100%

Apr 06, 2025
تمويل التنمية بين التراجع العالمي والتطلعات العادلة - أحمد عوض

تمويل التنمية بين التراجع العالمي والتطلعات العادلة - أحمد عوض

 

تشكل قضية تمويل التنمية اليوم محورا رئيسيا في النقاشات الدولية، لاسيما مع اقتراب موعد انعقاد المؤتمر الدولي الرابع لتمويل التنمية، والمقرر في حزيران/يونيو المقبل في مدينة إشبيلية الإسبانية. ويأتي هذا المؤتمر في مرحلة حرجة تمر بها منظومة تمويل التنمية عالميا، وسط تراجع ملحوظ في التزامات الدول الغنية وتحوّل مقلق في آليات تقديم الدعم، من المساعدات والمنح إلى القروض والتجارة، مما يهدد مستقبل التنمية في دول الجنوب.



إن الاجتماعات التحضيرية التي جرت في شباط/فبراير الماضي في مقر الأمم المتحدة بنيويورك شكّلت محطة مفصلية لإعادة تقييم السياسات المالية والتمويلية القائمة، وتوجيه مسار النقاش العالمي نحو حلول عادلة وأكثر استدامة. وقد كان لحضور المجتمع المدني، ومن ضمنه شبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية، دور محوري في هذه العملية، إذ حملت هذه الشبكات صوت شعوب الجنوب وتطلعاتها نحو تنمية قائمة على حقوق الإنسان، وشددت على ضرورة احترام التزامات الشمال تجاه الجنوب، خاصة في ضوء تزايد الأزمات الاقتصادية والبيئية والإنسانية.



من أبرز المؤشرات المقلقة التي نوقشت خلال الاجتماعات التحضيرية، التراجع الكبير في حجم المساعدات الإنمائية المقدمة من الدول الغنية، حيث لم تتجاوز 0.35% من الناتج القومي الإجمالي، أي ما يعادل نصف ما التزمت به هذه الدول سابقا بنسبة 0.7%. هذا التراجع لا يعكس فقط خللاً في الالتزام، بل يشكل تهديدا فعليا لمسارات تحقيق أهداف التنمية المستدامة، خصوصا في الدول منخفضة ومتوسطة الدخل. وأعلنت العديد من الدول الغنية عن مراجعتها لسياسات التمويل التي تقوم بها.



ومن جهة أخرى، برزت بقوة مخاوف المجتمع المدني من استخدام التمويل كأداة سياسية للابتزاز، كما في حالة تجميد المساعدات الأمريكية، وهو ما اعتبره تهديدا صارخا للقانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، وضربا لمختلف مبادئ التعاون والتضامن التي يتم الحديث عنها في الخطاب الدولي، في إطار الامم المتحدة وخارجها.


كذلك، تشهد السياسات التمويلية للدول المانحة تحولات جذرية، حيث تتجه بشكل متزايد نحو الإقراض بدلا من المنح. ويُروّج لذلك عبر شعارات مثل "لا للمساعدات، نعم للتجارة"، في محاولة لتجميل الانسحاب من المسؤوليات التاريخية. لكن هذا التحول يحمل في طياته مخاطر كبيرة، أبرزها تعميق مديونية الدول النامية وتقليص حيزها المالي، مما يجعلها أكثر هشاشة وأقل قدرة على تلبية احتياجات شعوبها.



فالقروض لها أثمان ومخاطر كبيرة، إذ تؤدي إلى ارتفاع تكاليف خدمة الدين على حساب الإنفاق على الصحة والتعليم والبنية التحتية. ومع غياب سياسات تعويضية فعالة، تتجه الدول النامية نحو مزيد من الفقر والبطالة وانعدام العدالة الاجتماعية. إن التراجع في التمويل التنموي يشكل تهديدا وجوديا لبرامج الخدمات الأساسية، وخصوصا في البلدان التي تعتمد بشكل كبير على التمويل الخارجي لضمان استمرارية هذه البرامج.



ضمن هذا السياق، كان لشبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية دور فاعل في إثراء النقاشات والمساهمة في تعديل مسودة وثيقة نتائج المؤتمر الدولي الرابع. وقد تم إدراج عدد من التوصيات والمطالب التي تقدمت بها الشبكة، والتي هدفت إلى إعادة توجيه السياسات التنموية نحو العدالة والحقوق.



