

لبنان وصندوق النقد الدولي: أزمة إرادة - د. خليل جبارة
منذ تشرين الأول/أكتوبر 2019، غرق لبنان في واحدة من أطول وأشد الأزمات الاقتصادية والمالية وطأةً على مستوى العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر. اندلعت الأزمة في عام 2019 نتيجةً تراجع تدفقات رأس المال التي طالما دعمت النموذج الاقتصادي غير المستدام. وتجلّت الأزمة في مزيجٍ مدمر من التخلف عن سداد الديون السيادية، وانهيار القطاع المصرفي الذي جعل الودائع غير قابلة للسحب، وخسارة العملة لأكثر من 98 بالمائة من قيمتها، والتضخم المستمر الذي يفتت المداخيل، وارتفاعٍ كارثي في معدلات الفقر والبطالة. انهارت مؤسسات الدولة في السنوات الأولى من الأزمة، وأصبحت عاجزة عن توفير أبسط الخدمات.
حافظ صندوق النقد الدولي على وجودٍ دائم على مدار تاريخ لبنان الحديث، حيث قدّم في البداية المساعدة الفنية وأجرى تقييمات اقتصادية منتظمة من خلال مشاورات المادة الرابعة. ومع ذلك، فقد تغيّر دور الصندوق بشكل كبير منذ الانهيار الاقتصادي عام 2019 وأول تخلف سيادي للبنان على الإطلاق في آذار/مارس 2020. وأصبح يُنظر إليه على أنه المرساة التي لا غنى عنها لأي حزمة إنقاذ مالي محتملة، حيث يحمل مفتاح موارده الخاصة وفتح مليارات الدولارات من المساعدات التي تعهد بها المانحون الدوليون الآخرون. وقد أدى هذا التطور من مشخّص إلى حارس بوابة إلى زيادة كبيرة في الرهان على علاقة لبنان مع صندوق النقد الدولي.
تتناول هذه المقالة العلاقة الخلافية بين صندوق النقد الدولي ولبنان منذ حقبة إعادة الإعمار بعد الحرب الأهلية وحتى الوقت الحاضر. وتجادل بأنه في حين أن صندوق النقد الدولي كان قد شخّص باستمرار نقاط الضعف الهيكلية الاقتصادية الأساسية في لبنان واضعّا الوصفات للإصلاحات اللازمة، إلا أن المصالح السياسية والمالية القوية الراسخة حالت دون حدوث تغيير اقتصادي ومالي ذي معنى. وقد أدى الفشل التراكمي في معالجة الاختلالات الأساسية على مدى عقود في النهاية إلى تعجيل الأزمة الكارثية الحالية، مما ترك لبنان محاصرًا بين ضرورة تدخل صندوق النقد الدولي وهيكل سياسي محلي غير قادر على تلبية الشروط المطلوبة.
اقتصاد لبنان السياسي غير المستدام بعد الحرب
بعد انتهاء الحرب الأهلية، انطلق لبنان في مسار إعادة إعمار أعطى فيها الأولوية لإعادة بناء البنية التحتية، والتي غالبًا ما مُوّلت من خلال كثرة الاقتراض، بهدف جذب تدفقات رأس المال الأجنبي. وشملت الاستراتيجيات الرئيسية الحفاظ على أسعار فائدة مرتفعة، والاستفادة من قوانين السرية المصرفية، وربط الليرة اللبنانية بالدولار الأمريكي.
