Nov 15, 2024
تونس بعد الانتخابات: لا تغيير في المشهد - صلاح الدين الجورشي
صلاح الدين الجورشي
صحفي ومحلل سياسي

الرجاء الضغط هنا لنبذة والمنشورات
صلاح الدين الجورشي

تونس بعد الانتخابات: لا تغيير في المشهد - صلاح الدين الجورشي


قبل أكثر من سنة من تحديد موعد الانتخابات الرئاسية التونسية التي جرت يوم الأحد 6 أكتوبر، تعهد الرئيس قيس سعيد بألا يسلم موقع القيادة لغير الوطنيين. والمقصود بذلك كل الذين سبق لهم أن ساهموا بصورة ما في السلطة خلال السنوات التي تلت الثورة، وهؤلاء غير مسموح لهم بأن يعودوا إلى الحكم من جديد. بمعنى آخر يجب أن تختفي المعارضة من البلاد.



لم يكن هذا القرار مجرد تهديد لفظي، وإنما تم الشروع مباشرة في تحويله إلى خطة مترابطة الحلقات والمراحل، انتهت بتجريد الأحزاب من كل أسلحتها، وتحويلها إلى أشلاء عاجزة عن المقاومة. واعتمدت هذه الخطة على ثلاثة مفاتيح.



كان تعديل القانون الانتخابي هو المفتاح الأول للتحكم في المسار. والهدف من التعديل هو تضييق الخناق على المرشحين الذين ينوون الدخول في السباق الرئاسي. فبعد حذف التمويل العمومي في مرحلة أولى، تم على عجل دعوة البرلمان للتصويت على عدد من الفصول الجديدة بأغلبية مريحة نظرا لكون البرلمان الحالي يتشكل أساسا من نواب موالين للرئيس قيس سعيد. ولعل أخطر فصول التعديل تتعلق بسحب صلاحيات المحكمة الإدارية المتعلق بالنظر في الخلافات الانتخابية وإحالتها على محكمة الاستئناف، وذلك في عز الحملة الانتخابية وقبل أسبوعين على موعد الاقتراح. وتم ذلك ردا على الأحكام التي صدرت عن المحكمة الإدارية التي حكمت لصالح ثلاث مرشحين إلى السباق الانتخابي بعد أن أقصتهم " الهيئة العليا المستقلة للانتخابات"، التي سبق أن عينها رئيس الدولة. كما أن هذه المحكمة كانت تتهيأ للنظر في الطعون التي سيقدمها المرشحون للإنتخابات، وفي حال قيامها بإنصاف هؤلاء ستجد نفسها مضطرة للحكم ببطلان النتائج، والدعوة إلى تنظيم انتخابات جديدة. وحتى يقع قطع الطريق أمام أي سيناريو من هذا القبيل الذي من شأنه أن يضع الدولة في مواجهة مع مؤسساتها، تمت ممارسة ضغوط عديدة بالاعتماد على البرلمان من أجل تعديل القانون، وإبعاد المرشحين غير المرغوب فيهم، وأخيرا تنظيم انتخابات وفق الأجندة الرئاسية.



المفتاح الثاني الذي تم استعماله للتحكم في المسار يتعلق بالهيأة المكلفة بتنظيم العملية الانتخابية. لقد أدخلت على الهيئة تغييرات واسعة مقارنة بما كانت عليه بعد الثورة. لقد لعبت دورا رئيسيا على الصعيدين الإداري والسياسي، وأسهمت بشكل فعال في الحد من عدد المرشحين الذي تراجع من حوالي مائة عبروا في البداية عن نيتهم في الترشح إلى حدود 17 مرشحا. ثم قامت بتحجيم العدد إلى ثلاث فقط. واستعملت الهيئة في ذلك وسائل متعددة، منها الإدارية والقضائية، وهو ما أدى بالعديد من المرشحين إلى وضعهم بالسجون، بمن فيهم عياشي الزمال الذي قبل ترشحه مع رئيس حركة الشعب ووضع اسمه مع قيس سعيد في ورقة التصويت الرسمية. لكن بحجة اتهامه بتزوير بعض أسماء الداعمين له للترشح، تم مقاضاته بتهم تصل عقوبتها الى عشرين سنة على الأقل سجنا. وبذلك انتهى المسار الانتخابي بنجاح ساحق للمرشح المنتهية ولايته قيس سعيد الذي تمتع بدورة ثانية بعد حصوله على 90،96 % من الأصوات، رغم أن نسبة الإقبال لم تتجاوز 28% وهي من النسب الضعيفة على المستوى العالمي.