اذ تم التأكيد على ضرورة إصلاح الهيكل المالي والاقتصادي الدولي، وجعله أكثر ديمقراطية وعدالة، بما يعزز مرونته في مواجهة الأزمات، مع الاعتراف بالدور المحوري للأمم المتحدة في الحوكمة الاقتصادية العالمية.



كذلك، جرى التشديد على معالجة أوجه عدم المساواة داخل البلدان وفيما بينها، والتأكيد على أهمية إدماج المجتمعات في عملية التنمية، من خلال سياسات تقوم على حقوق الإنسان وتستند إلى مبدأ المشاركة الفعلية لأصحاب الحقوق. الى جانب اصلاح نظم الضرائب بحيث تكون أكثر عدالة بما يضمن توفير موارد محلية للدول تمكّنها من الانفاق على اهداف التنمية، بحيث تعتمد أكثر على ضرائب الدخل التصاعدية، ومحاربة التهرّب والتجنّب الضريبي.


كما ركزت على الالتزام الواضح بدعم القطاعات الإنتاجية وخلق فرص عمل لائقة، مع احترام معايير العمل الدولية، وضمان المساواة في الأجور والحقوق النقابية والحماية الاجتماعية، للتأكيد على عكس توجها نحو تنمية شاملة ومستدامة.



وقدمت الشبكة ملاحظات موسعة حول الشروط المطلوبة لمبادرات التمويل المختلط، إذ دعت إلى معايير صارمة تضمن الشفافية والمساءلة، وتحترم حقوق الإنسان، وتراعي مصالح الدول النامية، خصوصًا في القطاعات العامة الحيوية كالصحة والتعليم.



كما تم ايلاء قضية الديون السيادية اهتماما خاصا، التي باتت تمثل عائقا رئيسيا أمام التنمية. فقد أكدت على ضرورة تفعيل آليات فعالة وعادلة لإعادة هيكلة الديون، بطريقة تضمن الحفاظ على الحقوق الاجتماعية والاقتصادية للناس، والقدرة على تمويل الخدمات العامة. وتم تقديم مقترحات لإنشاء لجنة دولية في إطار الأمم المتحدة لتنظيم عمل وكالات التصنيف الائتماني، التي تُتهم بانتهاج معايير غير عادلة بحق دول الجنوب، وتضخيم المخاطر بشكل يخدم مصالح المستثمرين على حساب التنمية.



المؤتمر القادم في إشبيلية يشكل فرصة مفصلية لإعادة رسم خارطة تمويل التنمية. فلا يمكن بناء مستقبل تنموي عادل بدون التزام حقيقي من الدول الغنية بمسؤولياتها التاريخية، ولا يمكن السماح بتحويل المساعدات إلى أدوات ضغط سياسي أو رافعة لمصالح جيوسياسية.



يتطلب الأمر اليوم قرارات واضحة لضمان استمرارية المساعدات، تعزيز فعاليتها، تمكين الدول النامية من السيطرة على مسارات تنميتها من خلال دعم السياسات المحلية، تعزيز العدالة الضريبية، تقليص الاعتماد على المديونية، وتعزيز الممارسات الديمقراطية والحوكمة، كما أن تحقيق الشراكة الحقيقية بين الشمال والجنوب لا يكون عبر فرض شروط، بل من خلال الحوار والتعاون المبني على المصلحة المشتركة واحترام السيادة الوطنية.



إن العدالة في تمويل التنمية ليست ترفا سياسيا، بل شرطا أساسيا لبقاء الإنسانية وكرامة الإنسان. وما لم يتحول الخطاب الدولي إلى التزامات قابلة للتنفيذ، فإن مستقبل التنمية سيظل مرهونا بالتقلبات السياسية والاقتصادية. ولعل الدور الفاعل الذي تلعبه منظمات المجتمع المدني العالمية وشبكاتها في مسار تمويل التنمية يشكل نموذجا يُحتذى به في الدفاع عن مصالح شعوب الجنوب، وفي السعي لبناء نظام اقتصادي عالمي أكثر عدالة وإنصافا.



Bottom of Form أحمد عوض



احدث المنشورات
Apr 06, 2025
نحو قيادة محلية للتنمية: اجتماع بانكوك الإقليمي لتحضير المجتمع المدني لأجندة فعالية التعاون الإنمائي 2025
Mar 13, 2025
التقرير السنوي لشبكة المنظمات العربية غير الحكومية للتنمية لعام 2024