
يوم آخر في عالم متخيل – منار زعيتر

يوم آخر في عالم متخيل – منار زعيتر
استجابت سلمى من غزة،
وهدى من لبنان، وإيمان من السودان، وندى من تونس، ومايا من سوريا، وعائدة من
ليبيا، وغنوة من اليمن، ونساء أخريات من دول المنطقة لدعوات الاحتفال بيومهنّ العالمي.
هكذا أخبرتهنّ الروزنامة ووسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي والمنظمات والحكومات:
إنه يوم المرأة.
كانت لحظات متخيلة للفرح،
قبل أن تنظر كل منهن إلى واقعها. حرب دموية لم تنته فصولها، وإبادة جماعية شكلت انتهاكاً فاضحاً للقانون الدولي، ودعوات إلى وضع اليد على غزة وتهجير سكانها. قلق كبير
حيث يستمر الجيش الإسرائيلي في خرق وقف إطلاق النار في لبنان ويسعى إلى التمسك في
احتلال بعض النقاط. حرب دموية في امتدادها وتأثيرها على حياة
السودانيّين والسودانيّات وفي حجم الانتهاكات الجسيمة، ولا سيما العنف الجنسي بحق
النساء. انتكاسة للحريات وحقوق الإنسان في تونس. لحظة أمل وانتصار مع إسقاط النظام السوري السابق، يليها وضع انتقالي تتقاطع فيه مصالح
دول، ونفوس مشحونة بالانتقام على أساس مذهبي ودور إسرائيلي توسعي وتقسيمي، ووضع
مأزوم وغير مستقر في اليمن وليبيا والعراق.
وكانت لحظات أخرى مشتهاة للاحتفال، قبل أن تنضم
لهؤلاء النسوة أخريات من باقي دول المنطقة، ويُضفن إلى الصورة مشهداً آخر خاصّاً
بكل ما يواجهنه من تمييز وعنف سياسي واقتصادي وجنسي ومعنوي وجسدي، في الأسرة
وخارجها. عنف وتمييز تجَّذرهما القوانين، ويحميهما المجتمع، وتدافع عنهما المؤسسات
جميعها، وتأخذ منهما السلطات موقف الحياد.
هذه اللحظات والمشاهد
المتخيلة تتطلّب التفكير أو محاولة التفكير. فنحن بأمسّ الحاجة إلى ذلك في هذه
الأيام، لا بسبب القلق أو الاضطراب أو الموقف النسوي غير الحاسم، إنما بسبب الواقع
الدولي والإقليمي والمتغيّرات المهولة والمتسارعة، التي لا يمكن إغفالها وإهمال ما
تطرحه من أسئلة ومن واجب السعي إلى البحث عن إجابات.
الثامن من آذار/ مارس
2025، يدفعني كنسوية من هذه البقعة من العالم إلى التفكير في هؤلاء النساء، وفي
حيواتهن اليومية، وفي البطولات التي تُطلق في مثل هذا النهار عليهن. هذا اليوم،
تملكني هاجس: ما الذي تريده النساء في هذه المنطقة؟ وهل يحق لي ولغيري ادعاء معرفة
أولوياتهن؟
لسنوات، تيقّنت أن حقوق الإنسان للنساء، العدالة الجندرية، العدالة الاقتصادية، والعدالة
المناخية للجميع، لا يمكن تحقيقها من دون تغيير نظامي، وأن "التعافي
النسوي" غير ممكن إذا لم يرتبط بأجندة واسعة للعدالة الاقتصادية تهدف إلى خلق
كوكب عادل وسلمي وصحي للجميع. وهذا يستدعي اقتصاداً نسوياً لا استعمارياً. ففيما
غالبية العالم الفقير من النساء، تتحمل النساء معظم أعباء الأزمات المتعددة. والفجوة
بين الأقلية التي تملك الحصّة الأكبر من ثروات العالم وموارده، وبين غالبية الناس
الذين يبقى لهم حصّة صغيرة جداً، باتت واسعة وعميقة وواضحة. فالعالم، الذي كان
يُزعم أنه كان على وشك القضاء على الفقر المدقع وتقليص التفاوتات، يتم دفعه إلى
مستويات غير مسبوقة من اللامساواة. وما تكشفه الأزمات العالمية الحالية هو العيوب
والانحرافات التي تأسس عليها النظام الاقتصادي الحالي. والأيديولوجيات التي استُخدمت
وتُستخدم لتبرير تراكم رأس المال لا تزال حية وتشكل نظاماً مترابطاً يجب مواجهته
وتفكيكه.
