![](https://annd.org/uploads/publications/Humanitarian.jpg)
رغم التهدئة المزعومة: المعاناة الإنسانية في قطاع غزة مستمرة! تيسير محيسن
تيسير محيسن
![تيسير محيسن](https://annd.org/uploads/authors/300x300/Tayseer_Muhaisen.jpg)
رغم التهدئة المزعومة: المعاناة الإنسانية في قطاع غزة مستمرة! م. تيسير محيسن
أثناء كتابة هذا المقال كان عشرات الآلاف من النازحين في جنوب قطاع غزة يفترشون الأرض ويلتحفون السماء في انتظار السماح لهم بالمرور عبر شارعي "الرشيد" و"صلاح الدين" إلى بيوتهم في الشمال. يبدو أن "إسرائيل"، كعادتها، تراوغ متذرعة بأسباب واهية للتنصل من التزاماتها بموجب اتفاق تبادل الأسرى. في الواقع، كان لافتا أن يبرم اتفاق يجيز عودة النازحين إلى مناطق مدمرة، بلا بنية تحتية ولا منظومة خدمات ولا مساكن تكفي، علاوة على انعدام الأمن والسلامة (جراء الأوبئة والحيوانات المسعورة والركام واللصوص وشح المواد الغذائية). ولكي يكتمل سواد المشهد الإنساني والسياسي أطلق الرئيس الأمريكي تصريحات خطيرة حول "تطهير غزة" من سكانها.
بعد حوالي 15 شهرا، بات لفلسطيني القطاع (حوالي 70% منهم لاجئين) تجربة جديدة في النزوح والمعاناة والفقدان والجوع؛ وبالرغم من توقف إطلاق النار تستمر المعاناة وانعدام اليقين. إذ طوال الوقت تفاقمت حدة العدوان وقسوته؛ وفي النتيجة ازداد وضع النازحين سوءا؛ في منطقة تبلغ مساحتها أقل من ربع مساحة القطاع (شريط ساحلي من الزوايدة إلى شمال رفح، يطلق عليها الاحتلال مسمى "منطقة إنسانية").
تسبب العدوان غير المسبوق، في جعل غزة مكانا غير قابل للحياة. فقد أدى القصف المكثف والعمليات العسكرية إلى تدمير أحياء بأكملها، وتدمير البنية التحتية الحيوية. ارتفع عدد الضحايا إلى عشرات الآلاف، وكان من بينهم نسبة كبيرة من النساء والأطفال. لقد دمرت الحرب سبل العيش، واقتلعت الأسر، وهشمت منظومات الحكم وإدارة شؤون الحياة، وزادت من تفاقم الوضع الإنساني المتدهور أصلا.
لم يعد ثمة مكان آمن في القطاع، وإعادة إعمار ليست قريبة، سوف تستمر حياة النازحين والعائدين والمقيمين قيد المعاناة؛ حيث تزداد أساليب التحكم في دخول المساعدات وتوزيعها، تتفاقم الأزمات الإنسانية (الأمن الغذائي، الفقر متعدد الأبعاد، الطاقة، الصحة والتعليم والبيئة)، يتضرر التماسك المجتمعي وصناعة البنوك (أزمة السيولة النقدية)؛ ما يخلق بيئة طاردة تشجع على الهجرة، في حرب استهدفت كي الوعي ونزع الملكية.
ومن المؤلم أن عودة النازحين لا تشكل حلا لمجمل الأزمات المذكورة، إذ إن تدمير المنظومات والبنى الأساسية، وبقاء مخلفات أطنان من المتفجرات، يجعل من العودة غير آمنة وغير ميمونة.
مع نزوح أكثر من 1.9 مليون شخص، واضطرارهم للجوء إلى مراكز إيواء مكتظة تفتقر إلى الضروريات الأساسية، واجهت الآلاف من النساء والأطفال وذوي الإعاقة وكبار السن وغيرهم من مختلف الفئات والأعمار، تحديات جمة: نفسية واجتماعية ومعيشية في بيئة معقدة واضطرارية وخطرة؛ إذ فقدوا فيها المألوف والأمان والاستقرار، وانقطعت أو تضررت روابطهم الاجتماعية والإنسانية. وفي مواجهة كل هذه التحديات رُصدت عديد استراتيجيات التكيف، سواء تلك التي بادر إليها النازحون أنفسهم، أو تلك التي شجعت عليها الوكالات الإنسانية والمنظمات غير الحكومية المحلية والدولية: تحسين البنى التحتية للإيواء، البحث عن المساعدات الغذائية، ازدهار تجارة "البسطات" وأنشطة السوق عموما، استخدام أفران الطينة للخبيز، إدارة مشاريع صغيرة ومتناهية الصغر اعتمادا على مهارة موجودة وخبرة وفرصة متاحة (صالون حلاقة بدائي في كوخ، عمل معجنات، استخدام ألواح الطاقة الشمسية لشحن البطاريات والجوالات، إدارة مقهى صغير على الشاطئ وهكذا)، تسيير مبادرات التعليم البديل، السباحة بشكل شبه يومي وهو نوع من الاستحمام والاستجمام، قضاء أوقات طويلة في المقاهي أو محلات الانترنت والتواصل مع العالم الخارجي، تنشيط تقاليد العرف والعادة لفض النزاعات بين النازحين أو بينهم وبين المجتمع المضيف، تنفيذ مبادرات الإلهاء والترفيه والرياضة وخاصة مع الأطفال، تشكيل لجان الحماية المجتمعية، تنظيم جلسات الدعم النفسي، وهكذا.
