الأزمة المالية في لبنان: تقاعس السياسات في أسوأ حالاته
يمر لبنان بأزمة مالية غير مسبوقة، فقد جاء يوم الحساب بعد تراكم غير مستدام للديون (حوالي 180٪ من الناتج المحلي الإجمالي اليوم) لدعم اقتصاده الريعي والاستهلاكي منذ أوائل التسعينيات إلى سنة 2018. ونظرًا لاعتماده الشديد على الاستيراد وسرعة استنفاذ احتياطاته من العملات الأجنبية، تخلّف لبنان عن سداد ديونه السيادية، وقام بكسر ربط عملته بالدولار الأميركي بقيمة 1507.5 الذي امتد لثلاثين سنة، مؤديًا إلى انخفاض سعر الصرف إلى أكثر من 8000 ليرة لبنانية مقابل الدولار في السوق الموازية، وبدوره، إلى انهيار القوة الشرائية في هذه الدولة التي تعتمد على الاستيراد بأكثر من 60%.
دخلت البلاد في مرحلة من التضخم المفرط، حيث اقتربت مستوياته على أساس سنوي من 130٪ وأصبح اليوم ثلث السكان العاملين عاطلون عن العمل، ويعيش أكثر من نصف السكان في حالة من الفقر. أمّا القطاع المصرفي فهو في حالة من الإعسار المالي التي تؤثّر على مدخّرات الأفراد البالغة 180 مليار دولار والعالقة في القطاع بسبب الضوابط المالية الفعلية، مع احتمالات ضئيلة، إن وجدت، لاستعادة الودائع. ومن المتوقع انكماش الناتج المحلي الإجمالي من 58 مليار دولار في 2018 إلى 18 مليار دولار في 2020؛ أي انكماش بنسبة 25٪ في سنة واحدة فعليًا.
ماذا فعلت الطبقة الحاكمة لمعالجة هذه الأزمة؟ لا شيء على الإطلاق. أما المحاولة الخجولة الوحيدة لمعالجة هذه الأزمة، فقد أخذت شكل خطة مالية اقترحتها الحكومة في نيسان/أبريل 2020، والتي من شأنها أن تشكل الأساس لمفاوضات صفقة صندوق النقد الدولي. لكن الخطة تعطّلت على يد النخبة الحاكمة والقطاع المصرفي، لعدم رضاهما عن الخسائر التي كان من المتوقع تحملها كجزء من الخطة المالية. وتبقى الخطة البائدة من دون بدائل.
القرار السياسي، إذن، كان التقاعس على مستوى السياسات، وترك الاقتصاد ليتكيف بشكل طبيعي من دون أي عوامل استقرار. يقوم النظام حاليًا بتنظيف نفسه، وإن كان ذلك بطريقة مكلفة اجتماعيًا وغير فعالة اقتصاديًا. تدهور الاستهلاك بسبب الانخفاض الفعلي لقيمة الليرة اللبنانية بنسبة 80٪، وما نتج عنه من إفقار سكان لبنان، مما أسفر عن انخفاض الواردات من 17 مليار دولار في عام 2018 إلى ما يقدر بـ4 مليارات دولار في عام 2020.
من جهة أخرى، سيستمر المغتربون في إرسال العملات الأجنبية إلى ذويهم من خلال القنوات المصرفية وغير المصرفية. ومن يستطيع الهجرة سيفعل كذلك، ليقوم بدوره بإرسال الأموال إلى أفراد الأسرة الذين تفقروا الآن. وسيعاد توازن ميزان المدفوعات على المدى المتوسط بتكلفة مجتمعية ضخمة من خلال الإفقار والتهجير.
سيستقر الاقتصاد في النهاية عند توازن معين، لكنه سيكون بعيد كل البعد عن التوازن الأمثل، وسيكافح لبنان في ظل هذا التوازن لتحقيق إمكاناته الحقيقية على المدى الطويل. فمن المحتمل أن يكون النمو الاقتصادي بعد الاستقرار بطيئًا، وأن يصل الفقر إلى مستويات قياسية عالية. وقد وصف البعض ما يمر به لبنان بـ"العقد ضائع". لسوء الحظ، وفي ظل هذا الوضع الراهن حيث يتم فعل أي شيء، نتحدث عن جيل ضائع لا مجرد عقد.
