، بقضايا الحد الأدنى للزواج والطلاق والنفقة والحضانة والوصايا على الأطفال والميراث. وفي دارسة صادرة عن الأمم المتحدة حول لبنان، في كانون الأول/ديسمبر 2019، حول "تقييم عدالة النوع الاجتماعي"، أظهرت أن القوانين اللبنانية لا تدعم المساواة بين الجنسين ولا توفر الحماية الكافية للنساء من العنف.
واعتبرت الدراسة أن الدستور اللبناني لعام 1926، وينص في المادة 7 أن "كل اللبنانيين سواء لدى القانون ويتمتعون بالسواء بالحقوق المدنية والسياسية، ولا يشير صراحة إلى المساواة بين الجنسين، ولا يحظر الدستور التمييز على أساس نوع الجنس أو النوع الاجتماعي".
والإشكالية إذن: كيف ستبلغ اللبنانيات حق المساواة بالحياة السياسية في حين تحرمهن القوانين من المساواة داخل الأسرة التي تجسد أصغر وحدة مجتمعية؟
نضال اللبنانيات
يفيض تاريخ لبنان بنضال نسائه، سياسيًا واجتماعيًا ونقابيًا ومدنيًا. ولعل ما شهده منذ انتفاضة 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019، كان خير الدليل، على قوة النساء اللبنانيات ودورهن المحوري في الساحات.
لكن التجربة أثبتت أن قوّة الحضور ميدانيًا، وإن كان عاملًا رئيسيًا، لا يكفي لانتزاع حقوق النساء، خصوصًا حين يصطدمن بحائط القوانين التمييزية، مدنيًا وطائفيًا.
ولأن السلطتين السياسية والدينية تتماهى في لبنان منذ نشأته، تبدو معركة النساء على جبهتين: مع الأولى التي تشرع القوانين المدنية في البرلمان ذات الأغلبية الذكورية، ومع الثانية التي تمسك بقوانين الأحوال الشخصية في المحاكم الدينية برئاسة قضاة دينيين.
أما ونحن على أبواب الانتخابات، تقف النساء أمام تحديات كبيرة، تضاعفت إثر أكلاف باهظة تكبدتها جراء الأزمة التاريخية التي تعصف لبنان.
ولأن النساء هن أبرز ضحايا النظام الطائفي والسياسي التمييزي، فإن عدم الإطاحة به، أو على الأقل خرقه، يعني أنهن أكثر المتضررات من منح الطبقة السياسية نفسها الشرعية البرلمانية لأربع سنوات جديدة.
لكن، هل يدفع ذلك لليأس؟ بالطبع لا، وذلك في حال كانت الانتخابات تأسيسًا لمرحلة جديدة يخوض فيها اللبنانيون واللبنانيات معركة إصلاح القوانين وتغييرها بما يخدم المصلحة العامة، ويحقق العدالة والمساواة، ولو بعد حين.
جنى الدهيبي