لسنوات، آمنت أن النضال من أجل حقوق النساء هو نضال ضد الاستبداد، ومن أجل بناء دولة
العدالة والمساواة. وما تقوم به الأنظمة من عنف ممنهج ضد النساء، ليس أمراً
عابراً، بل هو في صلب الحفاظ على الاستبداد. النسوية هي نضال سياسي مستمر ضد الأنظمة والبنى المرسخة للهيمنة والاستغلال
واللامساواة واللاعدالة. وبهذا المعنى، فإن النسوية، التي لا تنفصل عن القضايـا
الوطنيـة، ليست مجرد نضال
من أجل حقوق النساء، بل هي نضال مستمر من أجل المساواة عبر جميع الهويات المهمشة. وما ترسيه السياسات الراهنة، هو نموذج ضيق يهمّش مقاربات نسوية
أخرى تحاول فهم ما تواجهه النساء. ويعتقد أصحاب هذا النموذج أن عليهم توجيه مسار
الحركات النسوية في دول العالم باعتبارهم من يملك مفاتيح المعرفة. وغالباً ما
أعدنا جميعنا بشكل طوعي وبنسب متفاوتة إنتاج ذاك النموذج، وعكسناه في رؤيتنا للمجتمعات
المحلية وعلاقاتنا بها.
لسنوات
كنت أراقب ازدواجية غريبة: تفوق عدد النساء على عدد الرجال في التعليم
العالي في العديد من البلدان العربية. مع ذلك، فإنّ مستوى مشاركة النساء في القوى
العاملة هو من بين أدنى المعدّلات في العالم. أي أنّ مجتمعاتنا "تنتج"
نساءً متعلماتٍ ولكن يتمّ إبقاؤهنّ تحت السيطرة، مما يضمن إعادة إنتاج المجتمع من دون
السماح للنساء بالمساهمة في مسارات التنمية. تصبح الغالبية العظمى من النساء
المتعلّمات أمّهاتٍ قادراتٍ على تعليم أطفالهنّ، ويصبحن مقدّمات رعايةٍ إلى حدٍّ
ما. يضع النظام السياسيّ الاقتصاديّ النساء في مركز عمليّة إعادة إنتاج المجتمع،
بينما يتحكّم في استقلاليتهنّ. إن تصوير النساء باعتبارهنّ ضامناتٌ لتعليم الأطفال
جعلهنّ ضروريّاتٍ في حياة الأمّة، لكنّه لم يكن تحررياً للنساء. لقد أعطى النساء
دوراً محدّداً لكنّه أبقاهنّ في قفصٍ من أجل الحفاظ على أنظمة القوّة المرغوبة
وإعادة إنتاجها. من هنا، فإن السعي لتحقيق القوّة الاقتصاديّة وعلاقتها بأجساد
النساء يقودنا إلى دراسة العمل الرعائيّ بشكل نقديٍّ. لن تستمر الأنظمة
الاجتماعيّة والاقتصاديّة الحاليّة من دون المساهمة الكبيرة لمقدّمات ومقدّمي
الرعاية غير المأجورة. هؤلاء هنّ في الغالب نساءٌ وفتياتٌ. بالتالي، فإنّ إعادة
إنتاج أنظمتنا الاقتصاديّة تعتمد جزئيّاً على استغلال أجساد النساء والتقليل من قيمة
أدوار الرعاية. إنّ أعباء الاقتصادات النيوليبرالية بما في ذلك هياكلها ومؤسّساتها
وعمليّاتها والواقع المعيشيّ، تشكّل بعمقٍ حياة الفئات المهمّشة.