وكان التركيز قد انصب بشكل كبير على تطوير اقتصاد الخدمات، وخاصةً العقارات والخدمات المصرفية، غالبًا على حساب الاستثمار في القطاعات الإنتاجية كالصناعة والزراعة. وبينما سهّلت هذه المقاربة فترةً أوليةً من التعافي وإعادة الإعمار، وارتفاع نسب رأس المال إلى الناتج المحلي الإجمالي، إلا أنها، وفي الوقت نفسه، رسّخت نقاط ضعف هيكلية عميقة. وأصبح العجز المالي الكبير مزمنًا، مدفوعًا بالإنفاق على إعادة الإعمار، والدعم الحكومي، والتكلفة المرتفعة لخدمة الدين العام المتنامي بسرعة. وفي الوقت نفسه، ظهر عجز تجاري كبير ومستمر، يعكس الاعتماد على الواردات الممولة من تدفقات رأس المال بدلاً من الإنتاج المحلي. وبحلول أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، بلغ متوسط الدين العام 150% على الأقل من الناتج المحلي الإجمالي. تعامل صندوق النقد الدولي مع لبنان طوال هذه الفترة من خلال المساعدة الفنية ومشاوراته الدورية بموجب المادة الرابعة بشكل رئيسي، بصفته جهة رقابية فاعلة. وقد أشارت تقاريره باستمرار إلى المخاطر المتزايدة قبل انهيار عام 2019 بوقت طويل. وأكدت توصيات صندوق النقد الدولي قبل الأزمة مرارًا وتكرارًا على الحاجة الملحة إلى تصحيح مالي مستدام للحد من ارتفاع الدين العام. وشملت التدابير المحددة التي نصح بها توسيع القاعدة الضريبية، وضبط النفقات من خلال إلغاء دعم الكهرباء الباهظ، وضبط فاتورة أجور القطاع العام، وتعزيز الإدارة الضريبية. كما أشار صندوق النقد الدولي إلى المبالغة في تقييم الليرة اللبنانية في ظل نظام الربط، مما أعاق تنافسية الصادرات، وسلط الضوء باستمرار على الحاجة الماسة إلى إصلاحات هيكلية عميقة، لا سيما في قطاع الكهرباء.
وكانت المخاوف الأوسع نطاقًا بشأن ضعف الحوكمة والفساد من المواضيع المتكررة أيضًا.
رسّخ هذا العصر فعليًا نموذجًا اقتصاديًا غير مستدام في جوهره. وأصبح الاعتماد على عجز مزدوج كبير، وارتفاع الدين العام، وتقلب تدفقات رأس المال، سمات مقبولة للاقتصاد اللبناني. وفي كثير من الأحيان، كان هذا الوضع الهش مخفياً وراء مؤشرات استقرار سطحية، مثل سعر الصرف الثابت واحتياطيات النقد الأجنبي التي تبدو مريحة التي يحتفظ بها البنك المركزي، والتي تدعمها الرواية المنتشرة عن "المرونة" اللبنانية الفريدة.
أدّى نظام الاقتصاد السياسي، الذي أفاد أصحاب المصلحة الرئيسيين، مثل البنوك التجارية والنخب ذات النفوذ السياسي، إلى خلق حوافز قوية لهذه الفئات للحفاظ على الوضع الراهن. ونتيجةً لذلك، ورغم التحذيرات الواضحة من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومؤسسات أخرى، فإن الفوائد قصيرة الأجل المتصورة للاستقرار والتكاليف السياسية الباهظة لتحدي هذه المصالح الراسخة القوية أدت إلى استمرار التقاعس عن إجراء إصلاحات جوهرية.
عُقدت مؤتمرات المانحين الدولية، ولا سيما باريس 2 (2002) وباريس 3 (2007)، لحشد الدعم، وبشكل أكثر تحديدًا، تمديد أجل نضج النموذج الاقتصادي غير المستدام. وتعهدت الحكومات اللبنانية في هذه المؤتمرات بإصلاحات جوهرية، بما في ذلك خصخصة أصول الدولة، وتدابير ضبط المالية العامة (مثل زيادة ضريبة القيمة المضافة، وخفض الدعم)، وتحسينات في الحوكمة، مقابل منح وقروض ميسرة بمليارات الدولارات. وقد وفرت مساعدات المانحين التي تم الحصول عليها في باريس 2 وباريس 3 تخفيفًا ماليًا مؤقتًا، لكنها فشلت في فرض تغيير في المسار الاقتصادي الأساسي.
بناءً على تقاسم السلطة الطائفي والتعاون النخبوي، أنشأ النموذج السياسي لما بعد الحرب نظامًا قوبلت فيه الإصلاحات التي تهدد شبكات المحسوبية الراسخة أو توزيع الريع الاقتصادي بمقاومة شرسة. في الوقت نفسه، اندمج حزب الله تدريجيًا في هذا النظام، وأصبح مشاركًا نشطًا في الاقتصاد السياسي، وقاوم الإصلاحات نتيجةً لذلك. بدأ هذا النموذج بالانهيار نهائيًا في عام 2019 مع تباطؤ تدفقات رأس المال الضرورية لتمويل العجز المزدوج وخدمة الدين وانعكاسها.
