Sep 14, 2020
توسع الحركات الاحتجاجية في المنطقة العربية وتقلص الحيز المدني
مي مكي
باحثة

الرجاء الضغط هنا لنبذة والمنشورات
مي مكي

يشهد العالم منذ مدة اتجاهاً نحو تراجع الحريات والمساحات المتاحة لعمل منظمات المجتمع المدني، خاصة في المنطقة العربية. ويشمل ذلك زيادة القيود المفروضة على منظمات المجتمع المدني في القانون والممارسة، لجهة الحق في التسجيل والعمل والوصول الى الموارد، بالإضافة الى الحد من حرية الرأي والتعبير والصحافة المستقلة، وملاحقة الناشطين والأفراد على خلفية إبداء رأيهم. ويصل هذا التضييق الى حد انتهاك الحق في الحياة والتنقل بحرية والاعتداء الجسدي والتعذيب والإخفاء والإعتقال، وغيرها من انتهاكات جسيمة نشهدها في المنطقة العربية تحديداً، وخارجها. إن هذه المساحة المتاحة لعمل منظمات المجتمع المدني، والتي أصبحت تدعى بـ"الفضاء المدني"، هي الأساس الذي يبنى عليه أي نظام ديمقراطي تشاركي، والأساس في قيام أي شراكة تنموية. إن تراجعها هو جزء من التراجع الذي يطال حقوق الانسان عامة، والأزمة التي تعاني منها الديمقراطية، في سياق عالمي يشوبه صعود لتيارات شعبوية ويمينية متطرفة وشبه فاشية. فالقمع الذي تمارسه الأنظمة بحق المجتمع المدني والناشطين والأصوات المعارضة ما هو إلا محاولة لطمس المساءلة والمحاسبة والنقد. ويلعب التحالف مع رأس المال دوراً كبيرا في تعزيز هذا الاتجاه، حيث تتعرض الفئات المهمشة لأبشع أنواع القمع عند مطالبتها بحقوقها بالمساواة والعيش الكريم.
 
إن الدفاع عن الفضاء المدني وتوثيق الانتهاكات التي يتعرض لها ومواكبة المجتمع المدني في العالم العربي وتعزيز دوره في التأثير في السياسات هو في صلب استراتيجية الشبكة. لذلك، الى جانب المسارات التي تنخرط فيها الشبكة والتي تساهم في تعزيز دور المجتمع المدني وتعزيز حقوق الانسان والشراكات التنموية، أطلقت الشبكة مرصداً لمواكبة أخبار الفضاء المدني وذلك بهدف رفع الصوت وتسليط الضوء على الانتهاكات التي يتعرض لها المجتمع المدني في المنطقة. كما تحتوي المنصة على تقارير تحليلية، إقليمية ووطنية، كمساهمة في فهم وضع الفضاء المدني والحركات الاجتماعية والسياقات الوطنية، وكمادة يمكن البناء عليها في تطوير خططنا واستراتيجياتنا. سعت التقارير هذا العام، وقد تناولت عشرة بلدان عربية هي لبنان، الأردن، العراق، البحرين، مصر، السودان، الجزائر، تونس، المغرب، موريتانيا، الى تحليل الفضاء المدني في المنطقة العربية في ضوء المستجدات الأخيرة التي شهدتها المنطقة، وأهمها موجات الاحتجاج على أنواعها، وحتى الحركات الأكثر محدودية.
 