المفتاح الثالث الذي لا يقل أهمية عن الجوانب السابقة يتعلق بوضع المعارضة. وهو وضع معقد وشاذ. فالأحزاب لم تكن في مستوى الحدث، إذ بالإضافة إلى اختلافاتها السابقة انقسمت حول الموقف من المشاركة في الانتخابات بين الداعي إلى مقاطعتها وبين المتحمس إلى المشاركة فيها ومحاولة إزاحة قيس سعيد عن طريق الصندوق. بلغ الحماس بالمدافعين عن المشاركة إلى الحد الذي جعل أعضاء حملة المرشح المنتهية ولايته يصابون بالقلق خوفا من توحد المعارضة حول أحد المرشحين المنافسين لسعيد، وأن يتم استغلال عزوف الناخبين وصعوبة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، مما قد يعدل من موازين القوى ويخلق ظروفا ملائمة لكي تحدث مفاجأة غير سارة. لهذا تحركت الماكينة الانتخابية للرئيس المرشح، وتمت تعبئة الناخبين خلال الساعات الأخيرة من يوم الاقتراع. هذا الارتجال أظهر المعارضة في صورة سيئة، مما عمق المسافة بينها وبين عموم التونسيين، وأصبحت مطالبة بممارسة نقد جذري وشامل لأدائها خلال السنوات التي تلت الثورة.



تتسم المرحلة الحالية بالغموض وانتظار ما ستكشف عن الأيام خلال الفترة القادمة. فأصوات المعارضة تكاد لا تسمع. الجميع تقريبا يتابع ما يجري عن بعد في انتظار الفرصة المواتية للتعبير عن موقف لن يكون مسموعا في هذه الأجواء القلقة. والجسور تكاد تكون مقطوعة بين الأحزاب التي يمر بعضها بحالة تشبه الموت السريري.



تتجه الأنظار حاليا نحو الوضع الاقتصادي الذي يزداد هشاشة يوما بعد يوم. فالبنك الدولي خفض توقعاته فيما يتعلق بنسبة النمو التي قدرها حاليا في حدود 1،2 بالمائة. وهو ما يعكس مستوى تراجع عجلة الانتاج في البلاد. وإذ يتوقع البعض أن البلاد مقدمة على انفجار اجتماعي عفوي من شأنه أن يخلط الأوراق خلال المرحلة القادمة، إلا أن الرئيس سعيد كذّب في خطابه الذي ألقاه بعد أدائه اليمين الدستورية، تلك التوقعات والتقديرات، وسفّه المؤسسات الدولية التي أجمعت حول تقدير العالية التي يمر بها الاقتصاد التونسي، ووصفها بـ" المؤسسات الاستعمارية ". وبناء على ذلك بقي الرئيس التونسي محافظا على أطروحته السابقة القائمة على أن البلاد تخوض "حرب تحرير ضد قوى الاستعمار".



أما في ما يتعلق بملف الحريات، لا توجد حتى الآن مؤشرات عن احتمال حصول قدر ولو بسيط من الانفراج والتخفيف من القيود التي فرضت خلال السنوات الثلاث الماضية، خاصة على حرية التعبير والتنظيم. فرغم أن شقيق الرئيس سعيد والمكلف بإدارة حملته الانتخابية قد أشار في تصريح إلى احتمال مراجعة المرسوم عدد 54 المتعلق بمكافحة الجرائم المتصلة بانظمة المعلومات والاتصالا،  وهو المرسوم الذي أجمعت منظمات المجتمع المدني على إدانته، وعلى رأسها نقابة الصحافيين، إلا أن الحال لا يزال على ما هو عليه. أما بالنسبة لملف المساجين السياسيين فقد بقي من القضايا المسكوت عنها رسميا، وتعتبر من المسائل التي تعتبرها مؤسسة الرئاسة شديدة الخطورة، وتصنفها ضمن المخاطر التي تهدد الأمن القومي. ولا توجد في الأفق مبادرة سياسية لتحريك هذا الملف، خاصة بعد أن أعاد قيس سعيد تأكيده قبل أيام على أن "لا مكان للخونة والعملاء ولمن يرتمي في أحضان دوائر الاستعمار.".. ووصفهم " بالحشرات السامة والأفاعي". لهذا يستمر العشرات من قادة الأحزاب ونشطاء المجتمع المدني والصحافيين، يقبعون داخل السجون رغم تجاوز الآجال القانونية، كما تتواصل عمليات الاعتقال  لنشطاء وغيرهم بتهم متعددة.



بناء على ذلك، لا أمل حتى الآن في تغيير المشهد السياسي في تونس.   

 


صلاح الدين الجورشي 

احدث المنشورات
Nov 24, 2024
منطقة مشتعلة - العدد ٥٩
Nov 23, 2024
منطقة مشتعلة - العدد ٥٨