مشكلة الأونروا
تعرضت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" إلى مضايقات شتى أثناء العدوان، قصفت مقراتها ومركباتها، وقتل وجرح عدد من موظفيها، قلص تمويلها، علاوة على تقييد دخول ممثليها إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة. اليوم تتواصل ملاحقتها عبر تنفيذ التشريع الأمريكي الذي حظر تمويلها، وأيضا عبر تطبيق القرار الذي تمّ تمريره داخل الكنيست الإسرائيلي، والذي من المتوقع أن يدخل حيز التنفيذ في 28 يناير الجاري. من النتائج المباشرة لما سبق تسريح حوالي 13 ألف موظف لدى الوكالة من قطاع غزة، انهيار الأنشطة الإنسانية حتى في حال استبدلت ببعض منظمات الإغاثة الدولية للقيام بوظائفها الأساسية (إبقاء 47 ألف طفل دون مدرسة، وحرمان أكثر من نصف مليون لاجئ من الخدمات الطبية). عدا عن الانتقاص من قرارات الشرعية الدولية الخاصة بحقوق اللاجئين الفلسطينيين، يخشى أن تستغل إسرائيل الأمر في فرض "صيغ الأمر الواقع" لإدارة القطاع في اليوم التالي. وبينما علق الأمين العام للأمم المتحدة بالقول "ليس هناك بديل عن الوكالة"، اعتبرها أحد المشرعين الإسرائيليين جزءا من المشكلة لا جزءا من الحل!
في المساعدات
لما كان الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي
ممتدا منذ عقود؛ فإن عواقب الحرب الأخيرة، من منظور إنساني وحقوقي، ستكون وخيمة،
فورية وتراكمية. انطوت تجربة سكان القطاع على معاناة مباشرة نتيجة للهجمات
والحرمان والنزوح، والمزيد من المعاناة غير المباشرة بسبب التدهور التراكمي
للخدمات الأساسية وفرص الحياة وسبل العيش. ولذا، كانت الحماية والمساعدة وضمان
الحد الأدنى من الكرامة من أولويات العمل الإنساني.
يعد قطاع غزة من بين المناطق الأكثر كثافة في العالم؛ يعيش ما يقرب من 2.3 مليون فلسطيني، على مساحة 365 كيلومترا مربعًا. طوال الوقت عانى القطاع من أزمات بنيوية، واعتمد 80% من سكانه على المساعدات الخارجية، في ظل انتشار الفقر والبطالة، وتدهور وانهيار المؤسسات المدنية والسياسية، وانعدام الأمن الغذائي، وتدهور البيئة المحلية، وانخفاض إمكانية الوصول إلى أبسط الحقوق والخدمات.
خلال العدوان ظهرت قضايا مهمة فيما يتعلق بالمساعدات، منها: التحكم والتسييس والعسكرة (من المنع إلى فرض القيود إلى التحكم في الأصناف والكميات واستهداف أفراد التأمين والمخازن والشاحنات) وجعلها أداة للضغط وابتزاز المواقف. ورغم ووقف إطلاق النار، إلا أن مئات الأطنان من المساعدات لا زالت عالقة على المعابر الحدودية.
اعترفت الأمم المتحدة بأن توزيع المساعدات في غزة يشكل "تحديا كبيرا". وقد صرح الأمين العام للأمم المتحدة بأن الطريقة التي تدير بها إسرائيل هجومها تعرقل وصول المساعدات. هذا وقد ذكر بيان مشترك لمنظمات اليونيسف والصحة العالمية وWFP أن الكمية المحدودة من المساعدات التي تصل إلى غزة لم تكن قادرة على منع "المزيج القاتل من الجوع وسوء التغذية والمرض".
وبينما يواصل العالم صمته، يتفاخر نتنياهو متبجحا: "نقدم الحد الأدنى من المساعدات الإنسانية؛ ... إذا أردنا تحقيق أهدافنا الحربية!". ولا عجب، فثلثي اليهود الإسرائيليين يعارضون إدخال المساعدات إلى عزة.
في الختام، يجدر القول ان أكثر ما آلمنا في هذه الحرب التباس المعاني وتفكيك المنظومات (إعادة الأشياء والبشر والعلاقات إلى ما قبل العائلة والدولة والمجتمع المدني ونظم الحياة المدنية الحديثة). فبينما تزداد الهوة، يوما بعد يوم، بين الواقع (الميدان) والوهم (ما يشيعه الفضاء الالكتروني من أضاليل)؛ يشعر أبناء القطاع بأن الجميع ليس فقط تغاضوا عن معاناتهم، وإنما يحاول كل منهم توظيفها في خدمة أغراضه ومراميه.