ميزت الورقة الإقليمية بين منظمات المجتمع المدني، التي تكون مؤسسات مهيكلة يستمر نشاطها لوقت طويل، والحملات، التي يكون مداها الزمني قصير، وتكون منظمة بحسب متطلباتها، ثم الحركات الاجتماعية والشعبية التي تتميز بمشاركة واسعة عدديا، في حين يتفاوت مداها الزمني ودرجة تنظيمها، إذ ان الحركات الاجتماعية تكون مهيكلة أكثر وتسعى للاستمرار بشكل أطول. ثم حددت الورقة أربعة عوامل تترك تأثيرات على الفضاء المدني، وهي المستوى الكلي (المستوى العالمي والوطني، أي طبيعة النظام السياسي)، ثم الخصائص الاجتماعية والتاريخية، والخصائص التشريعية والقانونية، وأخيرا الفضاء المدني نفسه، أي الخبرات والتجارب التي راكمها عبر التاريخ. تعمقت الورقة في تجربة المغرب، كحالة حركات اجتماعية في مناخ من الحرية النسبية، وأخذت الحركة النسوية وحراك المقاطعة كمثالين. ثم بحثت الورقة في تجربة تونس كمثال على مجتمع مدني مهيكل لعب دورا سياسيا بامتياز. وخصصت الورقة قسما لما بات يعرف بالموجة الثانية للربيع العربي، حيث شهدنا موجات احتجاجية في كل من لبنان والعراق والجزائر والسودان، وعرجت الورقة على كل من هذه التجارب. أخيرا، وضعت الورقة في شكل مكثف أهم الاتجاهات التي يمكن استخلاصها من الأوراق الوطنية في ما خص وسائل وآليات تقييد الفضاء المدني. يعزى تراجع البيئة التمكينية للمجتمع المدني في المنطقة العربية الى أسباب كثيرة، منها ما يتعلق بطبيعة النظام السياسي. تاريخيا، تراوحت بيئة المجتمع المدني بين التقييد والمنع في الدول التي عاشت فترات الحكم العسكري، وبشكل عام في ظل الأنظمة الشمولية. وفي حين يغلب الطابع العقائدي على خطاب الأنظمة الشمولية عادة، فالطابع الأمني والعسكري يغلب في الأنظمة ذات الطابع الديكتاتوري والاستبدادي، لكن النموذجين لا يختلفان في تعاطيهما مع المجتمع المدني. ومعظم الدول العربية تتراوح وضعيتها بين التقييد والتقييد النسبي، وهي وضعية تتيح بعض المساحة لعمل منظمات المجتمع المدني، بحيث تتراخى الدول في بعض الأحيان تحت ضغط دولي مثلا، أو تستهدف نوعا معينا من الأنشطة أو فئة معينة من المنظمات دون أخرى. وأخيرا، هناك وضعية من الحرية الجزئية او النسبية، تتسم بها الأقلية من بلدان المنطقة. ولطالما استخدمت هذه الأنظمة ذرائع متعددة لشرعنة التضييق على المجتمع المدني، مثل الشرعية الوطنية او الثورية، او وجود أولويات أخرى في ظل صراعات قومية، أو تخوين المجتمع المدني واتهامه أنه غطاء لأجندات إسلامية أو يسارية، الخ. ومؤخرا، أصبحت ذريعة مكافحة الإرهاب أساسية في الحد من حرية عمل المجتمع المدني ومنعه من الوصول الى الموارد. وقد تطرقت الورقة الاقليمية الى كل من هذه الأسباب والذرائع.
 
