مؤتمر إشبيلية لتمويل التنمية: إنجازات محدودة وإخفاقات تعكس موازين القوى العالمية - أحمد عوض
بعد انتهاء أعمال المؤتمر الدولي الرابع لتمويل التنمية (FfD4) في مدينة إشبيلية الإسبانية، بدأت تتضح أكثر ملامح ما تمخض عنه هذا الحدث الأممي الكبير، الذي جاء في لحظة حرجة تسعى فيها دول العالم إلى تسريع تنفيذ خطة التنمية المستدامة 2030،ومعالجة الأزمات الاقتصادية المتفاقمة، وإصلاح بنية النظام المالي الدولي.
الوثيقة الختامية للمؤتمر، المعروفة باسم "التزام إشبيلية"، شكلت خارطة طريق جديدة في بعض الجوانب، لكنها كشفت أيضًا عن عمق الخلل في ميزان القوى، وعن استمرار الهيمنة "النيوليبرالية" على توجهات التنمية، الأمر الذي أثار خيبة أمل واسعة لدى قطاعات واسعة من منظمات المجتمع المدني الحقوقية والتنموية في مختلف أنحاء العالم والعديد من دول الجنوب العالمي.
رغم الانتقادات الكثيفة التي وُجهت للمخرجات النهائية للمؤتمر، إلا أن هناك نقاطًا إيجابية لا يمكن إنكارها، وقد لاقت ترحيبًا من عدد من الجهات الحقوقية والنقابية.
من أبرز هذه الإنجازات، التركيز على العمل اللائق والحماية الاجتماعية، حيث دعا "التزام إشبيلية" إلى زيادة الاستثمار في القطاعات الإنتاجية، وتعزيز اقتصاد الرعاية، وخلق فرص عمل لائقة، والعمل على إدماج الاقتصاد غير المنظم (غير الرسمي) في الدورة الاقتصادية الرسمية، وقد تم تحديد هدف واضح يتمثل في رفع تغطية الحماية الاجتماعية في الدول النامية بنسبة 2% سنويًا.
كما نصّت الوثيقة على تعزيز تعبئة الموارد المحلية، من خلال مضاعفة دعم الشركاء الإنمائيين لجهود الدول النامية في زيادة الإيرادات الضريبية بحلول عام 2030. ويُعد هذا التوجه خطوة ضرورية لتقليل الاعتماد على الديون والمساعدات المشروطة.
وفي مجال التكنولوجيا، اقترحت الوثيقة إنشاء آلية أممية لتقييم التأثيرات الاجتماعية والبيئية للتقنيات الناشئة، مثل الذكاء الاصطناعي والعملات الرقمية، قبل اعتمادها على نطاق واسع. ورغم أن المقترح لا يزال عامًا، إلا أنه يعكس وعيًا متناميًا بالحاجة إلى تنظيم الابتكارات بما يحمي حقوق الشعوب وبيئتها.
لكن هذه الإنجازات، رغم أهميتها، لم تكن كافية لتغطية القصور الجوهري في الوثيقة، والذي وصفته منظمات المجتمع المدني بـ"الفشل السياسي" و"الخذلان الصريح" لشعوب الجنوب العالمي.
لقد فشلت الوثيقة في تبني آلية عادلة وشفافة لتسوية الديون السيادية، كما تم إفراغ مقترحات إصلاح هيكل الديون من مضمونها خلال المفاوضات. وفي هذا السياق كان واضحًا أن الدول الدائنة، خصوصًا في الشمال العالمي، مارست نفوذًا أدى إلى تعطيل أي فرصة لتحقيق انفراجة حقيقية للدول المثقلة بالديون.
استمرت الوثيقة في تبني نهج "التمويل الخاص أولًا"، رغم الإخفاقات السابقة لهذا التوجه في دعم التنمية المستدامة. فقد ساهم هذا النهج في تعميق التفاوتات، وزيادة مديونية الدول، وإضعاف قدرة الحكومات على تقديم الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم لمواطنيها، كما غابت أي التزامات صارمة تلزم القطاع الخاص باحترام حقوق الإنسان أو معايير العمل اللائق.
على الرغم من الإشارة إلى ضرورة توفير تمويل مناخي سنوي بقيمة 4 تريليونات دولار، إلا أن الوثيقة تجنبت الالتزام بتفاصيل حاسمة مثل التخلص التدريجي من دعم الوقود الأحفوري. كما لم تتضمن إجراءات واضحة لإعادة تخصيص حقوق السحب الخاصة (SDRs) لتمكين الدول النامية من مواجهة الأزمات المناخية والاقتصادية.
أثار غياب المجتمع المدني عن المفاوضات النهائية، وضعف الشفافية في إعداد الوثيقة، انتقادات واسعة. وقد عبّر إعلان منتدى المجتمع المدني، الذي عُقد بالتوازي مع المؤتمر، عن خيبة أمل كبيرة، معتبرًا أن "التزام إشبيلية" لم يرتقِ إلى مستوى الطموحات، بل عمق الفجوة بين الشمال والجنوب.
في ضوء ما سبق، فإن المطلوب اليوم ليس تحسنًا طفيفًا، بل تحولًا جذريًا في مقاربات تمويل التنمية، ومن أبرز الأولويات التي يجب العمل عليها: إصلاح هيكل الديون السيادية من خلال إنشاء آلية دولية عادلة لتسوية الديون تحت إشراف الأمم المتحدة، تضمن الشفافية وتحترم حقوق الإنسان دون فرض سياسات تقشفية. إضافة إلى ضرورة تبني نظام ضريبي عالمي عادل يفرض ضرائب عادلة على الأرباح العالمية وخاصة في الصناعات الملوثة للبيئة، من خلال اتفاقية أممية للتعاون الضريبي الدولي. وكذلك تنظيم الاستثمارات الخاصة من خلال قواعد إلزامية تحكم التزام الشركات بمعايير العمل وحقوق الإنسان وحماية البيئة، بما في ذلك التوصل إلى معاهدة دولية ملزمة لتنظيم الشركات متعددة الجنسيات. إلى جانب ذلك إعادة هيكلة التعاون الإنمائي على أسس العدالة والمساءلة المتبادلة، بعيدًا عن منطق الإحسان، وبما يعزز التعاون بين دول الجنوب نفسها. والضغط من أجل عدالة مناخية حقيقية، تشمل التخلص من الوقود الأحفوري وزيادة التمويل العام للمناخ، إلى جانب المطالبة بتعويضات بيئية من دول الشمال.
خلاصة الأمر، لقد كان مؤتمر إشبيلية فرصة ضائعة من حيث الطموح، لكنه كان أيضًا نقطة انطلاق جديدة للنضال من أجل عدالة اقتصادية عالمية. إن "التزام إشبيلية" لا يمكن أن يُعتبر نهاية المطاف، بل هو مجرد بداية لمسار طويل يجب أن تقوده شعوب الجنوب العالمي بإرادة موحدة واستراتيجية واضحة.
وفي الوقت الذي تستعد فيه الأمم المتحدة لعقد مؤتمر تمويل التنمية الخامس (FfD5) عام 2030، ينبغي أن يكون الهدف هو إعادة تعريف تمويل التنمية كأداة للتحرر الاقتصادي وليس كأداة للهيمنة والتقييد. فالوقت حان لاستعادة السيادة الاقتصادية، وبناء نظام عالمي أكثر عدلًا وإنصافًا للأجيال القادمة.