ينصب الاهتمام في لبنان حاليًا على مسألة الدعم، الذي يتمحور حول مصرف لبنان المركزي الذي يضمن استيراد القمح والوقود والأدوية والأجهزة الطبية من خلال توفير 85٪ من التكاليف بسعر صرف 1507.5، بينما يزيد سعر الصرف الفعلي عن 8000. وتم توسيع نظام الدعم هذا قبل بضعة أشهر ليشمل 200 مادة استهلاكية مضمونة بسعر 3900، مما يؤدّي إلى حرق الاحتياطيات المتضائلة بسرعة، والتي وصلت إلى 17.8 مليار دولار، منها 17 مليار دولار احتياطيات إلزامية يقول البنك المركزي أنه لا يمكن المساس بها لأنها تمثل 15٪ من ودائع العملاء.
لا يتطلب الأمر كثيرًا من المعرفة لإدراك أن الدعم الشامل لسلع معيّنة هو من الاقتصاديات السيئة. تشير الأدلة من حول العالم أن معظم منافع هذا الدعم تذهب للـ20% من السكان الأعلى دخلًا. أمّا دول الرفاهية الناجحة فتميل إلى توفير حماية اجتماعية وشبكات أمان شاملة مجربة بالوسائل، بالإضافة إلى توفير الرعاية الصحية والتعليم في جميع المجالات. ويمكن للمرء أن يجادل بأن تكلفة توفير شبكة أمان اجتماعي شاملة كهذه ربما كانت أقل، وأكثر تعظيمًا للرفاهية من دعم سلع معينة.
ومع ذلك، يتحمل البنك المركزي تكلفة الدعم الحالي من خلال احتياطياته المتضائلة، وليس من خلال ميزانية الحكومة. إن الانتقال إلى حماية اجتماعية أكثر شمولاً تم اختبارها بالوسائل من شأنه نقل تكلفة الدعم من احتياطيات البنك المركزي إلى ميزانية الحكومة، التي تعاني من عجز مزدوج (حوالي 12٪ اعتبارًا من 2018). وفي غياب الإصلاح المالي، فإن نقل التكلفة إلى الميزانية من شأنه أن يوسع العجز بشكل كبير، عجز لن يتم تمويله إلا من خلال تمويل البنك المركزي وطباعة العملة وبالتالي ارتفاع مستويات التضخم التي ستصيب الأفقر في المجتمع.
لذا، لا يمكن النظر إلى قضية الدعم بمعزل عن غيرها، بل من ضمن إطار سياسي واجتماعي اقتصادي ومالي كلي أوسع، حيث لا جدوى للإجراءات الجزئية، وهي في أحسن الأوقات قد تشتري مزيد من الوقت. يجب وضع إصلاح الدعم في سياق إصلاح نظام الرعاية الاجتماعية شبه المعدوم في لبنان لتوفير حماية اجتماعية شاملة ومُختبرة بالوسائل. يجب وضع توفير الحماية الاجتماعية وشبكات الأمان في سياق الإصلاح المالي الذي يحرر الحيز المالي نحو الإنفاق الاجتماعي دون فرض ضريبة تضخم على السكان من خلال تمويل العجز الكبير. ويجب أن يرتكز الإصلاح المالي على إطار عمل مالي كلي أوسع يعيد استقرار الاقتصاد ويوقف الانهيار الاقتصادي ويعيد الاقتصاد إلى مساره، أي نحو مسار نمو مستدام ومنصف يوفر الرخاء الذي يستحقه الشعب اللبناني. وكل هذا يتطلب قرارات سياسية جريئة وصعبة بشأن تقاسم الأعباء المجتمعية. سيكون هناك رابحون وخاسرون في هذه العملية، وللأسف لن يخرج أحد منها سالمًا.
محمد فاعور
المراجع:
تقرير آفاق الاقتصاد العالمي: مسار الصعود الطويل، تشرين الأول/أكتوبر 2020: https://www.imf.org/ar/Publications/WEO/Issues/2020/09/30/world-economic-outlook-october-2020
Central Administration of Statistics: http://www.cas.gov.lb/index.php/economic-statistics-en