سياسة عدم وجود برنامج لصندوق النقد الدولي
جاءت إحدى الحوادث التي توضح علاقة
لبنان بصندوق النقد الدولي خلال التحضير لمؤتمر باريس 2. لم يؤيد صندوق النقد
الدولي خطة لبنان، بل على العكس، أبدى رفضه لها. وقد انعكس هذا الموقف في تقريره
الصادر في تشرين الأول/أكتوبر 2001 عن لبنان، والذي أكد على الحاجة الملحة
لإصلاحات مالية شاملة لخفض العجز ومستويات الدين العام. وتم تحديد تعزيز مرونة
القطاع المالي، وتعزيز الشفافية، واستعادة الثقة في السياسة النقدية كخطوات أساسية
لتحقيق الاستقرار الاقتصادي وحماية النظام المصرفي. كما حذّر التقرير من ارتفاع
تعرض البنوك التجارية للديون الحكومية، ومن ممارسة المصرف المركزي تمويل عجز
الموازنة العامة ضمن نظام سعر صرف ثابت. ورغم هذه التحذيرات، حصل لبنان على تمويل
من مؤتمر باريس الثاني، ويعود ذلك أساسًا إلى النفوذ الإقليمي لرئيس الوزراء
الراحل رفيق الحريري والسياق الجيوسياسي الأوسع.
وقد دفعت سياسة تأجيل الإصلاحات الضرورية المستمرة المجتمع الدولي إلى التوافق بحزم على ضرورة وجود برنامج لصندوق النقد الدولي كشرط مسبق لدعم الانتعاش الاقتصادي اللبناني وإعادة الإعمار بعد الحرب. وبعد قرار حكومة حسان دياب التخلف عن سداد ديونها السيادية المستحقة على سندات اليوروبوند لأول مرة في تاريخها في آذار/مارس 2020، طلب لبنان رسميًا المساعدة من صندوق النقد الدولي في أيار/مايو 2020. وأعد خطة للتعافي المالي في نيسان/أبريل من العام نفسه. ولم تتقدم المفاوضات مع صندوق النقد الدولي أكثر بسبب الخلاف الداخلي في لبنان بشأن تقييم وتوزيع الخسائر الهائلة التي لحقت بالقطاع المالي.
توصلت الحكومة اللاحقة، برئاسة رئيس الوزراء نجيب ميقاتي، إلى اتفاق على مستوى الخبراء مع صندوق النقد الدولي في نيسان/أبريل 2022. وحدد هذا الاتفاق إطارًا زمنيًا محتملًا لـ "تسهيل الصندوق الممدد" (EFF) لمدة 46 شهرًا بقيمة تقارب 3 مليارات دولار أمريكي من حقوق السحب الخاصة. إلا أن الأهم من ذلك، أن هذا الاتفاق كان مشروطًا صراحةً: فالموافقة النهائية من المجلس التنفيذي لصندوق النقد الدولي وصرف الأموال كانا مشروطين بتنفيذ لبنان لسلسلة من الإصلاحات المحددة والهامة المعروفة باسم "الإجراءات المسبقة". وشملت هذه الإجراءات المسبقة استراتيجية لإعادة هيكلة المصارف، وقانونًا لتسوية أوضاع المصارف، وإصلاحًا لقانون السرية المصرفية، وتدقيقًا لمصرف لبنان، وتقييمات لكل مصرف على حدة، واستراتيجية مالية ودينية، وإقرار موازنة عام 2022، وتوحيد سعر الصرف، وتشريعات ضوابط رأس المال، وإصلاح قطاع الكهرباء.
على الرغم من الإلحاح الذي أكد عليه صندوق النقد الدولي والوضع الاقتصادي المتردي، إلا أن التقدم في تنفيذ هذه الإجراءات السابقة كان بطيئًا للغاية وغير كافٍ إلى حد كبير منذ نيسان/أبريل 2022. وقد تحقق توحيد سعر الصرف من خلال قيام المصرف المركزي بخفض سيولة المعروض النقدي في السوق، والعمل من خلال مجموعة من تجار العملات لإدارة عرض وتحصيل الدولار الأمريكي والليرة اللبنانية. وقد أُقرت ميزانية عام 2022 دون إطار اقتصادي كلي متين وبيانات مالية غير كافية. وفشلت حكومة ميقاتي في محاولاتها المتعددة لمناقشة واعتماد مشروع قانون حل المصارف أو مشروع قانون إعادة هيكلة المصارف. ونجحت جماعات المصالح المتأصلة مرة أخرى في عرقلة أي نقاش ذي معنى يتعلق بهذه المواضيع.