لسنوات،
انطلقت في عملي من المعايير الدولية الإنسانية لحقوق النساء. واليوم، أواجه نفسي
بسؤال يومي حول شرعية هذه المعايير. فهل نتخلى عنها أم نتمسك بما لدينا؟ وتوصلت إلى انه حتى لو كانت
التعددية لم تضمن دائماً علاقات عادلة بين الشمال والجنوب، وحتى لو كانت ازدواجية
المعايير عناوين كل المراحل السابقة، فإن فقدان هذه الآليات ليس أمراً جيداً لنا. ومع تراجع ساحات التعددية، فإننا سنخسر مساحات مهمة من النقاش العام
والنضال من أجل المعايير العابرة للحدود، ومن أجل العدالة والمساواة الجندرية.
لسنوات،
تمسّكت بأهمية التضامن في عالم متزايد العولمة. إن
عدم المساواة بين الجنسين هو قضية عالمية تتجاوز الحدود الجغرافية والثقافية
والاجتماعية والاقتصادية. ولأنّ
"حياة كل امرأة مهمّة"، فإنّ على النسويات أن يُؤسّسن لحركةٍ نسويّةٍ
تضامنيّة. منطلقها الأساسي حق الشعوب في تقرير مصيرها.
اليوم، في الثامن من آذار/مارس 2025، أعي أن الخطاب السائد يختزل
احياناً النساء في المنطقة بوصفهن الفقيرات غير المتعلمات المقيدات بالمنزل
والتقاليد، اللواتي يحتجن إلى التمكين. وقد استبعد هذا الاختزال السياقات المركبة لحياة النساء، وألقى المسؤولية عن العنف وعدم
المساواة على البنية الثقافية الأبوية فحسب، متجاهلاً الميراث الكولونيالي والواقع
الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. وغضَّ النظر عن العنف المؤسسى الذي
تتسبب به سياسات المؤسسات الاقتصادية الكبرى، في إقراضها لدول المنطقة، وفي
تعاملها مع أنظمة دول هذه المنطقة.
تعنيني اليوم كثيرا مشاركة النساء في اتخاذ
القرارات، بوصفها قضية أساسية. ولكني أعي أهمية المقاربة من ضمن نهج متعدد الأبعاد، يسعى إلى تحويل هياكل السلطة الأساسية، ويسهم في
تفكيك الحواجز التي تعرقل المشاركة الكاملة للنساء. ويقدم مفهوماً مختلفا للأجندة
النسوية السياسية.
في الثامن من آذار هذا العام، أدرك أكثر من أي
وقت مضى أهمية عودة العمل النسوي المناهض للهيمنة وللأبوية وللرأسمالية، من خلال بذل
مزيد من الاهتمام في فهم السياق والمجتمع والتاريخ، وكذلك في فهم ديناميات
الأنظمة الأبوية التي
تكرسها المؤسسات الثقافية، اللغة، الدين، الإعلام، الثقافة الشعبية، التعليم،
والأسرة. وهنا، اعتقد أنه تترتب علينا تعزيز معرفتنا وتحليلنا للهياكل الاجتماعية
والسياسية. هذا الفهم يجعلنا أكثر قدرة على التغيير، بدلاً من "فرض
استراتيجيات مصممة لنا". أن التحرر هو عملية تعليمية مستمرة، والحركة النسوية
في المنطقة قادرة على قيادة هذا المسار، وبوسعها تفكيك كل السرديات.
اليوم،
قلبي وعقلي مع نساء غزة وكل فلسطين المقاومات الصامدات، بوجه حرب شُنَّت لمحو الفلسطينيين من الوجود وشطب حضورهم في التاريخ
والذاكرة. مع نساء لبنان المتعبات، مع نساء سوريا الحالمات الخائفات، مع نساء كل دول المنطقة الطامحات لدول تحترم حقوقهن.
اليوم،
أرغب في أن احتضن كل نساء السودان لابكي كل العنف الذي مورس على أرواحهن وأجسادهن.
اليوم،
وفيما يرهقني التفكير دون التوصل لإجابات، أرغب في الصراخ من أجل كرامة نساء ورجال
وفتيات وفتيان هذه البقعة من العالم.