وقد تعمقت الأوراق الوطنية في كل من السياقات الوطنية. بحثت ورقة لبنان في موجة الاحتجاجات الحالية، واضعة إياها في سياق تاريخي للنشاط المدني والسياسي. ثم اعتمدت "على نهج مفاهيمي ثلاثي يركز على تحليل التفاعلات والديناميكيات بين الجهات الفاعلة، والاستراتيجيات التي يستخدمونها: الإقناع والإكراه والمكافأة،" لتحليل موجة الاحتجاجات التي شهدها لبنان مؤخرا. وقد بحث تقرير مصر في القيود التي تفرض اليوم على المجتمع المدني من الناحية القانونية، مستعرضاً أهم تطورات المجتمع المدني منذ فترة ما قبل الثورة حتى اليوم. "فقد كانت فترة انفتاح ما بعد الثورة في مصر فترة نموذجية لنمو المجتمع المدني كميا ونوعيا، إذ طور المجتمع آليات جديدة للتعبير عن احتياجاته وحلولا لها. ثم أعقب ذلك فترة من الركود في ظل قيود قانونية وقضائية وسياسية من قبل الدولة والأعلام، ولا يزال المجتمع يطور آلياته للدفاع عن بقائه رغم ظروف الحرب على الإرهاب واستغلال النظام السياسي لها." وبحث التقرير في آليات البقاء هذه، مستخلصاً خطوات أبعد يمكن للمجتمع المدني أن يأخذ بها في هذه المرحلة. أما تقرير السودان، فقد ركز بشكل كبير على الحراك الذي أطاح بالبشير عام 2019، متعمقا في عرض مختلف المكونات التي شاركت بالحراك، والتحديات التي يواجهها المجتمع المدني في الفترة الانتقالية، وكيف يؤثر ذلك على الفضاء المدني. انطلق تقرير المغرب من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي يشهدها المغرب، والحراكات التي شهدها مؤخرا. ثم بحث التقرير في ضوء هذه التطورات البيئة التمكينية للمجتمع المدني، من حيث القانون والممارسة، وإشراك منظمات المجتمع المدني في الجهود التنموية الوطنية، وأخيرا من حيث دعم المؤسسات الإقليمية والدولية لها. أخيرا، يتعمق التقرير في الأساليب التي استخدمتها الحركات الاجتماعية والشعبية في المغرب والاستراتيجيات التي واجهت بها التضييق على الفضاء المدني. أما تقرير الجزائر، فقد بحث في الحراك الأخير الذي هز النظام القديم في الجزائر وأطاح ببو تفليقة، وأنتج وجوها جديدة في العمل المدني والسياسي. "ففي هذا السياق الثوري الذي لم يسبق له مثيل، تراهن السلطة الفعلية لإعادة إنتاج نفسها بأسرع وقت ممكن من خلال تغيير واجهتها المدنية وإعادة توزيع بعض الأوراق [...] في حين أن الحراك الشعبي يواصل في مقاومته لكل محاولات إعادة إنتاج النظام لنفسه، فإلى أين يتجه الحراك الشعبي؟ وما هو دور المجتمع المدني والقوى الفاعلة في الحراك لتفادي انهيار الوضع في البلاد [...]؟" ومن هنا ينطلق التقرير ليبحث في بيئة عمل المجتمع المدني ويتناولها بمختلف جوانبها. في البحرين، "سارت تطورات الاحداث منذ العام 2011 الى مزيد من التضييق الى أن ضعف أداء مؤسسات المجتمع المدني ثم انتقلت المرحلة الى اضطرار بعض الجمعيات لتجميد أنشطتها وأخرى تم حلٌها من وزارة العمل والتنمية الاجتماعية لأسباب عدة." يبحث التقرير في الواقع القانوني لبيئة المجتمع المدني والتضييق عليها في الممارسة، ويفصل مقترحات الحكومة من ناحية، والمجتمع المدني من ناحية ثانية. كما يبحث التقرير في تكوين المجتمع المدني والتحديات التي يواجهها اليوم. وقد اهتم تقرير موريتانيا "بتقديم صورة للوضعية المرجعية للمجتمع المدني الموريتاني من حيث: (ا) المجال المتاح لإجراء حوار حول سياسات التنمية الوطنية؛ (ب) الفعالية الإنمائية لمنظمات المجتمع المدني؛ (ج) دعم المؤسسات الإقليمية والدولية للبيئة التمكينية لمنظمات المجتمع المدني؛ (د) البيئة القانونية والتنظيمية." كما يتطرق التقرير الى شرح اهم الجهات الفاعلة في المجتمع المدني الموريتاني وأهم القضايا التي تهتم بها والتحديات التي تواجهها. ويحلل تقرير الأردن "الوضع الحالي لمنظمات المجتمع المدني في الأردن ويتناول بشكل أساسي أربع قضايا: 1) تقديم نظرة عامة على وضع حركات المجتمع المدني في الأردن، مع التركيز على السنوات الأخيرة؛ 2) تحليل الإطار القانوني، بشكل مختصر، لعمل منظمات المجتمع المدني؛ 3) مناقشة تأثير المنظمات الدولية والمحلية على واقع منظمات المجتمع المدني؛ 4) إيجاد استراتيجيات لزيادة فعالية منظمات المجتمع المدني لمواجهة تحدي تقليص مساحة عمل هذه المنظمات." أما تقرير تونس، فقد بحث في الحركات الاجتماعية في تونس ودور المجتمع المدني والبيئة المؤثرة فيه، مشيرا الى أنه "أصبحت الحركات الاجتماعية عاملا فاعلا في الحركة المدنية [...]. وقد تضاعفت حيوية الحركات الاجتماعية بعد الثورة نتيجة تصدع المنظومة القديمة وعدم اكتمال بناء المنظومة الجديدة والبديلة. فالهشاشة الاقتصادية والاجتماعية هي السمة البارزة لمرحلة ما بعد الثورة. وهذه الهشاشة هي التي تدفع نحو القول بأنه بناء على المؤشرات العديدة التي تمت الإشارة إليها في هذا التقرير فإن الحركات الاجتماعية مرشحة لكي تستمر بأشكال وأحجام متعددة خلال السنة الموالية 2020. وستبقى مصاحبة لمرحلة الانتقال الديمقراطي المتواصلة في تونس، وهي مرحلة تتسم بالصعوبة والهشاشة." وأخيرا، بحث تقرير العراق في الاحتجاجات الأخيرة، كامتداد لعمل مدني تراكمي، وبحث في أدوار مختلف الفاعلين المدنيين. كما تطرق الى الانتهاكات التي تعرض لها المجتمع المدني في العراق، وقد بلغت ذروتها خلال حملة القمع التي شنتها السلطة ضد الحراك.
 
إن هذه الأوراق الوطنية بمعظمها انطلقت من التطورات التي شهدها المجتمع المدني على الأرض، خاصة في الدول التي شهدت موجة من الاحتجاجات غير المسبوقة، ووضعتها في سياقها الاجتماعي والتاريخي والسياسي. ثم ناقشت أدوار مختلف مكونات المجتمع المدني، والتحديات التي يواجهها المجتمع المدني، خاصة البيئة التقييدية التي يعيش في ظلها. وتسعى الشبكة الى تطوير هذا المسار من خلال التشبيك بين مختلف المنظمات والباحثين العاملين على الفضاء المدني، وضبط الاطار المفاهيمي الذي تستخدمه في عملها على الفضاء المدني. كما تسعى الى تطوير المرصد واستخداماته في المناصرة.
 
مي مكي
 


احدث المنشورات
Dec 07, 2024
النشرة الشهرية لشهر تشرين الثاني/نوفمبر 2024
Dec 03, 2024
الديون السيادية في المنطقة العربية: بين استدامتها وعدالة السياسات الضريبية - أحمد محمد عوض