أكد البيان الوزاري لرئيس الوزراء الحالي نواف سلام صراحةً التزامه بالتوصل إلى برنامج مع صندوق النقد الدولي. وخلال اجتماعات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لربيع 2025، أوضح الوفد اللبناني أن السلطات السياسية والنقدية متفقة على أهمية التوصل إلى اتفاق مع الصندوق. وأقرت حكومة سلام مشروع قانون إعادة هيكلة المصارف، وصوّت مجلس النواب على تعديلات قانون السرية المصرفية. ويمكن اعتبار هذه الإجراءات دليلاً على جدية الحكومة تجاه المجتمع الدولي. ولا تزال هناك حاجة إلى إجراءات إضافية عديدة، مثل اعتماد موازنة عام 2026 تتجاوز مجرد المحاسبة، وتتضمن إطاراً اقتصادياً كلياً شاملاً يتضمن تدابير واضحة لتحفيز النمو الاقتصادي دون إثقال كاهل القطاع الخاص الرسمي، الذي يعاني أصلاً من ضغوط ضريبية. في المقابل، يُحقق الاقتصاد النقدي المتوسع والقطاع غير الرسمي أرباحاً غير مشروعة غير مسبوقة.
الطريق إلى الأمام: تجاوز المقاومة الداخلية
منذ الانهيار الاقتصادي والمالي في تشرين الأول/أكتوبر 2019، كان أحد الأسئلة الرئيسية التي لم يتم الإجابة عليها هو ما إذا كان بإمكان لبنان التعافي بدون برنامج من صندوق النقد الدولي. هل من سبيل لإعادة الاقتصاد اللبناني إلى مسار التعافي الاقتصادي، وتنشيط النمو الاقتصادي، وإعادة دمج البلاد في الأسواق المالية العالمية، وكسب ثقة المانحين الدوليين والإقليميين، والتفاوض على تسوية مع حاملي سندات اليورو دون برنامج من صندوق النقد الدولي؟
في دول الجنوب العالمي، يسود التشكيك في برامج صندوق النقد الدولي، لا سيما بسبب آثارها السلبية المتصورة. وقد شهدت العديد من دول أمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا تجارب سلبية مع تدخلات الصندوق، مما أدى إلى تجدد أزمات الديون، وإطالة فترات الركود، وانتشار السخط الاجتماعي. ويشجع صندوق النقد الدولي عادةً على نموذج اقتصادي يُعطي الأولوية لتحرير السوق، وإلغاء القيود، والتقشف المالي، مما يؤدي غالبًا إلى زيادة الاعتماد على رأس المال الأجنبي والواردات. ويمكن لتدابير التقشف، مثل خفض الإنفاق وزيادة الضرائب وخفض الدعم، أن تُضعف برامج الرعاية الاجتماعية وتزيد من تكلفة المعيشة.لكنْ غالبًا ما تُعطي سياسات صندوق النقد الدولي الأولوية لاستقرار الاقتصاد الكلي على العدالة الاجتماعية، مما يُفاقم اللامساواة في الدخل.
مع ذلك، في لبنان، لا تنبع معارضة برامج صندوق النقد الدولي في الأساس من الفئات الاجتماعية أو المجتمع المدني. وقد تكون هناك أسباب مختلفة لذلك، مثل ضعف الحركة العمالية، التي تشكلت لعقود من المصالح السياسية والطائفية. لكنْ ما يجعل الحالة اللبنانية مثيرة للاهتمام هو أن المجموعة الرئيسية التي تحتج صراحةً وتعارض بنشاط أي اتفاق مع صندوق النقد الدولي هي النخبة المصرفية والمالية.
منذ عام 2019، دار الصراع المركزي في لبنان حول توزيع الخسائر الكبيرة في القطاع المالي بين الدولة والبنوك التجارية والمودعين. وقد قدر صندوق النقد الدولي نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في لبنان بـ 164 بالمائة في عام 2024. والقضية الرئيسية هي مقدار خسائر القطاع المالي التي ستتحملها الحكومة كديون. يتطلب برنامج صندوق النقد الدولي أن يظل الدين قابلاً للإدارة ومستدامًا. إذا كان الهدف الأساسي للبنوك التجارية هو الخروج من الأزمة سالمة أو كـ"راكبين مجانيين"، فإن برنامج صندوق النقد الدولي ليس بالتأكيد المسار المناسب.
تنويه:
نُشر هذا المقال ضمن النشرة الشهرية بعنوان "سياسات صندوق النقد الدولي: لا قاعدة ثابتة". الآراء والأفكار الواردة هنا تعبّر عن رأي الكاتب/ة فقط، ولا تعبّر بالضرورة عن الموقف الرسمي للشبكة.
احدث المنشورات
