مأزق النسوية بين التضامن والتشارك - د. عزة الحاج سليمان
فرضت حرب الابادة التي شنت على غزة، نفسها على الخطاب النضالي في الدول العربية والعالم، وألقت بثقلها على مساءلة الحراك النسوي في مواجهة الظلم على اشكاله المختلفة، وبشكل خاص الظلم الواقع على المرأة الفلسطينية بسبب الاستعمار والاحتلال، ناهيك عن الحروب.
أدت هذه المواجهة الى لحظة وعي لدى النسويات اللواتي اعتقدن ان نمط النضال الذي ساد منذ اتفاقية بيكين، والبرامج التي عُمّمت على شعوب دول العالم الثالث عقب إعلان خطة التنمية المستدامة، هو نضال حرّ يسهم في الوصول الى نهضة متشابكة بين الحراك النسوي الغربي والمحلي.
كشفت هذه الحرب أن القوانين الدولية وأدوات تطبيقها، التي يفترض أنها وضعت لحماية النساء، انقلبت عليهن. واستخدمت مختلف القوانين الدولية ومعايير المساواة كعنصر من عناصر النزاع، وتفعّلت لمصلحة الدول التي وضعتها وشركائها بعيداً عن مصلحة الشعوب. وما التماس المناضلات العربيات على أثر الإبادة لازدواجية المعايير في تطبيق القانون الدولي إلا دليل على كيفية استخدام القوانين في مواجهة الحقوق المنشودة للشعب الفلسطيني. كما أظهرت هذه المحطة التاريخية المفصلية دوراً أساسياً للمرأة الفلسطينية في مواجهة الاحتلال والإبادة ومحاولات طمس الهوية، وذلك من خلال دورها الإنجابي والرعائي، فكانت المرأة الولادة هي النموذج الذي يعكس الإصرار على استمرار الوجود على هذه الأرض. وما الادوار الرعائية التي قامت بها، سواء داخل الأسرة أو في المراكز الصحية أو المؤسسات التربوية، إلا الآلية التي اعتمدت طوال القرن الماضي للاستمرار والمحافظة على الهوية رغم كل محاولات طمسها في البرامج الدولية والسلطوية المحلية. كما برزت أهمية الثقافة الدينية في قدرتها على الصمود أمام آلة الحرب الصهيونية المستمرة منذ قرن. تتزامن هذه المرحلة مع تحولات دولية وعالمية على مستوى إدارة المجتمعات وتنميتها، وعلى مستوى أدوات الحكم كنموذج "مستحدث" للديمقراطية المعولمة، ومن أهم أدوات هذا الحكم القواعد القانونية.
من أجل فهم هذه الأزمة يتوجب علينا قراءة مسار العمل النسوي في بعده القانوني والحقوقي، ضمن سياق تحول السياسات الدولية.
استفادت الحركة النسوية في تلك المرحلة من الحراك الاجتماعي في ثورة 68 لتحقيق إنجازات وحقوق نسوية ذات الطبيعة الفردية تمثلت بحق المرأة على جسدها، ما أدى إلى انقسام النسويات بين من يعتبرها جزءاً من الانجازات الليبرالية الفردية ومن أصر على ربطها بالنضال الاجتماعي الاقتصادي المرتبط بالحركة العمالية. لم يشكل هذا الانقسام عائقاً أمام نجاح النسويات من تحقيق إنجازات مهمة للنساء على مستوى المواطنة، مستفيدة من الضمانات المكفولة حينها ضمن دولة الرعاية.
سار التوجه العالمي، مع سقوط النظام الشيوعي، في مرحلة العولمة والنيوليبرالية، نحو المزيد من الحريات الفردية التجارية وضعف النضال الجماعي. وتزامن ذلك مع تبني الحراك النسوي، الدور الانتاجي المتميز بخصائص الرعاية النسائية بدلاً من الإنجابي، وارتضت بموجبه إدخال النساء كعنصر من عناصر السوق.
شكلت هذه المرحلة تحديا إضافيا للحركة النسوية، تضافرت الجهود العالمية للبحث عن قضية جامعة للتيارات النسوية المختلفة، وكانت اتفاقية سيداو ركيزة لتحديد توجه موحد، من خلال وضع معايير شاملة لمواجهة الظلم والقمع. يعاب على النسوية العربية أن انخرطت في هذا الخطاب دون نقده أو تفكيكه، إذ ارتبطت الأدبيات المستخدمة بالمعايير المحددة في الوصفة المنبثقة عن النموذج "الحضاري الغربي". وعُمم الخطاب ضمن مقاربة شمولية لا تقارب تحديات الشعوب الخاضعة للاحتلال والساعية للتحرر إلا من منظار رفض القواعد الاجتماعية التقليدية والدينية من منطلق طبيعتها الذكورية.
نبني هذا الخلل على الملاحظات التالية:
• يتميز البعد النيوليبرالي في طبيعته المبنية على الحريات القصوى وفي طليعتها الحريات التجارية ومواجهة الضوابط القانونية المحلية ذات الطبيعة الحمائية. فقد القانون قوته الردعية بفعل ثقافة الحريات المتزادية، دخلت الحماية الاجتماعية ضمن ما عرف بالقواعد اللينة لتحقيق التنمية المستدامة. هذه القواعد تجد جذورها بالتوصيات نحو اعتماد قرارات أخلاقية ذاتية، أو نحو قواعد اتفاقية تفترض التوازن بين الأطراف المتوافقة، وهي المنطلق الذي تفتقده الفئات المهمشة.
• توجه النضال نحو مواجهة الظلم الصادر عن سلطات الدولة، وبشكل خاص تلك التي لا تتمتع بوصفة الديمقراطية. واستفادت الحركة النسائية من أطر الحرية الفردية فحققت نجاحات فردية، بينما خسرت النساء باعتبارهن فئة اجتماعية ضعيفة الضمانات التي كانت محققة ضمن ما عرف بالنظام العام الاجتماعي. نشأ شرخ بين فئات النساء المستفيدات من الحريات الفردية، وتلك اللواتي يعشن في واقع مهمش، ووجدن في القواعد الدينية حاميا، باعتبارها أحد مصادر القواعد الأخلاقية.
وازدادت الانقسامات والصراعات بين حقوق فئات مختلفة من النساء من جهة، وبين حقوق
النساء والقوانين المحلية من جهة ثانية.